يُسارع باحثون مغاربة وأجانب في الآثار والتراث، خطى استكشاف آثار عبرية ويهودية في واحة أقّا جنوب المغرب، من خلال حفريات مستمرة غير مسبوقة في المعبد اليهودي "تَكاديرت"، لنفض الغبار عن شواهد تاريخية وتراثية تعكس الوجود اليهودي في منطقة سوس والمغرب عموماً.
هذه المهمة الأركيولوجية، جمعت فريقاً مغربياً وإسرائيلياً، ونتجت عنها العثور على وثائق مكتوبة بالعبرية وصفت بالهامة، وهي الأبحاث التي شُرع فيها خلال السنتين الأخيرتين، في سياق مشروع استكشاف وإعادة ترميم التراث اليهودي في الواحات المغربية التي كانت تعرف حضوراً كبيراً لليهود المغاربة، قبل أن يغادر جزءٌ كبير منهم البلاد عام 1967.
"تراث مغربي"
جاءت هذه الحفريات بعد بحث مشترك مع جامعة "بن غوريون" الإسرائيلية. يقول المُشرف عن الحفريات، عالم الآثار والأستاذ في المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، الصغير مبروك إن "البحث حول التراث اليهودي أو المكون العبري من تاريخ المغرب، نقوم به لأول مرة في المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث؛ إذ أنه منذ إحداث المعهد لم تكن هناك حفريات أثرية حول التراث اليهودي المغربي".
معنى ذلك، وفق المتحدث نفسه، أن "الحفريات الأثرية لاكتشاف هذا التراث المُكوِّن للثقافة والهوية المغربية لم يكن قائماً من قبل"، مستدركاً أنه "بطبيعة الحال كانت هناك دراسات تاريخية وتراثية في موضوع الوجود اليهودي في المملكة".
حفريات وحملة أثرية واسعة
قام فريق البحث الأركيولوجي، بالحفريات بمعبد "تكاديرت" في مدينة أقّا التابعة لإقليم طاطا جنوب المغرب، وهي منطقة أمازيغية تنتمي لمنطقة سوس الكبرى، "في الفترة ما بين 27 شباط/فبراير إلى حدود السابع من آذار/مارس الجاري تقريباً"، يذكر المُشرف على الحفريات.
عثر الباحثون على وثائق عبريّة تظهر تنظيم الحياة اليهودية في واحات منطقة سوس جنوب المغرب تعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، وتبرز جزءا من حياة اليهود المغاربة في ما مضى من زمن
لكن قبل ذلك، "قمنا أولا بحملة أثرية السنة الماضية في المنطقة نفسها، واكتشفنا الكثير من الآثار والمنشئات المتعلقة بالطائفة اليهودية المغربية، منها مثلاً معبد "أكرض" بواحة تمنّارت في طاطا، حيث قمنا بحفريات أثرية نتجت عنها مجموعة من الاكتشافات الأثرية المهمة خاصة المخطوطات المكتوبة بالعبرية التي تؤرخ للفترة ما بين القرن 19 والقرن الـ20"، يستطرد عالم الآثار.
جاء ذلك خلال عملية إنقاذ الكنيس اليهودي لـ"تمنّارت" الذي تضرّر من فيضانات عرفتها المنطقة، أسفرت عن العثور على وثائق مكتوبة بالعبرية تتضمن بشكل أساسي عقود شراء وعقود زواج، إلى جانب بعض الوثائق الدينية وبعض التمائم، تعكس نمط عيش اليهود المغاربة في منطقة يغلب عليها الطابع الجبلي الأمازيغي.
حفظ الوثائق وترميم الكنيس
في هذا الإطار، أكد المحافظ الجهوي للتراث الثقافي لسوس ماسة، العربي بيروان، أنه بفضل العملية "أنقذ الكنيس اليهودي بتمنّارت الذي كان في حالة متردية جدّاً ، وحفظت البعض من الوثائق المُتضرّرة في المكان من خلال مختبر لمعالجة الأرشيف".
تابع بيروان في حديثه لرصيف22، أن "الكنيس رُمّم على يد المهندسة المعمارية والباحثة الأنثروبولوجية سليمة الناجي، فيما احتُفظ بالوثائق باعتبارها تراثاً وطنياً في مقر مديرية الثقافة في أكادير".
اللقى الأثرية المُكتشفة في المنطقة ستدلنا على مجموعة من المعطيات الاجتماعية أولاً، وعلى الحياة الاقتصادية ثانياً؛ خصوصا أنها تؤكد توطّن اليهود في المنطقة الجنوبية منذ العصر الوسيط
الاحتفاظ بالوثائق، مع تثمين المواقع الأثرية، بالنسبة إلى المسؤول "دليل على الأهمية البالغة لهذه الاكتشافات، خصوصاً أنها أفادتنا وأعطتنا فكرة جيّدة حول التراث العبري القديم في المنطقة الجنوبية المغربية، كما أعطتنا أيضاً فكرة على نوع اللُّقى الأثرية، وعلى مجموعة من المخطوطات القديمة المكتوبة بالعبرية"، يقول المُشرف على الحفريات وعالم الآثار.
وأضاف "هذه الاكتشافات نعتبرها كعلماء آثار شواهد مادية مهمة لإعادة كتابة التاريخ في منطقة أقّا، وإعادة كتابة تاريخ المغرب بصفة عامة، بحكم أنه تنقصه مجموعة من المصادر وخاصة المصادر الأثرية".
يعتبر الصغير مبروك من جهته أن "اللقى الأثرية المُكتشفة في المنطقة ستدلنا على مجموعة من المعطيات الاجتماعية أولاً، وعلى الحياة الاقتصادية ثانياً؛ خصوصا أنها تؤكد توطّن اليهود في المنطقة الجنوبية منذ العصر الوسيط، إذ كانت أقّا منطقة تجارية مهمة ربطت جنوب الصحراء بشمال المغرب، ولعب فيها التجار اليهود دوراً مهماً".
تعايش في مركز تجاري
في سياق هذا الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي ميّز واحات وجبال طاطا جنوب المغرب، باعتبارها ملتقى للتجارة الصحراوية، التي كانت نشيطة بين المغرب القديم ودول غرب إفريقيا، برزت "قصة التعايش بين اليهود والسكان الأصليين الأمازيغ، الأمر الذي منح الطائفة اليهودية الهوية المغربية ثقافياً واجتماعياً"، يقول الباحث في التاريخ الاجتماعي، الحسن تيكبدار.
يتابع في حديثه لرصيف22، أن اليهود الذين استقروا في واحات المنطقة، خصوصاً في مَلاّح بلدة "تمنّارت"، والملاّح هو الحي اليهودي في مدن وقرى المغرب، قد "تمتعوا بحرية السكن والتملك والبيع والشراء، مما جعل العديد منهم ينجذبون نحو واحة تمنارت النشيطة تجارياً".
بل كان الوجود اليهودي في المنطقة، "مقترناً بمجموعة من الضوابط القانونية والأعراف الاجتماعية التي كانت تخضع لها القبائل برمتها، فيما وفّرت الزعامات المحلية في تمنّارت الأمان لليهود وضمنت لهم مصالحهم الاقتصادية"، يردف الباحث في التاريخ الاجتماعي لوحة تمنّارت.
وذكر المتحدث ذاته، أن "يهود تمنّارت دخلوا مع المسلمين الأمازيغ في علاقات يومية مختلفة، يطبعها في غالب الأحيان طابع تجاري؛ وهي علاقات متبادلة تتميز بنوع من البرغماتية، مع خضوع الساكنة من الطرفين لسلطة أمغار التي تعد أعلى سلطة في القبيلة"، لافتاً إلى أن العلاقة بين المسلمين واليهود في الواحة "تتسم في غالب الأحيان بالاحترام المتبادل".
لذلك، "تحتفظ الذاكرة المحلية لتمنّارت اليوم، بمجموعة من الصور المُركّبة عن الوجود اليهودي، تغلب عليها التصوّرات العفوية المُشبعة بمشاعر الحنين المرتبطة بحسن الجوار والتساكن"، وفق تيكبدار، الذي خلُص إلى أن "استقرار المجموعات اليهودية قديم في المنطقة الأمازيغية جنوب المغرب".
باب مفتوح أمام الفرضيات
غير أنه على المستوى العام، "ليس هناك إجماع متفق عليه بين المتخصصين في تاريخ المغاربة اليهود حول تاريخ التواجد الأول لأتباع هذه الديانة في المغرب الأقصى؛ إذ تتعدد الروايات حول هذا الأمر، معتمدة الكثير من المصادر المختلفة على ما هو شائع في أوساط يهود شمال إفريقيا عموماً ويهود المغرب، خصوصا الحكايات والمعتقدات الشعبية المتواترة"، يرى الباحث في التاريخ اليهودي في المغرب، رشيد دوناس.
وقال دوناس في حديثه لرصيف22، إن المتفق عليه أن تواجد اليهود في المغرب يعود على أي حال، إلى وقت ما قبل المسيحية. وفي هذا السياق يتحدث المؤرخ المستشرق اليهودي ناحوم سلوش عن نقش عبري وجده هو نفسه على شاهد قبر في موقع وليلي الأثري قرب مدينة مكناس، يعود للفترة الرومانية التي ترجع للقرن الثالث الميلادي".
يهود تمنّارت دخلوا مع المسلمين الأمازيغ في علاقات يومية مختلفة، يطبعها في غالب الأحيان طابع تجاري؛ وهي علاقات متبادلة تتميز بنوع من البرغماتية، مع خضوع الساكنة من الطرفين لسلطة أمغار
بناء عليه، "يمكن القول إن بداية التواجد الفعلي لليهود بالمغرب قد بدأ مع بدايات القرن الثالث الميلادي، إذ أقام الوافدون الجدد وسط القبائل الأمازيغية المنتشرة في مختلف ربوع بلاد المغرب، خاصّة في المناطق الداخلية، وكان من نتائج هذا الأمر أن تأثَّر يهود المغرب بكثير من العادات والتقاليد الأمازيغية"، يسجّل المتحدث.
لكن "هناك فرضية أخرى تحتاج الى المزيد من البحث والتدقيق، تذهب إلى أن معظم يهود المغرب، وبالتحديد اليهود الذين عاشوا في المناطق المغربية الداخلية، هم من أصل أمازيغي بعدما تهوَّدً بعض أمازيغ المغرب، وهي الفرضية التي أيّدها الباحث اليهودي حاييم الزعفراني، ويصعب نفي أو تأكيد هذه الفرضية لحد الآن"، يستطرد الباحث في التاريخ اليهودي المغربي.
يفتح كل هذا الوضع، الباب أمام المضاربات والفرضيات المتعددة، لا يخلو معظمها من خلفيات إيديولوجية واعتبارات ظرفية، "لذلك قد تساعدنا نتائج الكشوفات الأثرية الأخيرة في الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتصلة بموضوع الوجود العبري واليهودي في المغرب"، يختم دوناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...