تسكن شفيقة الشرعبي (35 سنةً)، في محافظة تعز، وهي من ذوي البشرة السمراء أو "المهمشين" كما يُطلق عليهم في اليمن. شفيقة أم لأربعة أولاد، اضطرت في سنة 2022، تحت ضغط الفاقة والعوز، إلى إخراج ابنها البكر عبد الرحمن (13 سنةً)، من المدرسة وإلحاقه بسوق العمل ليسهم في إعالتها وزوجها المُقعد مع أشقائه الثلاثة الأصغر منه سنّاً.
تقول لرصيف22: "كان في الصف السابع في مدرسة العلوم الحديثة في تعز، ويريد مواصلة تعليمه، لكن وضعنا المعيشي ساء كثيراً، وحتى صدقات المحسنين لم تعد كافيةً. زوجي مريض، وأنا غير قادرة على العمل، لذا لم تكن أمامنا غير هذه الطريقة لكي يستمر أشقاؤه الآخرون في دراستهم".
يعمل عبد الرحمن في رتق الأحذية وحياكتها في الشوارع، وحمّالاً في بعض ساعات النهار لأكياس الدقيق ومواد البناء في السوق. يشكو من تنمّر البعض عليه ومعاملته بعنصرية بسبب بشرته السمراء، إذ يلقبونه بـ"الخادم" وهو لقب من الألقاب التي يطلقها قسمٌ من اليمنيين على أبناء جلدته، إذ يربطونهم بما يعتقدون أنها مهن حقيرة.
وعلى الرغم من تضحيته بمستقبله الدراسي، إلا أنه يعود في بعض الأمسيات إلى المنزل منهكاً وبجيوب فارغة تماماً، بسبب قلة الفرص. تقول والدته عن ذلك: "تعوّدنا على الجوع. لا بأس في ذلك، لكن الأمر الصعب الذي لا يُحتمل هو شعوري بالذنب لجعله يترك دراسته بمقابل زهيد جداً، وفي أيام كثيرة من دون أي مقابل".
تدهور التعليم
قصة عمالة الأطفال وتسربهم من المدارس، باتت جزءاً من حياة اليمنيين، فهي من أبرز نتائج الحرب التي دارت في بلادهم لنحو ثماني سنوات، ودفعت الحركة التعليمية في اليمن ضريبتها الباهظة، كما باقي القطاعات.
يؤكد عبد القوي الوهباني، جانباً من ذلك، وهو مدير مدرسة علي بن أبي طالب، في مدينة تعز الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، إذ يقول إن الكثير من المعلمين في مدرسته اضطروا إلى النزوح أو البحث عن عمل آخر، إلى جانب تسرّب التلاميذ والافتقار إلى المستلزمات الأساسية للتعليم كالمناهج والمقاعد.
ويشير لرصيف22، إلى السبب الرئيسي الذي دفع المعلمين إلى ترك وظيفتهم: "الرواتب غير الكافية، نصف كادر المدرسة وهم ممن تعيّنوا سنة 2011، يستلمون أقل من 50 ألف ريال من العملة الجديدة، أي ما يقارب 40 دولاراً، فيما النصف الآخر من المعلمين الذين لديهم سنوات طويلة في التعليم تتفاوت رواتبهم من 70 ألفاً إلى 90 ألفاً، أي 70-90 دولاراً، وهو المبلغ نفسه بالعملة اليمنية الذي كان يحصل عليه المعلم قبل الحرب وانهيار العملة اليمنية، وكان يوازي خمسة أضعاف قيمته اليوم".
قصة عمالة الأطفال وتسربهم من المدارس، باتت جزءاً من حياة اليمنيين، فهي من أبرز نتائج الحرب التي دارت في بلادهم لنحو ثماني سنوات، ودفعت الحركة التعليمية في اليمن ضريبتها الباهظة، كما باقي القطاعات
وبسبب قلة الكادر التدريسي ولا سيما للصفوف الأولى، تعتمد مدرسة علي بن أبي طالب، على معلمين متطوعين أو تتعاقد مع معلمين بمبالغ شهرية، يصفها المدير بالضئيلة جداً، إذ لا تزيد عن 50 ألف ريال يمني (تعادل 50 دولاراً).
وتلك ليست المشكلة الوحيدة التي تواجهها المدرسة، إذ لا تتوفر الكتب المدرسية، ويتم تصويرها ورقياً في المدرسة ومن ثم يتم بيعها للتلاميذ، والميسورون منهم يشترون الكتب المنهجية من الأسواق. ويقدّر الوهباني، العجز في المناهج بـ"90% في مادة اللغة العربية، و50% في اللغة الإنكليزية والفيزياء والأحياء".
والأمر الآخر الذي تعاني منه المدرسة، فضلاً عن بقية المدارس في تعز، هو الاكتظاظ في الصفوف، على الرغم من توقف الكثير من الطلبة عن الالتحاق بها. يقول المدير عن ذلك: "لا تتوفر مقاعد الدراسة وأغلبها خارج الخدمة، كما لا توجد فصول كافية تستوعب الطلبة وذلك لأن هناك أسراً نازحةً قدمت من محافظة الحديدة عام 2017، وتسكن في جزء كامل من المدرسة".
ويشتكي الوهباني، من عدم تقديم السلطات لأي حلول، ووجود حالة من التمييز بين المدارس، فيقول: "يكون الاهتمام بمدارس معيّنة دون غيرها، من خلال الدعم وإرسال المنظمات والمؤسسات إليها".
وعلى أي حال، فالمعلمون في الأجزاء التابعة للحكومة الشرعية، يعدّون أنفسهم محظوظين مقارنةً بزملائهم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثي، وذلك لأنهم لا يتلقّون رواتب منذ سنة 2016، وكثيرون منهم، يزاولون التعليم بنحو صوري على أمل الحصول على رواتبهم متراكمةً أو في الأقل استعادتها، بينما يعتمدون في معيشتهم على أعمال أخرى غير التدريس.
الحرب هي السبب
ووفقاً لتقرير المركز الأمريكي للعدالة، فإن أعداد المعلمين الذين قُتلوا منذ بداية الحرب سنة 2015، بلغت 1،579 معلماً، وأصيب 2،624 معلماً بجروح، فيما تعرّض 621 معلماً لاختفاء قسري، وتم تهجير 20،142 معلماً من مدارسهم وتم استبدالهم بعناصر تابعين للحوثيين، والجماعة قامت بتجنيد الأطفال وإلحاقهم بالجبهات بدلاً من إرسالهم إلى المدارس.
ويرصد التقرير أكثر من 49 حادثة قصف لمدارس من قبل طيران التحالف العربي بقيادة السعودية، وكذلك من قبل جماعة أنصار الله الحوثيين في محافظات عدة، وتوثيق 21 حالة تفجير لمدارس من قبل عناصر الحوثيين في عدد من المحافظات من بينها صنعاء والجوف وحجة. ويضيف التقرير نوعاً ثالثاً من الانتهاكات، يتمثل في تحويل المدارس إلى ثكنات عسكرية.
ويذهب تقرير لمنظمة اليونيسف صدر في شباط/ فبراير 2023، إلى تأكيد تضرر أكثر من 2،500 مدرسة، أو استخدامها من قبل النازحين لتوفير مأوى لهم أو سيطرة جماعات مسلحة عليها.
ويشير التقرير إلى أن هناك أكثر من ثمانية ملايين طفل بحاجة إلى مساعدات تعليمية طارئة في جميع أنحاء اليمن، مقارنةً بـ1.1 مليون طفل تم الإبلاغ عنهم قبل الأزمة في كانون الأول/ ديسمبر 2014.
الحرب في اليمن دمرت نحو 180 مدرسةً في عموم مناطق تعز، 58 منها بنحو كامل، وتقلصت أعداد المعلمين من 43،638 قبل نشوب الحرب، إلى 20 ألف معلم فقط، ويقدَّر أعداد الطلاب المتسربين من المدارس بما يقرب من 200 ألف تلميذ.
عبد الرحمن المقطري، نائب نقابة المعلمين في محافظة تعز الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، يلفت في حديثه لرصيف22، إلى أن الحرب دمرت نحو 180 مدرسةً في عموم مناطق المحافظة، 58 منها بنحو كامل، وتقلصت أعداد المعلمين من 43،638 قبل نشوب الحرب، إلى 20 ألف معلم فقط، ويقدّر أعداد الطلاب المتسربين من المدارس بما يقرب من 200 ألف تلميذ.
ويبيّن: "ترتب على هذا الواقع انعدام الأمن النفسي لدى الطلاب وبعضهم فقدوا أهاليهم وزملاءهم فكانت البيئة التعليمية غير مشجعة". ويستدرك: "تتحسن الأمور مؤخراً، لكنه تحسّن طفيف".
ويتابع: "الحرب جعلت الطلاب يتسربون من المدارس سواء للهجرة أو البقاء لأجل العمل، كما خضع الكثير منهم للاستقطابات وذهبوا إلى جبهات القتال، سواء في مناطق الحكومة الشرعية، أو في مناطق الحوثيين حيث تزداد أعدادهم بشكل أكبر".
ويصف واقع التعليم بالمأساوي، ويعبّر عنه بمثال: "الطالب في الصف الثالث الثانوي، لا يجيد كتابة سطر بشكل صحيح!". ويشير إلى أن 30% من المناهج وصلت إلى المدارس هذا العام، كما أن الوسائل التعليمية والوسائط التعليمية كشاشات العرض ومعامل الحاسوب التعليمي، نُهبت خلال الحرب.
تعطيل المدارس
ناصر أبو عشة، مدير مدرسة الكتينة في مديرية الرحبة في محافظة مأرب، الجزء التابع لسيطرة الحوثيين، يقول لرصيف22، إن أكثر من 35 مدرسةً في المديرية أغلقت أقسام تعليم المرحلتين المتوسطة والثانوية فيها، لذا لم يعد في مقدور الأطفال هناك سوى الدراسة حتى الصف السادس الابتدائي فقط.
ويقول: "الوضع كان مختلفاً عندما كانت الرحبة تحت سيطرة الحكومة الشرعية قبل 2021. الحوثيون بعد سيطرتهم عليها لم يصرفوا رواتب المعلمين، لتضطر غالبيتهم إلى النزوح إلى مدينة مأرب الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية، ولم يبقَ إلا عدد قليل من المعلمين في مدارس الرحبة، ومعظمهم متطوعون، من خريجي الثانوية، يدرسون في الصفوف الأساسية".
ويلفت إلى أن 90% من الطلاب توقفوا عن التعلم في الصف السادس الأساسي، والآخرون، كانت لديهم إمكانية للخروج من الرحبة وإكمال تعليمهم في أماكن أخرى.
ووفقاً لأبو عشة، فإن الحوثيين لم يتسببوا فقط في تعطيل الدراسة المتوسطة والثانوية فحسب، بل عطلوا كذلك عدداً من المدارس الابتدائية، مثل مدرستَي الأوشال وعلفا، بسبب زراعتهم الألغام في المناطق المحيطة بالمدرستين.
ويروي بأسى بالغ، كيف أنه صادف لدى مروره في سوق الرحبة في شهر تموز/ يوليو المنصرم، تلميذاً سابقاً لديه يدعى محمد حسين (13 سنةً)، وهو يحمل بضائع لصالح تاجر من سوق المديرية إلى قرية عزلة وادي اللب.
يقول إنه فوجئ بذلك، لكون الفتى كان من تلاميذه المتفوقين والحاصلين على درجات كاملة في الصف السادس ابتدائي، وحين سأله عن ذلك بداعي الحرص على مستقبله، أجابه بأنه ساعد التاجر مقابل خمسة كيلوغرامات من السكر يعين بها أهله!
ولا يخفي المدرّس خوفه على تلميذه، ليس فقط لأنه توقف عن الدراسة، بل أيضاً لاحتمال ضياع موهبته: "إنه مبدع، يرسم كما لو أنه تخرج من أرقى معاهد الرسم، للأسف قد يخسر ونخسر جميعاً هذه الطاقات في وطن تسبب في تشرد أطفاله".
معدّة التقرير تواصلت مع الفتى محمد حسين، الذي تحدث عن مصاعب اقتصادية كبيرة تمر بها أسرته إذ يعمل والده مزارعاً في منطقة وادي اللب، وبالكاد يستطيع تغطية نفقات إعالة أبنائه الستة، وهو من ضمنهم.
اضطر محمد إلى إنهاء مسيرته التعليمية في الصف السادس سنة 2022: "كنت أريد أن أنتقل إلى مأرب المدينة أو إلى صنعاء لإكمال دراستي، ولكن لا نملك المال لذلك وعليّ العمل لمساعدة والدي"، يقول.
ولتلافي المصير نفسه، نزحت أسرة صالح أحمد (16 سنةً)، من مناطق سيطرة الحوثيين، إلى مناطق الحكومة الشرعية. تقول والدته لرصيف22، إنه كان يدرس في الصف التاسع في مدرسة الشهيد محمد عبد الملك، في مديرية شرعب الرونة في محافظة تعز، وهي منطقة واقعة تحت سيطرة الحوثيين، ولأن الكثير من المعلمين كانوا يغيبون عن المدرسة، كان صالح يتلقى فقط حصتين في اليوم، وبعض المواد المهمة لا يدرسها.
وفشلت محاولات الأسرة في تعويض ذلك، عبر مدرّسين خصوصيين يعطونه الدروس التي فاتته في الرياضيات واللغتين العربية والإنكليزية، لأن ذلك كان يتطلب مبالغ كبيرةً، تصل إلى 10 آلاف و20 ألف ريال (20-30 دولاراً)، لكل مادة في الشهر.
وذكرت أن إدارات المدارس في مناطق الحوثيين تفرض رسوماً ماليةً على الطلبة، كما تفرض عقوبات صارمةً على من لا يدفع، حسب قولها، وتضيف: "كل طالب يدفع ألف ريال شهرياً ومن لا يدفع يعاقَب بالضرب!".
"لذا لم يكن أمامنا سوى الانتقال إلى تعز المدينة الواقعة تحت سيطرة الشرعية، ليواصل تعليمه فيها"؛ تضيف الأم.
توقف توزيع الرواتب على الموظفين الحكوميين في الأجزاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين منذ سنة 2016، وهو ما أدى إلى عزوف الكثير من المعلمين عن التدريس والبحث عن مهن أخرى لإعالة أسرهم.
وملف الرواتب هذا، يأتي ضمن أولوية التفاوض الجاري حالياً بوساطة عمانية، إذ يشترط الحوثيون أن تسلَّم إليهم رواتب الموظفين ويقومون هم بتوزيعها، وهو ما يعرقل عملية التفاوض وفقاً لمطلعين بسبب رفض الجانب الآخر للأمر.
حلول مجتمعية
إزاء النقص في الدعم والتجهيز الحكوميين اللذين تفتقر إليهما المدارس في مختلف مناطق اليمن، فإن إداراتها تعتمد وبنحو كبير على ما تقدّمه لها منظمات المجتمع المدني من معونات.
ويقول أمين مكرد اليوسفي، رئيس منظمة أفق التنموية، لرصيف22، إن منظمته نظّمت حملات لتوزيع حقائب مدرسية وأقلام ودفاتر فضلاً عن الثياب للتلاميذ الفقراء في عدد من المدارس في مدن مختلفة، وتوفير الملازم والكتب والسكن للعديد من الطلاب الجامعيين من أبناء الريف غير القادرين على تغطية نفقات دراستهم الجامعية.
غير أن هذه المبادرات، تشكو من قلة الدعم وتباينه، إذ تقول نسرين حميد، المديرة التنفيذية لمبادرة إنسان التنموية، لرصيف22: "لا يوجد داعم أساسي، بل نحصل على معونات من محسنين عبر جهودنا الشخصية في استقطابهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي".
وعلى الرغم من ذلك، استطاعت مبادرتها خلال الأعوام الثلاثة من 2021 إلى 2023، إعانة 445 طالباً من الأساسية والثانوية من الفئة الأشد فقراً، "بتوفير مستلزمات الحقيبة المدرسية لهم".
وهي الطريقة نفسها التي تعمل بها مؤسسة اليتامى في مدينة تعز، إذ يقول مديرها سهيل الذبحاني، لرصيف22، إن أموال المحسنين توجَّه منذ 2019، لرعاية وتأهيل وتدريب 55 يتيماً وإسكانهم في دار تابعة للمؤسسة من يوم الأحد إلى الخميس، كل أسبوع.
ووفقاً لمطلعين على ملف التعليم في اليمن، فإن مبادرات مثل هذه لن تحل مطلقاً مشكلة تدهور التعليم، التي تحتاج إلى بناء مدارس جديدة ومنح رواتب كافية للمعلمين، وقبل كل ذلك توفير فرص العمل، لكي تتوقف الأسر الفقيرة عن إلحاق أطفالها بسوق العمل وحرمانهم من التعليم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.