شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
واختلط الحابل بالنابل…

واختلط الحابل بالنابل… "الزكرتي" و"القبضاي" و"الأزعر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الأحد 12 نوفمبر 202312:34 م

الجيل القديم يذكره جيداً؛ كان اسمه عبّود الكردي -الملقّب بأبي كاسم- وهو من أشهر قبضايات الشّام الحقيقيين في النصف الأول من القرن الماضي. كان يتجول في شوارع المدينة بسرواله العريض وشاربيه المفتولين وطربوشه الأحمر يومَ اعتقلته أجهزة الأمن في مطلع عهد الوحدة مع مصر سنة 1958. يومها سُمع يقول: "هذا زمن، يا مربّى... اتخبّى". كان مثله مثل كثر من "قبضايات" العاصمة السورية -أو "الزكرتية"- الذين عاشوا عصراً ذهبياً في نهاية المرحلة العثمانية، وفي أثناء الانتداب الفرنسي، قبل تراجع دورهم الاجتماعي وتقليم أظافرهم بشكل ممنهج في مطلع عهد الاستقلال، وصولاً إلى مرحلة الوحدة مع مصر.

عبّود الكردي

أما قبل ذلك، فقد عرفت دمشق الكثير من "القبضايات" و"الزكرتية"، وتولّى كل واحد منهم حيّاً من أحيائها القديمة. عبّود الكردي مثلاً كان "قبضاي" منطقة الصالحية، خارج سور دمشق التاريخي، مع فارس أبو أسعد ومحمد ألفا (الملقب بالسيروان). وفي داخل السور ظهر الفارس أبو علي الكلّاوي في منطقة باب الجابية، ومحمود خدام سريجة في منطقة الشاغور، وأبو حاتم البقاعي في منطقة باب سريجة. من عاش طويلاً منهم تحوّل إلى جزء من فولكلور المدينة، مثل الكلّاوي، الذي ظلّ يظهر على جواده في الاستعراضات الشعبية في كل عيد جلاء حتى منتصف السبعينيات.

"الزكرتية" في زمن الثورة على فرنسا

كلمة "الزكرتية"، هي كلمة تركية تعني "الشجعان"، الذين تجلّت فيهم عادات الفروسية والشهامة ونجدة الضعيف والبسالة في مواجهة الشدائد والمحن. كل واحد منهم كان مرتبطاً بزعيم من الزعماء السياسيين؛ فكان الكلّاوي مثلاً محسوباً على أقربائه من آل البكري، نسيب وفوزي باشا، وأبو عبده العشي على رئيس الجمهورية شكري القوتلي. وكان من عاداتهم التزام الصمت المطبق عند حضورهم مجالس الأعيان، وعدم اعتراضهم القول، وتلبية كل مطالبهم مقابل عطف سياسي وحماية من مضايقات الأجهزة الفرنسية.

 كان هناك الكثير من "قبضايات" العاصمة السورية -أو "الزكرتية"، الذين عاشوا عصراً ذهبياً في نهاية المرحلة العثمانية، وفي أثناء الانتداب الفرنسي، قبل تراجع دورهم الاجتماعي وتقليم أظافرهم بشكل ممنهج في مطلع عهد الاستقلال، وصولاً إلى مرحلة الوحدة مع مصر

لعب هؤلاء "القبضايات" دوراً مهماً للغاية في أحداث الثورة السورية الكبرى سنة 1925، وتولّى أحدهم -أي المجاهد حسن الخرّاط الذي كان حارساً ليلياً في بساتين الشاغور-، مهمةَ اقتحام دمشق على رأس جمع من الخيالة، في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1925، بهدف اعتقال المندوب السامي الفرنسي موريس سراي، الذي قيل لهم إنه سيكون موجوداً في قصر العظم الأثري. كانت مهمة الخرّاط اعتقال الضابط الفرنسي، وتسليمه حيّاً إلى قيادة الثورة لتبادله مع معتقلين سوريين في السجون الفرنسية.

ولكن الخطة فشلت بعد أن تبيّن أن الخرّاط ورفاقه قد تعرضوا لكمين محكم لحظةَ دخولهم سوق البزورية، لأن المندوب الفرنسي لم يكن في دمشق يومها. حاصرهم الجنود الفرنسيون في السوق وفي قصر العظم، وأغاروا عليهم بعنف، ودمّروا أجزاءً كبيرةً من العاصمة السورية آنذاك.

مهام الزكرتي والقبضاي

مهمة القبضاي والزكرتي، كانت تسيير المظاهرات عند طلب الزعماء الوطنيين وابتكار هتافات شعبية لها، احتجاجاً على قرارات فرنسية، كاعتقال أحد الأشخاص ظلماً أو تعطيل البرلمان أو رفع سعر الخبز. وكان من مهامهم أيضاً، إغلاق الأسواق والمتاجر عند اللزوم، كما حدث في الإضراب الستيني سنة 1936، مع حماية الأحياء والأهالي من تجاوزات الجنود السنغاليين التابعين لجيش الشرق الفرنسي.

أبو عبده العشي

عُهد إليهم أيضاً تأمين حاجات الناس في أثناء الإضرابات وإعانة عائلات القتلى والموقوفين، ووصل بهم الأمر إلى أن أصبحوا "مؤسسةً قائمةً" كما وصفهم الباحث الأمريكي فيليب خوري، في كتابه الشهير "سورية والانتداب الفرنسي"، الصادر عن جامعة برنستون، سنة 1987.

لم يكن "الزكرتي" أو "القبضاي" من "زعران" الحيّ، بل كان في معظم الأحيان صاحبَ مهنة بسيطة يكسب منها قوته اليومي، بينما كان الزكرتية يعتمدون على تمويل شهري من الزعماء الوطنيين في كثير من الأحيان.

من "أبو صيّاح" إلى "العكيد"

ولعل اللغط الذي حصل بين مفهوم "الزكرتي" والقبضاي" من جهة، و"الأزعر" من جهة أخرى، يعود إلى المسلسلات السورية التي خلطت بينهما منذ بداية بث التلفزيون السوري عام 1960. أشهر من جسّد شخصية "القبضاي" الحقيقي كان الممثل الراحل رفيق سبيعي، عبر شخصية "أبي صياح" الذي حافظ على خطوطها العريضة من حيث البساطة والشهامة واللهجة والهندام.

رفيق سبيعي يمثل شخصية "أبو صياح"

وسار في ركبه عدد من الفنانين في ستينيات القرن العشرين، مثل الراحل عدنان بركات، الذي أضاف صفةً جديدةً إلى "القبضاي" في المسلسل الشهير "حمام الهنا"، لم تكن واقعيةً بل مختلَقةً، تماشياً مع النص، فبدا أنه يحب السجون ويهوى المعتقلات ويعدّها من شيم الرجولة.

من مهام "القبضاي" و"الزكرتي" كانت تسييرَ المظاهرات عند طلب الزعماء الوطنيين وابتكار هتافات شعبية لها، احتجاجاً على قرارات فرنسية، كاعتقال أحد الأشخاص ظلماً أو تعطيل البرلمان أو رفع سعر الخبز

ثم جاء اللفظ الثاني في مسلسل "صح النوم" الكوميدي، لدريد لحام ونهاد قلعي، سنة 1971، الذي أظهر شخصية "زكرتي" و"أزعر" في آن واحد، يُدعى "أبا عنتر"، جسدها الفنان ناجي جبر. كان "أبو عنتر" يصف نفسه بأنه "قبضاي" ويطلق عليه هذه الصفة صديقه الحميم والمشاكس "غوار الطوشة"، علماً بأنه كان بعيداً كل البعد عن القبضاي الحقيقي، إذ كان يسرق ويضرب ويعتدي على الناس ظلماً.

حاول ناجي جبر تعديل صورة "أبي عنتر" في أعمال لاحقة، وأظهره رجلاً طيباً ومحبّاً للمساكين ونصيراً للضعفاء والمحتاجين، ولكن دوره الشهير في "صح النوم" ظلّ طاغياً على كل ما قدّمه في مرحلة لاحقة من مسيرته الفنية، باستثناء مشاركته في عمل البيئة الشامية الشهير "أيام شامية"، سنة 1992.

بو علي الكلّاوي

في "أيام شامية"، أظهر جبر شخصية "القبضاي" الحقيقي "سيفو العكر"، الهارب من قبضة العثمانيين، لأنه قتل أحد عناصرهم الظالمين. جاء باللباس التقليدي نفسه، وأظهره جبر مفعماً بالنبل والوطنية والإخلاص. وفي العمل نفسه، ظهر رفيق سبيعي بشخصية "الزكرتي" الحقيقي، صاحب محل بيع "التتن" الذي قلّما يتحدث، وعندما يقول شيئاً تُعدّ كلماته أوامر لا تُعصى، وتُطاع فوراً من قبل كلّ أحل الحارة.

مسلسل "أيام شامية" كان وفياً لشخصية "الزكرتي" و"القبضاي"، قبل أن يدخل عليها شيء من التحريف يوم أُلصقت بها عبارة "العكيد" في مسلسل "باب الحارة" الشهير في كل أجزائه ابتداءً من العام 2006.

لا شيء في مجتمع "الزكرتية" اسمه "عكيد"، ولكن العبارة دخلت في الذاكرة الجماعية للسوريين والعرب، وبعدها اختلط الحابل بالنابل، وبات كتّاب السيناريو الجدد، ومعظمهم غرباء عن العادات والتقاليد الدمشقية، يدمجون ويحرّفون كما يشاؤون بين "الزكرتي" و"الأزعر"، وبين اللص و"القبضاي"، ويُخرجون شخصيات مشوهةً لا تمتّ إلى المجتمع الدمشقي بصلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image