شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أطراف الصراع والمتطرفون والجهلاء… كيف تكالبت العوامل على طمس هويّة تعز التاريخيّة؟

أطراف الصراع والمتطرفون والجهلاء… كيف تكالبت العوامل على طمس هويّة تعز التاريخيّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأربعاء 3 أبريل 202406:37 م

سنوياً، يقصد اليمنيون خلال شهر رمضان مساجدهم التاريخية وأبرز الأماكن الدينية والأثرية. فهناك جامع الأشرفية الذي ناهز عمره الـ600 عام، ويعد من أشهر المعالم وسط مدينة تعز القديمة، حيث تُخيِّمُ الروحانيات على المكان. فالأجواء الدينية الممزوجة بالتاريخ تستهوي الصائمين المتعبدين، وتجعل من الأشرفية قِبلةً للأهالي والزائرين، الذين يغتنمون فرصة مضاعفة الأجر خلال شهر الصوم.

يقول عبدالله أحمد، قيّم المسجد (المسؤول عن إدارته) لرصيف22: "مسجد الأشرفية، معلم من معالم مدينة تعز الأثرية التاريخية القديمة، بناه سابع ملوك الدولة الرسولية، وهو الملك الأشرف إسماعيل بن العباس. من يدخل المسجد يرى عبارة نُقشت على حجر، بأن الذي 'أمر بعمارة هذه المدرسة المباركة مولانا وملكنا السلطان السيد الأجل الملك الأشرف ممهد الدنيا والدين إسماعيل بن العباس بن علي بن داود بن يوسف خلد الله ملكه ونصره'". 

ويضيف: "يصل عمر الجامع إلى 644 عاماً. بدأت عملية بنائه سنة 800 هجرية وافتُتِح سنة 803 هجرية"، مردفاً "الجامع لوحة فنية مكتملة بما يحتويه من كتابة ونقوش موجودة في العقود والقباب تنقل للأجيال فلسفة الأديان بواسطة الزخرفة التي كانت هواية مفضلة لدى ملوك الدولة الرسولية".

 الدولة الرسولية من أطول الدول عمراً في تاريخ اليمن الوسيط إذ استمرت قرنان وثلث قرن، وقد أسسها الملك المنصور، واتخذت الدولة الرسولية من تعز عاصمة لها، وامتد حكمها إلى مكة المكرمة شمالاً. جامع الأشرفية، أحد أهم معالمها الباقية في تعز والذي ارتبط لدى اليمنيين بروحانيات شهر رمضان، تضرر بسبب قذيفة حوثية عام 2018

اشتهر جامع الأشرفية بمئذنتين رشيقتين توأمتي الشكل والحجم والطول، يصل ارتفاع كل منهما إلى 35 متراً، بينهما قبة كبيرة متخمة بزخارفٍ وآياتٍ قرآنية من الداخل، وعلى جانبيها ثماني قباب صغيرة على شكل جناحين. والفن المعماري الذي بُني به هذا المسجد، يرسم لوحة بديعة تنم عن إحساس يمني مرهف في عمل هذه العقود وتشييد العمائر الإسلامية المحتفظة بألوانها الزاهية إلى اليوم.

الدولة الرسولية، تعد من أطول الدول عمراً في تاريخ اليمن الوسيط إذ استمرت قرنان وثلث قرن، وقد أسسها الملك المنصور، وحكمت البلاد منذ سنة 1229 حتى سنة 1454 إذ اتخذت الدولة الرسولية من تعز عاصمة لها، وامتد حكمها إلى مكة المكرمة شمالاً. 

جمع "الأشرفية" منذ تأسيسه بين العلم والعبادة، فقد تكوّن من جزء أساسي واسع سُمي بيت الصلاة، يليه مدرسة الأشرفية، كانت تستخدم لتدريس الأطفال حتى وقت قريب، فيما توجد بالخلف مقبرة ملكية، يرقد فيها السلطان الأشرف، الذي أمر ببناء هذا الجامع، بالإضافة إلى سبعة ملوك حكموا الدولة الرسولية من بعده.

وأُصيب هذا المعلم بقذيفة حوثية في شباط/ فبراير 2018، تسببت بتساقط جزء من شرفة المئذنة الشرقية وغيرها من الأضرار. بوجه عام، تركت الحرب الأهلية المستمرة منذ عام 2014 آثاراً وندوباً واضحة على إحدى منارتي مسجد ومدرسة الأشرفية.

استهداف المعالم الأثرية والدينية

لم تسلم المعالم الدينية والتاريخية من سياسة الطمس والتدمير التي تنتهجها أطراف الصراع في اليمن. فالحرب أنتجت جماعات أكثر تطرفاً، وتنظيمات عقائدية، تبنّت سلسلة تفجيرات بحق معالم دينية، وقباب أثرية، وحتى أضرحة مشايخ الدين.

الزائر لمدينة تعز القديمة اليوم، يجد الدمار الشاهد الأبرز على "حرب المتطرفين"، التي اتخذت من شوارع وأحياء المدينة القديمة ساحةً لها منذ آذار/ مارس 2015. علماً أن تنظيم القاعدة، أحد أبرز التنظيمات المتشددة التي استقر عناصرها والمنخرطون ضمنها في هذه المدينة، حيث مارس مقاتلو التنظيم الكثير من الأعمال التخريبية بحق معالم تاريخية، بحسب شهادات الأهالي.

لفت نائب مدير مكتب الآثار بتعز، أحمد جسار، إلى أن "التطرف الديني مشكلة إذ يعتقد كثير من المنتمين لهذه المجموعات أن الناس سوف تعود لعبادة وتقديس الأولياء، سيّما تلك القباب التي أُتخذت كأضرحة وكان الناس سابقاً يقومون بزيارتها والتبرك بها. لكن في الفترة الحالية لم تعد موجودة، ومع ذلك المتطرفون انتهزوا فترة الحرب لتصفية حساباتهم بتفجير تلك المعالم، خشية أن يعود الناس للعادات التي كانت في السابق.. "وهذا اعتقاد خاطئ لأننا في عصر العلم والتطور؛ ولا يمكن الرجوع إلى الوراء".

قبة الحسينية قبل الترميم

قبة الحسينية قبل الترميم.

قبة الحسينية بعد الترميم تحت إشراف هيئة الآثار

قبة الحسينية بعد الترميم تحت إشراف هيئة الآثار.

قبة عبد الهادي السودي

قبة عبد الهادي السودي بعد التفجير

قبة عبد الهادي السودي بعد التفجير.

قبة "عبد الهادي السودي" واحد من المعالم الدينية الأثرية التي حولّها متطرفون في تعز إلى ركام بعد أن قاموا بتلغيمها وتفجيرها عمداً. كانت قبة السودي تقع ضمن مسجد يحمل نفس الاسم، ناهيك بأنها أكبر القباب الدينية في اليمن، يزيد عمرها عن ستة قرون.

قبة عبد الهادي السودي تعد أكبر القباب الدينية في اليمن، ويزيد عمرها عن ستة قرون، وسميت نسبة للشيخ العلامة محمد بن علي بن محمد السودي، والذي اشتهر بأنه شيخ علم وفقيه ومتصوف وشاعر له مؤلفات، استهدفها تنظيم القاعدة "بهدف محاربة الصوفية"

وأوضح جسار أن قبة عبد الهادي السودي تعد أكبر القباب في اليمن، وسميت نسبة للشيخ العلامة محمد بن علي بن محمد السودي، والذي اشتهر بأنه شيخ علم وفقيه ومتصوف وشاعر له مؤلفات، بالإضافة إلى أنه كان يدرس القرآن وعلومه في المدينة القديمة بتعز، وتوفي الشيخ السودي عام 932 هجرية، وبعد موته بسنوات بُنيت القبة وأُقيم الضريح على قبره وأُضيف جامع للضريح.

أثر الدمار على قبة عبد الهادي السودي

أثر الدمار على قبة عبد الهادي السودي.

وأكد لرصيف22 أن عمر القبة يناهز قرابة 450 عاماً، حيث بُنيت في عصر الدولة العثمانية بأمر من أحد ولاتها، وأنه في العصر القديم كانت الزيارات تقام عند قبة الشيخ، بسبب الاعتقاد بأن "له بركات" بفضل تصوفه وزهده. خفتت وتيرة إحياء المناسبات عند الضريح تدريجياً، حتى تفجيرها على أيدي بعض المتطرفين.

وقال أحد سكان المدينة لرصيف22، مفضّلاً عدم ذكر اسمه، إن التنظيم تعمّد تفجير قبة السودي "بهدف محاربة الصوفية"، لافتاً إلى أنه في سنوات ما قبل الحرب، كان كثير من الناس يتوافدون لزيارة الضريح، وكان الحي يُحيي احتفالات صوفية وشعبية تستمر لأكثر من يوم. تعتقد الجماعات المتطرفة أن هذه الطقوس "مخالفة للإسلام"، وفق تفسيرهم للشريعة.

تبدو قبة السودي اليوم عبارة عن ركام من الأحجار، بينما استحال ضريح الصوفية مقبرة جماعية، بعد أن جرت تسويته بمقبرة أخرى تقع خلفه ببضعة أمتار.

قبة الشبزي

موقع قبة الشبزي بعد التفجير والإزالة

موقع قبة الشبزي بعد التفجير والإزالة.

وجسّدت المساجد الصراع الطائفي في اليمن، بحسب جسار، الذي أوضح أن استراحة المؤيد، الشهيرة بـ"قبة الشبزي" إحدى المعالم التي دمرها المتطرفون عام 2019. تنسب القبة إلى معلم يهودي يمني شهير يُدعى "موري شالوم شابازي" ويُعتقد أنها تعود للقرن السابع عشر.

قاهرة تعز

صورة جوية لقلعة قاهرة تعز

صورة جوية لقلعة قاهرة تعز.

في الوقت الذي تحوّلت فيه بعض الأماكن التاريخية إلى بقايا أطلال، ما تزال أخرى تصارع من أجل البقاء. "قلعة القاهرة"، الواقعة في قلب مدينة تعز، ثالثة كبريات مدن اليمن، ظلت متماسكة مئات السنين، تُشّكل قبلة سياحية، ومقصداً للسياح الأجانب، ومتنفساً فريداً للزائرين.

كان هذا الحصن يقترب من تصنيف منظمة اليونسكو كأحد المواقع الأثرية العالمية، وفقاً لمختصين. لكن فرحة المدينة لم تكتمل بفعل الحرب الأهلية، واستهداف جماعة الحوثيين المزار السياحي وتحويله إلى ثكنة عسكرية ومنبراً للخطابة في مقاتليها، الأمر الذي جعلها هدفاً مباشراً لطيران قوات التحالف العربي.

فجر 11 أيار/ مايو 2015، استهدفت مقاتلات التحالف العربي "قلعة القاهرة" بسلسلة من الغارات الجوية، توزّعت على الأجزاء العليا منها، قيل حينذاك إنها دمرت مواقع الحوثيين  إضافة إلى أسلحة متوسطة، ومخازن ذخيرة كانت داخلها.

صورة قريبة توضح الدمار في قلعة القاهرة

صورة قريبة توضح الدمار في قلعة القاهرة.

أما الهيئة اليمنية للآثار والمتاحف، فقالت إن القصف الجوي ألحق بالقلعة ضرراً واسعاً، بسبب تدمير قمة الحصن (القصر) إضافة إلى "دار الكتاب" الذي كان يعد متحفاً داخل القلعة، وكان يضم عدداً كبيراً من القطع واللقى والمقتنيات الأثرية التي صارت اليوم مدفونة تحت الركام، ناهيك عن الأضرار التي تبدو على الجدران والسواقي والبراك والمخازن.

وكثيرة هي التقارير التي وثقت المعالم الثقافية والأثرية التي تعرضت لدمار واسع من قبل أطراف الصراع المختلفة في اليمن. أفادت منظمة "سام" للحقوق والحريات، ومقرها في جنيف، بتعرض قلعة القاهرة للتدمير الجزئي نتيجة القصف الجوي، واتخاذها مقرات عسكرية من قبل الأطراف المتحاربة.

الحرب وأسباب أخرى

"لا يخفى حجم الدمار والخراب الذي طال قطاع الآثار في محافظة تعز، إذ لا يكاد يوجد معلم أثري أو ديني يخلو من الأضرار والدمار" بحسب أحمد جسار الذي شدد على وجود عدة عوامل ساهمت في تدمير هذه المعالم التاريخية، بينها الحرب والقصف كسبب مباشر، والتطرف الديني وسيطرة الجماعات المتشددة على مناطق واسعة، وكذلك بسبب "المؤسسات الخيرية" التي كانت تهدف إلى ترميم أو تطوير هذه المعالم، فخرّبتها عوضاً عن ذلك. تمسّك جسار بأنه ما من محافظة في اليمن نالها هذا القدر من تخريب القطاع الأثري مثل محافظة تعز.

ولفت جسار إلى أن أسباب اتخاذ أطراف الحرب من تلك المعالم ثكنات عسكرية، أو إقامة المعسكرات والتجمعات العسكرية قربها أمر مخالف للقانون. "كانت كتائب أبو العباس في قلب مدينة تعز القديمة وحولها عدة معالم أثرية، وحتى اليوم يقع المتحف الوطني بالقرب من إدارة الأمن ونادي الضباط.. هذه المسائل ساهمت في دمار الآثار أكثر وأكثر"، نوّه.

مظاهر الدمار بالمتحف الوطني في تعز

مظاهر الدمار بالمتحف الوطني في تعز.

"'قلعة القاهرة' أُتخذت ثكنة عسكرية من قبل الحوثي، وكان القصف ينطلق منها، وكذلك 'حصن العروس' في جبل صبر كان موقعاً أثرياً وجرى اتخاذه ثكنة عسكرية… هذا الأمر مخالف لقانون الآثار، الذي يمنع قرب الوحدات العسكرية من القلاع أو المعالم الأثرية"

المتحف الوطني قبل الترميم

المتحف الوطني قبل الترميم.

وأردف بأن "'قلعة القاهرة' أُتخذت ثكنة عسكرية من قبل الحوثي، وكان القصف ينطلق منها، وكذلك 'حصن العروس' في جبل صبر كان موقع أثري وجرى اتخاذه ثكنة عسكرية… هذا الأمر مخالف لقانون الآثار، الذي يمنع قرب الوحدات العسكرية من القلاع أو المعالم الأثرية"، مستطرداً "نحن في اليمن نعاني نقص الوعي بأهمية التراث والمعالم التاريخية في الدولة وفي أفراد المجتمع، فلا يتم تطبيق القانون، ولا يتم الحفاظ على الهوية التاريخية والحضارية للبلد بشكل عام".

وختم بالتنديد بقيام بعض المؤسسات الخيرية بتنفيذ أعمال ترميم دون الرجوع إلى السلطة الأثرية المخولة بأمور الترميم وهي مكتب الآثار في محافظة تعز، تحت مبرر ترميم مساجد أثرية، لكن في الواقع هذه الترميمات تتسبب بطمس المعايير الأثرية دون قصد أو وعي، وهذا ما حدث في جامع "المظفر" من طمس للزخارف والكتابات الأثرية بذريعة تبييض المسجد وإضافة مواد كيميائية لا تدخل ضمن المواد المسموح باستخدامها في الترميمات الأثرية، الأمر الذي أدى لطمس تلك المعالم وإخراج المسجد من قائمة التراث الوطني. تكرر الأمر في المدرسة الأتابكية، المعلم الوحيد المتبقي من عصر الدولة الأيوبية، حيث قامت جمعية خيرية ببناء جامع حديث معاصر داخل مبنى المدرسة بعد ردم البراك الأثرية بذريعة أن يخدم المسجد المنطقة، في فعل مخالف للقانون وللمعايير الأثرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image