قدم الفنان الفرنسي غوستاف كوربيه تعريفاً بصرياً لـ "أصل العالم" منذ زمن، وتحديداً منذ عام 1866، أي منذ أكثر من قرن ونصف، لكننا لم نعلم بتعريفه هذا إلا حديثاً.
كان عمره 47 عاماً عندما رسم كوربيه أصل العالم بلوحة (مقاسها 46X55 سنتم) تظهر رسمة عانة كثيفة الشعر، لامرأةٍ ممددة على ظهرها دون أن يظهر وجهها. فقط جزء من الثديين في أعلى الرسمة، وبطنها في صدر اللوحة وفخذاها المفتوحان بما يكفي ليكشفا لنا العانة – بطلة اللوحة - قريبة من أعيننا وكاملة وبحجمها الطبيعي.
رسم كوربيه فرج Constance Queniaux، وهي راقصة كانت خليلة دبلوماسي للإمبراطورية العثمانية خليل بيه، وبطلب منه. وهويتها كانت لغزاً، كون الوجه ليس جزءاً من اللوحة، وقد اكتشف هذا اللغز منذ بضع سنوات بسبب ذكرها ببعض الرسائل، وبسبب وجود لوحة أخرى لكوربيه وجدت عندها بعد وفاتها (على الأرجح هدية لها من خليل بيه، وهي لوحة لزهرة الكاميليا التي لطالما تم الربط بينها وبين المحظيات، تحديداً بسبب رواية "غادة الكاميليا" لألكسندر دوماس) وبسبب لون شعر العانة المائل للحمرة بعد مقارنته بشعر كونستانس الأحمر!
كان عمره 47 عاماً عندما رسم كوربيه عانة كثيفة الشعر، لامرأةٍ ممددة على ظهرها دون أن يظهر وجهها، وأسماها "أصل العالم"
هذا العمل ليس لوحة، فاللوحة هي فقط جزء منه، إنما هو بيان بصري أتمّ مقصده عندما عنونَه صاحبه بـ "أصل العالم" أو بلغة البيان الأصلية L'origine du monde.
هي ليست اللوحة الوحيدة لكوربيه التي تظهر امرأة عارية، فقد اشتهر بأسلوب الـerotic realism، لكنها بعد استبعاد الفنان للوجه، صارت الأكثر تركيزاً على العري والأكثر إظهاراً للتفاصيل، تفاصيل المهبل كثيف الشَّعر؛ أصل العالم.
كان كوربيه مشهوراً باختلاف أسلوبه الفني وبرسمه فقط لما يرى، فرسم الحقيقة وأصلها: المهبل بكل بساطة ووضوح. لكن هذه الحقيقة كانت ولاتزال إلى حد ما ضحية الرقابة، كما هي أيضاً ضحية تصنيفات خاطئة تبدأ بالـ Pornography ولا تنتهي بالـ Voyeurism*.
هذا العمل ليس لوحة، فاللوحة هي فقط جزء منه، إنما هو بيان بصري أتمّ مقصده عندما عنونَه صاحبه بـ "أصل العالم".
بقيت لوحة "أصل العالم" معروفة فقط من قِبل قلّة قليلة، هم الذين امتلكوها ومن تسنى لهم التلصص عليها. فمنذ حصل عليها خليل بيه، عُلّقت في حمامه خلف ستارة خضراء، وكان يدعو زواره لمشاهدتها من خلف الستارة، ولاحقاً خسرها بسبب إفلاسه، ثم سُرقت من قبل الجيش السوفياتي، ولاحقاً خُبئت في متحف بودابست، إلى أن اشتراها عام 1955 المحلل النفسي جاك لاكان، فعرضها في بيته لكن غطاها خلف رسمٍ حُفر على خشب يتتبع بخطوطه خطوط "أصل العالم".
وفي الثمانينات بعد وفاة لاكان (1981) عُرضت اللوحة فقط في أماكن ومناسبات خاصة، ثم عرضت للجمهور لأول مرة في متحف بروكلين عام 1988، وانتقلت إلى متحف Orsay عام 1995، وتمت استعارتها كي تعرض في سنتر بامبيدو ميتز في 2023-2024.
أي أن العالم لم يتعرف على أصله إلا منذ 34 عاماً تقريباً، ولكن لم تسلم اللوحة من مقص الرقيب، فقد تم منع عرضها في كثير من البلدان الأوروبية، وكانت شرطة البرتغال مثلاً ترسل عناصرها لتمزيق صورة اللوحة من الكتب التي تظهر فيها أو على أغلفتها. وحتى في كوكب الإنترنت الذي يتيح لك مشاهدة العري بكبسة زر، وفي أشهر تطبيقاته تم إلغاء حساب لمجموعة خاصة استخدمت صورة اللوحة كصورة بروفايل للمجموعة!
أي أن العالم لم يتعرف على أصله إلا منذ 34 عاماً تقريباً، ولكن لم تسلم اللوحة من مقص الرقيب، فقد تم منع عرضها في كثير من البلدان الأوروبية
مات من كلَّف برسم اللوحة، وماتت الموديل، ومات من اشتراها ومن سرقها ومن خبأها، ومات قبلهم كوربيه عام 1877، أي بعد 11 عاماً من رسمه أصل العالم، حين كانت لوحته لا تزال مجهولة ولم يعلم شيئاً عن مصير عرضها خلف ستارة، وعن اهتمام العالم بهوية المرأة صاحبة العانة. وربما لو عرف لما اهتم، لكن "أصل العالم" بقيت. وبعرضها في متاحف العالم حقق ما سعى له بأن يكون كائناً وحشيّاً في مجتمع متمدن للغاية: "In our so very civilized society, it is necessary for me to live the life of a savage. I must be free even of governments"، ورسم منذ أكثر من قرن ونصف ما لانزال لا نتجرأ على لفظ اسمه الآن، في مجتمعنا الذي ازداد تمدناً دون أن يزداد حرية إلا فيما ندر، وفي وجه هذا المجتمع وما سبقه وما سيليه، فعلها كوربيه ولا يزال Rubbing the Origin Of The World on Civilized Society many faces.
*Voyeurism أي الحصول على المتعة الجنسية من مشاهدة الآخرين عراة أو يمارسون نشاطاً جنسياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...