ليس من المبالغة القول بأن لا وجود لنساء غير محجبات في الأماكن العامة في دولة الصومال، وتحديداً في العاصمة مقديشو قبل البوادي. ففي مقديشو التي يزيد عدد سكانها عن مليوني نسمة، لا توجد امرأة تخرج من بيتها دون حجاب، والأمر نفسه ينطبق على الزائرات من الخارج، سواء أكنّ صوماليات أم أجنبيات، إذ عليهن الالتزام بارتداء الحجاب متى دخلن البلد.
ومع ذلك، لا يوجد أي قانون أو توجه من السلطة في البلاد نحو فرض زيّ معيّن على النساء، لكن الإلزام يأتي عبر الضغوط الدينية والاجتماعية التي تواجهها المرأة الصومالية منذ عقود، والتي تجعل من النساء رقيبات على أنفسهن في سبيل الالتزام برؤى دينية واجتماعية وافدة وجديدة على المجتمع الصومالي.
واقع المرأة الصومالية
بخلاف بلدان تتشابه مع الصومال في قضية الحجاب، على غرار أفغانستان وإيران، فإن واقع المرأة الصومالية يُعدّ أفضل حالاً بكثير من واقعها في تلك البلدان. فبرغم أنّ المرأة مجبرة على ارتداء الحجاب بشكلٍ غير مباشر لتجنّب الرفض الاجتماعي أو العنف الاجتماعي أحياناً، إلا أنّ لها حقوقاً واسعةً في الحركة والتنقل، ومساحةً أرحب في الاختلاط المجتمعي والتعليم والعمل. وحتى في المدارس، لا تُعدّ قضية فصل الإناث عن الذكور ذات أولوية. وفي الجانب السياسي للمرأة الصومالية دور كبير، وكذا في بقية المناحي الحياتية. فضلاً عن ذلك، يُعدّ المجتمع الصومالي أكثر تقدماً في قضية نشر صور المرأة، سواء وحدها أو مع زوجها، إذ لها الحق في نشر صورها بشكل عام ما دامت تلتزم بالزي الذي يقبله المجتمع، وذلك أمر مستهجن في كثير من البلدان العربية التي تعرضت للتأثير السلفي نفسه.
لكن من جانب آخر، تعرضت مكانة المرأة لتراجع كبير منذ انهيار الدولة المركزية عام 1991، الذي ترافق مع انتشار التدين والدعوة السلفية في البلاد، بدعم واسع من دول الخليج. ونال الصومال ما نالت البلاد العربية على غرار مصر، من تغيرات في أنماط حياة الناس، خصوصاً في ما يتعلق بملابس المرأة وحجابها، وقضايا التعليم والحقوق، وبشكل عام تراجعت مكانة المرأة بسبب سيطرة التدين السلفي الذي يجمع بين الذكورية والفهم الرجعي للدين. على سبيل المثال كانت السلطة في ستينيات القرن الماضي، تسعى إلى تحقيق المساواة في الإرث بين الذكور والإناث، ومقارنةً بالواقع اليوم يبدو الفارق كبيراً، وفي غير صالح المرأة.
رغم أنّ المرأة مجبرة على ارتداء الحجاب لتجنّب الرفض أو العنف الاجتماعي أحياناً، إلا أنّ لها حقوقاً واسعةً في التنقل، ومساحةً رحبةً في الاختلاط المجتمعي والتعليم والعمل، وحتى في المدارس لا تُعدّ قضية فصل الإناث عن الذكور ذات أولوية
يوضح الكاتب الصومالي المقيم في المهجر أحمد عثمان، أنّه بعد ضعف الدولة المركزية ثم انهيارها في 1991، دعمت السعودية ودول عربية نشر التدين السلفي وتكوين جماعات إسلامية في البلاد، على غرار حركة الاتحاد الإسلامي (الاعتصام) لاحقاً، التي أعلنت قيام إمارة إسلامية في شرق الصومال، وحركة الشباب المجاهدين، وأصبح هناك اتجاه نحو تكفير كل مكونات الثقافة الصومالية واستهجانها وتحريمها؛ من لباس وغناء ورقص وموسيقى وعلاقات اجتماعية، وصولاً إلى احتقار اللغة الصومالية نفسها.
يضيف عثمان لرصيف22، أنّ كلمة "حجاب" لم تكن معروفةً في الصومال طوال تاريخه، كما يعتقد أنّها لم تكن معروفةً في مصر حتى في أيام جمال عبد الناصر، الذي استخدم كلمة "طرحة" للدلالة على الحجاب في إحدى خطبه أمام مجلس الشعب (درس أحمد عثمان في ثانوية مصرية في الصومال في ستينيات القرن الماضي، ثم التحق بجامعة عين شمس في القاهرة).
وذكر الكاتب الصومالي، أنّه كانت هناك جالية يمنية صغيرة في المناطق الحضرية في جنوب الصومال، تحجّب بناتها ونساءها وكانت تسمي الحجاب "شجه"، مؤكداً: "غير ذلك لم تعرف الثقافة الصومالية حجاب المرأة".
وأشار إلى أنّه كان هناك لباس تقليدي مناسب فرضته البيئة الجغرافية وطبيعة العمل المنوط بالمرأة عند شعوب القرن الإفريقي الكوشية (الصوماليين والعفر والأورومو وغيرهم)، ويسمّى هذا اللباس باللغة الصومالية "جونتيتو/ Guntiino iyo garbasaar"، إلى جوار لباس آخر قادم من اليمن ومناسب للبيئة الجغرافية وطبيعة العمل الملقى على كاهل المرأة، كانت تلبسه نساء المناطق الحضرية في الصومال وجيبوتي وأجزاء واسعة من إريتريا وإثيوبيا، لكن تحت ضغط التدين السلفي الوهابي، باتت حتى الأسماء الصومالية للبنات والبنين أسماء "كفر"، ولا يجب إطلاقها على المواليد الجدد. يقول الكاتب الصومالي: "تلك هي الحقيقة المؤسفة؛ هناك غسيل مخ مرعب ومتواصل في العقود الثلاثة الماضية ضد كل صومالي، بهدف استئصال ثقافة الصوماليين واستبدالها بثقافة السعودية ودول الخليج، بوصفها الثقافة الإسلامية التي ترضي الله ورسوله".
لا وجود لغير المحجبات
بدورها، تنفي الناشطة الاجتماعية المهتمة بالشؤون السياسية، أرقسن إسماعيل، وجود قانون يفرض على المرأة الحجاب، وترى أنّ الشعب الصومالي يدين بالإسلام بنسبة 100%، كما أنّه شعب قبلي لديه عادات وتقاليد، ودائماً العادات والتقاليد والأعراف هي التي تكون لها سلطة أكثر من القانون. وترى أنّ الحجاب فرض ديني بجانب أن ذائقة الشعب الصومالي تميل إلى الحشمة، فحتى اللباس التقليدي يميل إلى الستر، ولهذا أي شيء شاذ وغريب (عدم ارتداء الحجاب) يلقى نوعاً من عدم القبول.
وتُرجع أرقسن إسماعيل، عدم خروج النساء دون حجاب في مقديشو إلى أسباب أمنية، وتقول إنّ المرأة التي تخرج دون حجاب لن تواجه مشكلات من الدولة والمجتمع، لكن المشكلة أنّها قد تُستهدف من حركة الشباب الإرهابية أو من المتطرفين دينياً. وتنفي الناشطة الصومالية وجود أي شكل من أشكال الاضطهاد أو فرض الحجاب على المرأة، وتوضح أنّ كثيرات من الأجنبيات العاملات في الهيئات الدولية غير مجبورات على الحجاب، ومع ذلك يضعن الطرحة كنوع من احترام تقاليد المجتمع.
وبخلاف حديث الناشطة أرقسن، قال كاتب صومالي، فضّل عدم ذكر اسمه، لرصيف22: "لم أرَ فتاةً بالغةً تجرؤ على الخروج دون حجاب، ولكن قد تخرج فتاة ما بحجاب صغير يغطي الرأس والرقبة فقط، دون الحجاب الكبير (الجلباب). والتي تخرج بهذا الحجاب الصغير يتعرض لها البعض بالكلام".
تقول طالبة جامعية لرصيف22، إنّ العديد من الفتيات يرغبن في عدم ارتداء الحجاب، وأنّ يكنّ أحراراً في ملابسهن، لكن لا توجد لديهن الجرأة، أو التماسك لتغيير التحكم الذكوري في نمط معيشتهن. وترى الطالبة الصومالية أنّ المجتمع الصومالي ليس ذكورياً بطبيعته، لكنه خلال العقود الأخيرة، أي منذ سقوط الدولة المركزية، تحوّل إلى هذا التفكير الذكوري تجاه المرأة بسبب التأثّر بالتدين السلفي الوهابي.
تعرضت مكانة المرأة الصومالية لتراجع كبير منذ انهيار الدولة المركزية عام 1991، الذي ترافق مع انتشار التدين والدعوة السلفية، بدعم واسع من دول الخليج. ونال الصومال ما نالت البلاد العربية على غرار مصر، من تغيّرات في أنماط حياة الناس
وتضيف أن "الإنسان الصومالي كائن اجتماعي لا يمكن أن ينفصل عن الجماعة، ولهذا حين عرف الإسلام صار الشعب مسلماً بنسبة 100%، وحين اتّبعوا الصوفية صاروا كذلك جميعاً، وحين وفد إليهم الفكر السلفي تحولوا إليه". وأضافت: "بعد أنّ كانت للمرأة حقوق واسعة، صارت سلعةً، 'وصار لازم تتحجب'".
مع ذلك، ترى أنّ هناك تغيرات كبيرةً تحدث في الصومال نحو الأفضل، منها أنّ تعليم الفتيات كان مستهجناً على نطاق واسع بسبب التأثير السلفي، لكن ذلك تغيّر بعد العام 2000، مع انتشار التوعية بين الناس.
التعدي على النساء
وعلى غرار دول في المنطقة العربية وغيرها، بات لرجال الدين منذ ثلاثة عقود على الأقل، دور كبير في حياة المجتمع، وما يتعلق بقضايا المرأة، التي كانت الشغل الشاغل للحركات الدينية، خصوصاً السلفية. وفي المجتمع الصومالي يتمتع رجال الدين بدور كبير، بعد عقود من غياب الدولة التي تصدت لمواقفهم المتطرفة والرجعية تجاه قضايا المرأة.
تقدّم حادثة وقعت مع وزيرة المرأة وحقوق الإنسان خديجة محمد ديري، مثالاً على ترصّد رجال الدين لأي خروج من النساء عما فُرض عليهن من قيود تتعلق بالملابس. ففي أيلول/ سبتمبر 2022، خرجت الوزيرة إلى عملها مرتديةً بنطالاً فضفاضاً مع الالتزام بالحجاب. تعرضت وقتها لحملة تحريضية كبيرة من رجال دين بارزين، منهم شيخ أمل، الذي يتمتع بجمهور كبير، وردت الوزيرة على الهجوم عبر منشور على فيسبوك، ترفض فيه الهجوم، وتبرر موقفها بأنّ "النساء المسلمات في المناصب الحكومية الكبرى يرتدين البنطال في الدول الأخرى".
أخريات لم يكنّ في مناصب كبرى ويتمتعن بحماية مثل الوزيرة خديجة، فدفعن الثمن من دمائهن، كما حدث مع رقية فارح التي قُتلت على يد مسلحين من حركة الشباب المصنّفة إرهابيةً، بسبب عدم ارتدائها الحجاب حين تخرج من بيتها في منطقة نائية في جنوب الصومال التي للحركة نفوذ كبير فيها. من جانبها، نفت الحركة مسؤوليتها عن الحادث، وسواء أكان المنفذون أعضاء في الحركة أم مسلحين محليين، يبقى الدافع واحداً.
في السياق ذاته، كشفت تصريحات سكرتير مجلس الوزراء لوزارة الدفاع في كينيا، الذي ينحدر من المكوّن الصومالي، حول إلزامية الحجاب على المرأة المسلمة، عن الهيمنة الدينية على عقول المسؤولين وقادة المجتمع الصومالي في الصومال وغيره من البلدان. وجاءت تصريحات أدن دعالي، خلال مسابقة للقرآن الكريم في العاصمة الكينية، نيروبي، وذلك رداً على قرار مدارس عدة معاقبة فتيات مسلمات لارتدائهن الحجاب في أثناء اليوم الدراسي.
تصريحات دعالي الذي يشغل مقعداً في البرلمان منذ دورات انتخابية عدة، لم تكن لتبدو غريبةً لو اقتصرت على الدفاع عن حقوق المرأة في ارتداء ما يناسبها من الأزياء، وفق مبادئ الدستور التي تكفل للجميع المساواة والحرية، لكن تطرقه إلى "ضرورة ارتداء المرأة المسلمة الحجاب إذا خرجت إلى مكان عام"، ثم حديثه عن "احترام الحكومة للثقافة الإسلامية من خلال التأكد من التزام النساء بارتداء الحجاب وارتداء ملابس محتشمة"، هما الأمر الذي يناقض القوانين والدستور في دولة كينيا.
حين تخرج التصريحات السابقة التي تتعدى الدفاع عن حقوق المرأة المسلمة، إلى توظيف موارد حكومية لفرض زي باسم الدين على النساء، فإنّ ذلك يكشف عن حجم القمع باسم الدين تجاه المرأة الصومالية، والذي يلقى دعماً من المجتمع الذي يشكل وعي الفتيات منذ الصغر عبر إلزامهنّ منذ سن مبكرة بارتداء الحجاب، وهو الحال في المدارس بجميع مراحلها في الصومال.
في المجتمع الصومالي يُعدّ الحجاب عادةً وقيمةً دينيةً لا حقّ للمرأة في مخالفتهما، إلا إذا كانت خارج الوطن، لكن طالما هي في الصومال فليس لها الحق في رفع الخمار
تناقض باسم الدين
لكن بين غير المؤدلجين يختلف الأمر؛ إذ لو خفّ الضغط الاجتماعي لخلعت كثيرات من الفتيات الحجاب وارتدين ملابس وفق أذواقهن. تقول الطالبة الجامعية التي تحدثت إلى رصيف22، إنّه لو كانت البنت متعلمةً وناجحةً في حياتها ومدعومةً من أسرتها ووضعها المادي جيّد، فلن يستطيع أحد التدخل في حياتها ونوع ملابسها، مع الالتزام بالحجاب وتجنّب البنطال، لكن إن كانت غير متعلمة وغير ميسورة الحال فسيتم التحكم بحياتها بشكل كبير، والأمر سيّان في العاصمة أو البادية.
في مجتمع عشائري مثل الصومال، تخضع فيه الحكومة لسلطة التوازن العشائري، لا تصبح القيم الحديثة التي تمثّل الدولة الوطنية ذات أولوية، مثل احترام حقوق الإنسان وحرية المرأة، وتتغلب العادات على القوانين.
توضح المرشدة الأسرية والمجتمعية والتربوية ليلى محمد عجال، أنّ النظرة في الصومال مختلفة، "المرأة ليس لها الحق في عدم ارتداء الحجاب كونه أمراً منزلاً وقائماً على قيمة دينية، ولذلك لا نستطيع فهم المجتمع إذا لم ندرك المفاهيم والقيم التي يستند إليها، وهي في حالة المجتمع الصومالي تأتي من العادات والأعراف والدين".
تقول التربوية الصومالية: في المجتمع الصومالي يُعدّ الحجاب عادةً وقيمةً دينية لا حقّ للمرأة في مخالفتهما، إلا إذا كانت خارج الوطن، لكن طالما هي في الصومال فليس لها الحق في رفع الخمار. وأضافت لرصيف22: "أحترم حقّ المرأة في الالتزام بالحجاب من عدمه، فهو أمر بينها وبين الله، لكن أتفق مع مبدأ احترام العادات في البلد الذي نعيش فيه".
طالبة صومالية أخرى تحدثت إلى رصيف22، وقالت إنّ الصومال بلد محافظ، وحقوق المرأة فيه محدودة بسبب قوانين الشريعة الصارمة، لهذا تلتزم المرأة باتباع هذه القوانين وارتداء الحجاب حتى لو لم تكن مقتنعةً أو لم تكن محجبةً، في حالة عودتها من الخارج، وذلك لتجنّب أنّ تخالف السائد في المجتمع.
يظهر مما سبق تناقض في الاستناد إلى قيم المجتمع لفرض شيء على المرأة؛ فوفق المبدأ نفسه، على النساء المسلمات عدم ارتداء الحجاب في الدول التي لا يوجد في ثقافتها حجاب، مثل أوروبا والولايات المتحدة ومعظم دول آسيا. لكن لو تحدثت دولة أوروبية عن شيء يتعلق بزي المرأة المسلمة لردّ المدافعون عن فرض الحجاب في المجتمعات المسلمة بالاستناد إلى حقوق الإنسان التي لا يقبلونها في مجتمعاتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين