سنوات كثيرة لا أعرف عددها وأنا أقصد مترو الأنفاق كوسيلة للتنقل من وإلى أي مكان داخل مدينتي القاهرة، نصف عمري في المترو والباقي لكل شيء آخر.
العمل، زوجي، الأصدقاء، أخوتي، مصادري الصحفية، كل فرد في دائرة معارفي سمع مني مرة واحدة على الأقل عبارة "أنا في المترو"، وعليه يتم الاتفاق بغلق المكالمة لحين الوصول إلى مكان أكثر هدوء.
عربة السيدات أو الأنبوبة الحديدية التي تسير تحت الأرض كوسيلة "تعذيب" محكمة الغلق، هي بالنسبة لي العالم وما فيه؛ حكايات إنسانية تُغزل أمامي كل يوم على وجوه راكبات المترو... كم من نهايات صنعتها في مخيلتي لكل شخصية تثير اهتمامي، كم من عبارات قيلت وأخرى لم تقل كشفت أنماطاً من الفتيات والنساء يصعب تواجدهن في مكان واحد كما في المترو.
تغني التواشيح الدينية
في محطات ما بين العباسية ومصر الجديدة تستقل القاطرة سيدة يبدو أنها في نهاية العقد الخامس من عمرها، ترتدي جلباباً وطرحة سوداء، بصوت مرتفع تطلب من الراكبات الصلاة والتسليم على النبي، وبعد أن تطمئن على لفت الأنظار إليها بعض الشيء، تبدأ في الغناء بصوت شجي يجبر الجميع على الإنصات.
عربة السيدات أو الأنبوبة الحديدية التي تسير تحت الأرض كوسيلة "تعذيب" محكمة الغلق، هي بالنسبة لي العالم وما فيه؛ حكايات إنسانية تُغزل أمامي كل يوم على وجوه راكبات المترو
تغني ما يشبه التواشيح الدينية، يذكرني صوتها بالمنشدات المصريات أو ما يطلق عليهن "مداحات الرسول"، وما إن تنتهي حتى تطلب المساعدة بشراء "باكو مناديل" مرفقة طلبها بالدعوات بزيارة بيت النبي لمن تشتري.
قابلت هذه السيدة الغامضة عدة مرات، وفي الأخيرة تبادلت معها الحديث: "صوتك حلو ولغتك رائعة ممكن أصورك؟"، تفاجئني بأن عاملات في قنوات فضائية قدمن عروضاً بالتسجيل معها لكنها ترفض دائماً: "أغني حباً في النبي لا للظهور على الملأ"، أسألها عن سبب موقفها وأخبرها أن الأمر لا يحتاج إلا 3 دقائق أفتح فيها كاميرا التليفون وقد تتغير حياتها للأبد في عصر المنصات الإلكترونية، ترفض بأدب جم وتشكرني وتدعو لي بالخير الوفير.
لو كان راكباً في عربة النساء
في مترو الخط الثالث الجديد، لا تفصل عربة السيدات عن الرجال أبواب مغلقة، فيمكن رؤية كل عربة للأخرى بوضوح. تلفت نظري حركة غريبة في عربة الرجال، تشبه تجنبهم دائرة خطر يبتعد عنها كل الركاب.
الخطر هو رجل مريض تملأ جسده ووجهه دمامل تكاد تغلق عينيه، لكنه لا يحتاج لنظر خوف الرجال منه، هو يشعر بكونه منفّراً ومنبوذاً في كل خطوة، يجلس بهدوء على مقعد جانبي، ورغم زحام القاطرة لا يجلس بجانبه أحد، يصعد واحد تلو الآخر ويتحركون بنفس النمط، ينظرون للمكان الفارغ، يقدمون عليه وبعدما يروا الرجل يبتعدون عنه ليتحملوا عناء الوقوف طوال الرحلة.
يستند الرجل على مسند المترو ويغلق عينيه قليلاً كمن يهرب من مواجهة عالم يرفضه. خطر لي أن الرجل لو كان راكباً في عربة السيدات ربما كان وجد تعاطفاً بجلوس إحدانا بجانبه، فالنساء في هذه المواقف أكثر تعاطفاً، بخلاف أنه من دون المنطق أن يسير هكذا بلا قناع طبي وسط كل هذا الجمع إلا إذا كان بالفعل لا يشكل خطورة.
تذكرت صورة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان التي اجتاحت القنوات والمواقع الإخبارية حول العالم بسبب احتضانه لرجل بنفس الشكل، أطلق عليه الإعلام العربي وقتها الرجل المشوّه بالدمامل، رجل الدمامل والبثور… وغيرها من الكلمات المماثلة.
عُرف فيما بعد أنه مريض بمرض يسمى الورم العصبي الليفي، وهو بالفعل غير معدٍ، لكنه يسبب آلام حادة للمريض وضعف بصر والأكثر حالة نفسية صفرية لعزل ضحاياه مجبرين عن المجتمع، وهذا ما نقلته وكالات الأنباء عن الرجل الذي قال إن البابا فرنسيس كان أول من اقترب منه منذ سنوات بعدما هجره الناس.
أخبر نفسي: كنت سأملأ فراغ المقعد الشاغر وأجلس بجواره، أنظر إليه بلا غرابة، أتبادل معه حديثاً قد يكون الأخير بالنسبة له معتذرة منه عما يواجهه.
دموع سيدة
طفل يبدو أنه في الثانية من العمر يغضب بلا سبب، يحاول خبط رأسه في أي شيء، يلقي بنفسه على الأرض لتنتزعه أمه كل مرة بمحاولات غير مجدية كمحاولة منها للسيطرة على سلوكه، وبيدها الأخرى تمسك ملفات وأوراق تكاد تتطاير مع كل حركة زائدة. تسألها السيدات: "ماله؟".
تعتذر السيدة الثلاثينية، التي ترتدي جلباباً متهالكاً أكل عليه الدهر وشرب، للراكبات على فرط شقاوة طفلها، تحاول التحكم في مجرى عيونها كي لا تسقط دموعها سهواً، تقول إن زوجها ألقى بطفلها من شرفة المنزل بعد خلافات زوجية معها هو وشقيق له رضيع توفي بعدها، أما الابن المتبقي ففقد بصره وضعفت قدرته على إصدار أصوات أو تكوين كلمات كمن في مثل عمره، وأخبرته منذ إفاقته من العملية أن النور طفي وعليه الانتظار قليلاً ليهيج دائماً وينفعل بالصراخ بلا توقف.
اتخذت وجوه الحاضرات جميعاً رد فعل كمن صُب ماء بارد رأسه، سألت إحداهن: "ماذا يعني ألقى به الأب من شرفة المنزل؟ هل يوجد أب يتسبب لكل هذا الأذى لأبنائه؟".
يمكنني جمع حكايات من المترو في رواية تتشابك فيها القصص مع ما تعنيه كل منها عن شكل المجتمع وتغيراته، أو سيناريو يصلح لفيلم سينمائي سأطلق عليه اسم "عربة السيدات"
هنا سقطت دموع السيدة بلا هوادة لتكمل باقي المأساة، أن زوجها مدمن وهم فقراء للغاية والإيذاء وسيلته من أول يوم زواج معها ثم مع أطفالهما، وفي ذلك اليوم المشؤوم اشتد غضبه لسبب تافه كعادته فألقى بالطفلين وهرب، وبات عليها أن تثبت لجميع الجهات الحكومية ما لحق بالطفل، وهي لا تقرأ ولا تكتب لذا تحضر أوراقها أينما ذهبت، سعياً لعلاج ابنها على نفقة الدولة.
نظرت إلى لافتة المحطات فوجدتها محطتي ثم نزلت.
تشريح الصراصير
تبادلت السخرية أربع فتيات يحملن مجلدات دراسية وبالطو أبيض، تحكي إحداهن عن قفزها أمام الدفعة من صرصار كبير ظل يتجوّل في معمل كلية العلوم بقسم الحشرات، وسط ضحكات زملائها الذين أخبروها أنهم مخلوقات أليفة تستسلم للتشريح.
تجادلن في أيهما أفضل تشريح الصراصير والذباب في قسم الحشرات أم ضفادع وفئران في قسم بايو.
تتابع ضحكاتهن الجالسات بترقب وكأنهن يضحكن نيابة عن كل واحدة منا، أرادت إحدى المتواجدات المشاركة في الحديث، وهي سمة تتميز بها عربة السيدات من حيث تبادل الحوارات والنكات خلافاً لعربة الرجال الساكنة دائماً، سألتهن: "بتشرحوا صراصير بجد؟ بنتي نفسها تدرس علوم لكن خايفة".
أخبرتها واحدة من الأربع عن الروائح المنفرة في معامل الكيمياء والتجارب، وصعوبة الدراسة في الكلية، بخلاف تعرض كل واحدة منهن للتقيؤ قبل أن يصاحبن الحشرات والفئران، ويعتدن شم ما تخلفه التركيبات الكيميائية من غازات في المعامل.
يقطع صوت الضحكات صعود أكثر من فتاة من محطة الدقي يبعن منتجات نسائية، دخلن في عراك كلامي للسيطرة على العربة قبل أن يتبادلن الشتائم.
واحدة تقنع الراكبات بزيت جوز هند أصلي في زجاجة بلاستيكية ثمنه 5 جنيهات، تتهادى وسط النساء وتسكب نقطة زيت على يد من تطولها، ثم تؤكد أنه يُنعم ويرطب البشرة أفضل من منتجات الإعلانات بدليل هذه النقطة المسكوبة.
بائعة أخرى لأدوات الميك آب: "ماسكرا للرموش كُحل ثابت 24 ساعة مبيطلعش بالميه، مُلمع شفايف لمعته ثابتة، مصحح حواجب بديل للتاتو والمايكرو بليدنج وأغلى سعر معايا 25 جنيه عشان بصفي البضاعة"... تقول عباراتها التسويقية بمهارة شديدة بغير قطع لالتقاط نفس واحد.
أما الأخيرة فتبيع إكسسوارات وأقراط بـ20 جنيهاً، تنادي هي الأخرى بأعلى طبقات صوتها كمحاولة للغطاء على الأصوات الأخرى المرتفعة.
أشتري قرطاً لأذني لتلبية إدمان شراء الحلقان بتنويعات أشكالها، محتفظة بأكثرهم دون ارتداء، فقط أشعر باطمئنان ما بتواجد أشكال لا تنتهي تزين درج صنعته خصيصاً لأقراط الأذن، ثم أنزل إلى محطتي مسرعة للصعود على السلم الكهربائي قبل احتدام الخناق بين البائعات… أخبر نفسي: يمكنني جمع حكايات من المترو في رواية تتشابك فيها القصص مع ما تعنيه كل منها عن شكل المجتمع وتغيراته، أو سيناريو يصلح لفيلم سينمائي سأطلق عليه اسم "عربة السيدات"… أردّد هذه العبارة دائماً، ومع كثرة الحكايات أكتفي بتدوين القليل منها، وتعلم المزيد عن فنون الأدب والسيناريو، لحين قدوم يوم تصبح فيه قصص لنساء المترو شاهدة على مرحلة نحاول فك شفراتها في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...