تواجه معظم العائلات السورية سؤالاً وجودياً صعباً: ماذا سنطبخ اليوم؟
أفتقد للابتكار في هذه النقطة بالذات، وأحاول التهرب قدر الإمكان من هذا السؤال الضاغط، وأتحجّج بأنني سأطبخ كل ما تريده عائلتي، لكن عليهم أن يتولوا مهمة الابتكار بدلاً عني ويخبروني بما يريدونه، وأنا جاهزة للتنفيذ مهما بلغ تعقيد الطبخة، باستثناء لف اليبرق بالطبع، فهذا ما لن أقوم به في حياتي كقرار نهائي، تجنباً لتشنّج الرقبة والكتفين، فلست مستعدة لتقديم هذه التضحية.
ومع تهربي المستمر من ابتكار الغداء، وبعد الضغط ومع تكراري للاقتراحات ذاتها التي أكلناها منذ أيام، وصل الأمر ذات صباح إلى حد اتهام أبي لي بأنني اختزلت الـ "مينيو" المنزلي إلى أقصاها، وكان ذلك الاتهام هو الشعرة التي قصمت ظهري فعلياً.
فكمثال، استغنينا عن طبخ الأرز واستعضنا عنه بالبرغل بعد أن وصل سعر الكيلوغرام منه إلى 18 ألف ليرة سورية، بينما أرز البطاقة الذكية الخاص بالمواطنين المدعومين، الذين نحمد الله أننا مازلنا منهم، يحتاج إلى كتالوغ في طريقة التحضير، كيلا يلتصق ببعضه ويبدو مظهره كالـ "الحبة وأختها" وليس كعجينة مخبوصة.
استغنينا أيضاً عن جميع الطبخات التي تعتمد على القلي، فزجاجة الزيت بـ 20 ألفاً والغاز قطع نادر إن انقطعنا منه، نوفّر استخدامه بقدر استطاعتنا، فهو مدرج أيضاً على البطاقة الذكية المدعومة التي قد ينولنا منها الدور بعد ثلاثة أشهر أو يزيد من استلام الجرة الأخيرة، وبالمنطق، يستحيل أن تدوم أية جرّة، مهما اقتصدت في استعمالها، أكثر من شهرين حتى لو عصرتها.
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي نهاية الشهر الماضي بخبر وفاة الطفلة السورية زينب، بسبب سوء التغذية ونقص المناعة، وشكل موتها صدمة للمجتمع السوري، وكم من زينب لم نعرف بقصتها ولن نعرفها
بالتالي باتت أكلة المقالي بعيدة تماماً عن المتناول، تشاركها الكوسا بلبن وفتة المكدوس، وكلتاهما، إضافة للقلي، تحتاجان اللحم الذي لا يزور بيتنا إلا زيارات عابرة بمعدل أوقية للطبخة أو نصف أوقية. أما الدجاج الذي لجأ لاستخدامه كبديل معظم من تخلى عن اللحم لارتفاع أسعاره، فيبلغ سعر الدجاجة المشوية 60 ألفاً، وسندويشة الشاورما 10 آلاف، في بلد معدل رواتبه مئة ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 13 دولاراً، حسب سعر صرف السوق السوداء للـ"شوئسمو".
كما لم تعد فكرة المونة والمفرّزات واردة بعد تدهور الوضع الكهربائي، وكلنا جربنا وشكينا مآسينا من هدر الجهد والمال بعد أن اضطررنا لرمي مونتنا المتعفنة من البازيلاء والفول والبامياء في القمامة، بسبب انقطاع الكهرباء لأيام متتالية أحياناً. ورغم لجوء الكثيرات من ربات البيوت إلى الطرق القديمة في تيبيس الخضار بدل تفريزها إلا أن الكل أجمع على اختلاف الطعم حين الطبخ.
أكلات الفرن دخلت أيضاً ضمن الخط الأحمر، فلا كهرباء في هذه المدينة، ولا دجاج، والساعة المتقطعة لا تكفي لنضوج صينية البطاطا ولا لنضوج المعكرونة بالجبن، وبمناسبة الحديث عن الجبن لا داعي أن آتي على ذكر سعر الكيلو منه بأنواعه، وبالتالي لا معكرونة بالجبن في منزلنا بكل تأكيد، لا بيتزا، ولا برك.
اللبنة مخلوطة بالاسبيداج، والحليب مخلوط بالماء، أما الحليب المجفّف فملغي من القائمة، رحم الله أيام النيدو الذي كبرنا عليه، وسعر البيضة الذي يصل الآن إلى 900 ليرة بات المؤشر على ارتفاع أسعار السلع الغذائية بدل الدولار.
هل نحن آمنون غذائياً؟ وهل تأخذ أجساد أولادنا احتياجاتها من الكلس والسكر والبروتين والحديد لتنمو بشكل سليم؟
بالطبع لا. فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي نهاية الشهر الماضي بخبر وفاة الطفلة السورية زينب، بسبب سوء التغذية ونقص المناعة، وشكل موتها صدمة للمجتمع السوري، وكم من زينب لم نعرف بقصتها ولن نعرفها.
بالنسبة لي توقفت منذ زمن عن متابعة جميع فيديوهات الطهي، رغم أنني أحبه، إما لعدم توفر المكونات اللازمة أو لارتفاع ثمنها، ما يجعل تحقيق الطبخة صعباً على أرض الواقع السوري، لا تنتج عن مشاهدتها سوى مشاعر الحسرة والجوع، أو لتعقيد المراحل اللازمة للتحضير التي تترك وراءها كومة من الجلي لن تنتهي بساعتين.
لكن على خلافي، تتابع صديقتي، وهي أم لثلاثة أطفال، فيديوهات الشيف السوري عمر، المقيم في تركيا، وتحاول دائماً إقناعي بمتابعته، فبرأيها أن الوصفات التي يقدمها موجهة خصيصاً لنا كشعب يعاني القلة والتضخم الاقتصادي، لذلك يخترع الشيف البدائل، مثلاً يصنع من فروج صغير واحد أربع طبخات مختلفة، قد تكفي أسرة مكونة من خمس أشخاص أياماً عدة، أو يلغي البيض والزيت من وصفات العجين المعقدة، أما أكثر ما أذهلني أن هذا الشيف ابتكر طريقة لتصنع من حبة جبنة قبّة كافية لحشو كمية هائلة من البرك وقليها بالقليل جداً من الزيت من دون أن يختلف الطعم.
مذهل حجم الابتكار، أليس كذلك؟
ولم لا؟ طالما هناك عائلة فيها أطفال لا تستطيع كبالغ أن تقمع شهوتهم لأكلة ما، ألا يكفي أنهم ولدوا في فترة الحرب، لم يشربوا النيدو ولم يتذوقوا جبنة اللافاش كيري التي يعرفها معظم جيلنا بعلبها الكرتونية المستديرة التي كنا ننتظر دخولها البيت لنشد خيطها الأحمر ونستخرج من داخلها الصورة ذات البقرة الحمراء الضاحكة لنلصقها على أسرّتنا وخزائننا.
استغنينا عن طبخ الأرز واستعضنا عنه بالبرغل، بينما أرز البطاقة الذكية الخاص بالمواطنين المدعومين، الذين نحمد الله أننا مازلنا منهم، يحتاج إلى كتالوغ في طريقة التحضير، كيلا يلتصق ببعضه ويبدو كعجينة مخبوصة
البصل وحده حكاية بحد ذاتها بعد أن وصل سعر الكيلوغرام منه إلى 13 ألف ليرة سورية، في ظل "أزمة بصل" خانقة أشد هولاً من أزمات البنزين والغاز والمازوت والكهرباء، فبعد متابعة أحداث مسلسله التي دامت أكثر من شهر على مواقع التواصل الاجتماعي، تبين أنهم صدّروا النتاج المحلي، فحصل العجز وازداد الطلب، فاضطروا لاستيراده، وبالتالي تغيّر تماماً مفهوم المثل الشعبي القائل "لا يسوى قشرة بصلة" ليتحول إلى العكس تماماً، وتفكّه الفيسبوكييون السوريون، فخطبوا بعضهم بخواتم تزينها بصلة صغيرة بدل الألماس، وبات من موّن البصل مطمعاً لجيرانه المحرومين منه، فيستعيرون بصلة مع تعهد خطي بإرجاعها ما أن تتحسن الأحوال.
كيف عالجت الحكومة أزمة البصل؟
أدرجناه على البطاقة الذكية بالطبع، فأصبح يحق لكل عائلة كيلوغرام كامل من البصل أسبوعياً، لم أكن لأصدق ذلك لولا أني فتحت التطبيق الإلكتروني على موبايلي ورأيته بأم عيني، وحين سألت كيف أستطيع الحصول على مخصّصاتي أخبرني الأصدقاء أن علي أولاً أن آخذ معي كيساً بلاستيكياً، فلا أكياس بلاستيكية في هذه المدينة أيضاً بعد ارتفاع سعر الكيلوغرام منها، لذلك قرّرت المؤسسات الاستهلاكية الاستغناء عنه، وبالتالي إن لم تكن تملك كيساً ستضطر لتعبئة كيلوغرامك من مخصصات البصل في جيوبك وحقيبة يدك وتحمل الباقي في كلتا يديك، ونبهوني كذلك من الطوابير الطويلة واحتماليات نشوب العراك على السيارة المحملة بالبصل فغيرت رأيي.
وبدون البصل، الذي يشكل مكوناً أساسياً في أي وجبة غداء سورية، لا تستطيع صنع المجدرة ولا الحراق أصبعه ولا حتى شوربة العدس، والمقتدر فقط هو من يستطيع أكل الـ "خبزة والبصلة".
بالمناسبة، أمي في العادة تلون بيض الفصح بقشر البصل، لكن هذا العام حتى بيض الفصح "أبو الـ 900 ليرة" ظل أبيض، فعن أي "مينيو" نتحدث.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.