تمضي هذه الأيام معي بشكلٍ جيّد. يسيطر عليّ شعور بالتحسّن، والتحسّن ليس في الوضع المادي أو المعيشي لا سمح الله، إنما هو شعور نفسي مريح. أشعر بأنني بخير وبأن شيئاً جميلاً ينتظرني. أشعر بأن كل لحظة هنا في دمشق، ما هي إلا لحظات وداع. حتماً لن أموت الآن، فما زال الوقت مبكراً، وما زالت لدي أحلام أتجرّع الصبر لاصطيادها.
ربما سأسافر؟ الأمر المضحك هو أن شيئاً ما في هذا الخصوص لا يلوح في الأفق وغير موجود أساساً، وليس هناك من عنوان صغير حتى، أو وجهة يمكن الحديث عنها، لكنه شعور قوي ومُسيطر وأنا مذ بدأت أشعر به، بتّ أتعامل معه على أنه أمر واقع، وكأنني أحمل في أحشائي جنيناً فات أوان إسقاطه.
انجرافي في عيش هذا الشعور أوصلني إلى نقطة متقدمة جداً في التعامل مع نفسي، ومع تفاصيل أيامي، ومع الآخرين، فشعورك بأنك مؤقت في المكان، يعيد خلقك ويجعلك تتصرف وكأنك راحل عن الدنيا وليس عن الحي أو المدينة. لأجل ذلك، تحاول أن تشبع من الناس والمكان والزوايا والتفاصيل، وتجرّب أن تتصالح مع كل شيء، حتى مع الحجر الذي تسبب في سقوطك يوماً. شقيقاتي فقط هن من لديهن بعض من خبر عما يجول في رأسي. لولا وجود شقيقاتي في حياتي كنت سأكون أكثر سوءاً حتماً.
لا مجال لديّ لأدلّل نفسي كما يحلو للفتيات الأخريات أن يفعلن، من أجل ذلك، أكتفي بالقليل المتاح الذي يشعرني بالسعادة؛ أستمتع في هذه الأيام مثلاً بنمو أظافري وشعري. يا للروعة، أحدّث نفسي، هناك شيء ما زال ينمو في حياتي إلى جانب عقلي. أستمتع كذلك بعزلتي. يمرّ الأسبوع من دون أن أشعر برغبةٍ في الحديث إلى أحد، أو مجالسة أحد، ولا حتى معرفة أخبار أحد، ومن دون أن يتسبب لي ذلك في أي عطلٍ أو ضرر أو حتى آثارٍ جانبية، كأن أشعر بدوار مثلاً أو تنبت لي بثور حمراء في وجهي أو يبيضّ شعري، مع أن هناك قطيعاً من الشعر الأبيض بدأ يطرّز رأسي ولكن لا علاقة له بانقطاعي عن العالم.
ربما سأسافر؟ الأمر المضحك هو أن شيئاً ما في هذا الخصوص لا يلوح في الأفق، لكنه شعور قوي ومُسيطر وبتّ أتعامل معه على أنه أمر واقع، وكأنني أحمل في أحشائي جنيناً فات أوان إسقاطه
اعتقدت في البداية أن استمراري في عيش هذا السلوك هو نوع من الاكتئاب، ثم استدركت أن ذلك هو السعادة بعينها. أليست السعادة هي الشعور بعدم حاجتك إلى أحد؟ لا تحتاج إلى أن تشكو لأحد، ولا تريد شيئاً من أحد، ولا تنتظر شيئاً من أحد. أنت مكتفٍ بنفسك. نشاط وحيد أحب أن أقوم به يومياً؛ أن أهاتف أمي وأتفقّد صوتها، وأسأل عن أبي وأحدّثه إن كان الأمر مُتاحاً، وأهاتف شقيقاتي وأتفقّد حال الدنيا في القرية، هناك حيث تسكن ذاكرتي. بعد ذلك، أنطلق إلى تفاصيلي؛ أسلّم على شبيهتي في المرآة وأداعب أوراق نبتة خضراء أهدتني إياها هاسميك.
اليوم هو يوم عطلتي. فكرت في أنني سأشتري علبة معجون أسنان وكريماً مرمماً للوجه (بانتينول)، ومسحوقاً للغسيل؛ هذه الأشياء الثلاثة ضرورية ولا يمكنني الاستغناء عنها، وما تبقّى من حاجات سأتحايل عليها بقية الشهر، وستذهب بالتراضي بين الخبز والخضروات ولزوم طبختَين ربما، وتعبئة رصيد، أما علبة المسكرة الجافة، فقررت أنني سأستمر في وضع قطرات من الشاي عليها إلى أجل تركته مفتوحاً تقرّره الظروف. وبالنسبة إلى علبة كريم الوجه (الأساس)، والتي فرغت تماماً، فلا بأس عليها في تحمّل المزيد من الضربات صعوداً ونزولاً على الطاولة الخشبية، كي أُخرِج منها القليل المتبقّي والعالق في داخلها.
ما تبقى، لا يعنيني في شيء، يعنيني فقط بعض الأصدقاء، أعتقد أن عددهم تقلّص إلى خمسة فقط، رجُلين وثلاث سيدات، وأتضرّع إلى الله أن يصمد هذا الرقم أمام ما تبقّى لي من حياةٍ وحُفرٍ واختبارات. تعنيني أيضاً وبشدّة، قطة ناضجة بدأت تزورني مؤخراً من دون أن أجد مبرراً لذلك سوى إيماني بأنها روح جاءت لتؤنسني، فقد تعاملت معي وكأنها تعرفني، لم تخشانّي أو تهرب منّي، وطريقة حدوث القصة أكدّت لي أن شيئاً ما في هذا الكون يستجيب لك ولأفكارك وأمنياتك. أنا مقتنعة تماماً بهذا الكلام حتى لو تسبب في رسم ابتسامةٍ ساخرةٍ على وجه من يقرأ.
تعنيني أيضاً وبشدّة، قطة ناضجة بدأت تزورني مؤخراً من دون أن أجد مبرراً لذلك سوى إيماني بأنها روح جاءت لتؤنسني، فقد تعاملت معي وكأنها تعرفني، لم تخشانّي أو تهرب منّي
قبل أسبوع من الآن، كنت في طريق عودتي من العمل، حين ركبت سرفيس مهاجرين-صناعة. كان هناك شاب يحمل قطةً صغيرةً استمرت في المواء طوال الطريق، وأنا بقيت أنظر إليها طوال الطريق أيضاً، وتمنيت كثيراً لو أستطيع شراء قطة وتربيتها، وهذه أمنية قديمة تتجدد باستمرار، ولم يسبق لها أن تحققت لسببٍ وحيد فقط، هو أنني أمضي ساعات طويلةً من الوقت خارج المنزل، ولا يمكن في أي حال أن أترك هذا الكائن بمفرده.
نزل الشاب في كاراج "الست"، ومعه القطة واختفى، وأنا نزلت في الكاراج وركبت سرفيس جرمانا. وصلت إلى البيت ونسيت الأمر. في المساء، خرجت لأنشر الغسيل، وتفاجأت بقطة تجلس على الكرسي أمام باب منزلي. للحظةٍ توقفت ولم أفعل شيئاً سوى أنني كنت سعيدةً جداً وأنا أنظر إليها. بقيت أنظر إليها وهي تنظر إلي، ثم خاطبتها: "مسا الخير". دخلتُ، فتبعتني إلى الداخل. فتحت البرّاد ولحسن الحظ كان هناك لبن، فوضعت لها القليل منه في الخارج.
تركتُ الباب مفتوحاً. أنهت وجبتها ثم عادتْ ودخلتْ. احتكتْ بي قليلاً، ولم أستطع لمسها سوى بضع لمسات على رأسها، كونها آتيةً من الخارج، ثم طلبتُ منها أن تخرج. بصعوبة أخرجتها وحزنتُ لذلك، فهذه زائرةُ الظلام، وما أدراك ما ظلامُ الروح ووحدتها. بَقيتْ في الخارج بعد أن أغلقتُ الباب، وجلستْ على الكرسي. في الصباح كانتْ قد رحلتْ. بعدها بيومين عاودت زيارتي وعادت لتجلس على الكرسي نفسه، وما زالت إلى الآن، تواظب على زيارتي؛ تغيب وتغيب ولا تلبث أن تعود.
هكذا استجاب الله لتضرعاتي، وارتفع عدد أصدقائي إلى ستة... "هنّوني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.