كل المسألة بدأت بمنشورٍ خلاق على فيسبوك، كان سؤالاً طرحه لبيب كوني: هل هناك طريقة آمنة تسمح برمي شفرات الحلاقة في القمامة دون أن تسبب جرح أيدي الأطفال الذين سيبحثون عن الطعام فيها لاحقاً؟ جاءه الرد سريعاً بأن هناك حلولاً ممكنة ويمكن العمل عليها إن شاء.
بعد شهرين من هذا المنشور الخلاق، أعلن كل من لبيب كوني ولامع وردي مبادرة لتوزيع 2000 غلاف كاوتشوكي لشفرات الحلاقة تضاف إليها عند رميها في القمامة، وهكذا نضمن عدم مقاطعتها لطفولة أبناء مدينتنا الأحبة إذا اختاروا أن يعيشوها بين أكوام القمامة.
استرعت هذه المبادرة الكثير من الانتباه بسبب شعورٍ عام داخل الجميع أنها تعالج مشكلة حقيقية، وأنها تسعى لإطفاء الشمس بدلاً من تغطيتها بأصابعنا.
توالت عقود الرعاية والتمويل على المبادرة التي صار اسمها "قمامتي آمنة"، ووصل عدد الأغلفة الكاوتشوكية التي وزعت على سكان المدينة وضواحيها إلى نحو نصف مليون، نمو هائل في حجم المبادرة وأثرها حصلا في أقل من ستة أشهر.
امتدت هذه المبادرة لتصبح أكثر شمولاً لاحقاً، فبعد حصولها على تمويل لإجراء أبحاث استغرقت ستة أشهر توصلت في النهاية إلى أن أكبر تجمع للقمامة وكذلك المشردين الأحبة الذين يبحثون في عن الطعام فيها وتبحث المبادرة عنهم هو: مكبات القمامة.
وبدأ العمل الحثيث إثر ذلك على تحسين مكبات القمامة وتحويلها إلى بيئة صديقة للطفل المشرد. آلاف الأيدي شاركت في حملة البحث عن الشفرات العارية والزجاج وتغطيتها بالكاوتشوك، إضافة لحل مشكلة احتراق الأطفال بسبب تزامن بحثهم عن الطعام مع مواعيد إحراق القمامة التي يبحثون فيها.
أصبح هناك متطوعون على مدار الساعة في شتى مكبات القمامة لتنظيم نوبات العمل بين البلدية والأطفال، إضافة لتوزيع سترات مضيئة على الأطفال ليلبسوها أثناء ارتياد المكبات، وبالتالي سهولة ملاحظتهم قبل البدء بحرق القمامة.
بدأ العمل الحثيث على تحسين مكبات القمامة وتحويلها إلى بيئة صديقة للطفل المشرد، فلا يجرج يده بشفراة أو زجاجة!
"الهدف الأساسي من المبادرة هو جعل التشرد تجربة ممتعة".. هذه المشهدية الساخرة تلخص الكثير مما يدور حولنا
في البداية تم اختيار بعض الأطفال المشردين وتحميمهم وتكليفهم بمهمة تنظيم النوبات، ولكن "قمامتي آمنة" تراجعت عن ذلك، بعد انتقادات وجهت لها من قبل اليونيسف ومنظمة العمل الدولية وصفت هذا السلوك بأنه "عمالة أطفال"، وكذلك الانتقادات الموجهة لها من بلدية المدينة بسبب "حتمية تحيز الطفل المشرد للمشردين في وجه البلدية، وهذا غير عادل".
فيما بعد اعترض الممولون أيضاً على محاولات المبادرة دمج المستفيدين في فرق عملها، معتبرة أن ذلك "يتعارض مع الغاية الأساسية، وهي تحسين ظروف حياة المشردين، لا حرمانهم من التشرد وإجبارهم على اتباع أسلوبنا في الحياة".
نقيب المشردين - الذي تغطي المبادرة تكاليفه الإدارية والشخصية - يقول إن هناك أوجهاً سلبية وإيجابية للمبادرة، ولكن عند مقارنة بعضها ببعض يتغلب الإيجابي، "مثلاً العدد المفرط أحياناً من الأغلفة الكاوتشوكية في كيس القمامة يتسبب بوجود طعم مر في الأطعمة الممكنة الاستهلاك في الكيس، ولكن بالمقابل تحمل هذا الطعم المر يوفر لنا حماية من الموت بشفرةٍ صدئة في لحظة شرود".
ويضيف أن الأموال التي يرسلها أخوتنا الأوربيون تنفق في المكان المناسب على النشاط المناسب، "الهدف الأساسي من المبادرة هو جعل التشرد تجربة ممتعة، لا توجد مدينة ليس فيها مشردون، ولكننا نحاول أن نجعل مشردينا محط حسد وغيرة بين مشردي شتى المدن"، وأضاف بعد ضحكة قصيرة: "ربما توزع عليهم المبادرة خرزاتٍ زرقاء لحمايتهم من عيون مشردي المدن المجاورة".
اتسعت هذه المبادرة اليوم لتصبح منظمة دولية، وهناك حديث في أروقة الأمم المتحدة عن إمكانية ضمها لمجموعة منظمات الأمم المتحدة المخصصة للطفل واللاجئين وحقوق الإنسان، على أن تغير اسمها من "قمامتي آمنة" إلى "المفوضية العليا لشؤون المشردين".
وقال مسؤول متبصر في الأمم المتحدة أن هذه "لحظة مهمة في تاريخ عمل المنظمة (الأمم المتحدة) والعمل الإنساني المشترك، بعد التقدم الذي تحقق في مكافحة الجوع والفقر جاء دور التشرد، ليذكرنا التاريخ كحضارة توحدت من أجل تحسين حياة مشرديها دون إجبارهم على التخلي عن أسلوب حياتهم وتقاليدهم الاقتصادية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...