شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ماذا ستكتب على الجدار أيها

ماذا ستكتب على الجدار أيها "المعارض الجديد"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

السبت 28 يناير 202302:43 م

كانت قد مضت شهور عدة على كتابته، حين رأيته لأوّل مرّة، بعد أن لفت أحدهم انتباهي إليه. هي غرفة مضخّة مياه الشرب عند مدخل القرية، حيث يقع جدار مكشوف يراه كل العابرين، إلا أنا ربما، يُعلن بوضوح الموقف الصارم الحاسم: "لا للمعارضين بيننا"، بطلاءٍ أسود على سطحٍ خشن يدوم ويدوم، ولم أدرِ حتى الآن لماذا حصر كاتب الشعار موقفه الرافض للمعارضين "بيننا"، فهل كان يقبل بالمعارضين "بينهم"؟

أحدى عشرة سنةً مضت على كتابة هذا الشعار. أحد عشر حولاً مرّت على إبداع هذه الجدارية الجميلة. هي بالنسبة لي جدارية قطاع خاص، فقد كُتب هذا الشعار لي، لي أنا فقط، إذ لم أعرف في قريتي من يستحق أن يستهدفه الشعار غيري. وبرغم ذلك، لم أتوقف لالتقاط صورة لشعاري إلا هذا العام، بعد أن غطى نباتٌ برّي بعضه، حيث لم تعد تظهر كلمة "بيننا"، فصار الشعار أكثر جذريةً برفض المعارضين بإطلاق. لا يحب هذا النبات المواقف الوسطية الملتبسة.

ربما كُتِب الشعار كي يبرّء كاتبه ذمته ويعلن موقفه ويرضي ضميره، لكن الأرجح أنه كُتِب كي أراه وأرتدع عن موقفي المشبوه الذي سارت بذكره الركبان في القرية والقرى المجاورة، يتناقلون ذكره بامتعاض واستنكار وتساؤل غير المصدق: أمعارضٌ في تلك الضيعة؟ يا للهول.

حينها، توقعت ما هو أسوأ بسبب تهديدات صريحة ومبطنة كانت تصلني. ومن حسن حظي أن حمية الموالاة لم تصل بأحدهم إلى أن يجاهد ضدي، ويفوز بحور عين الجنة الوطنية، نعم نعم، فلمدّعي العلمانية جنتُهم وملائكتهم وآلهتهم، وصحيحُ بخاريهم أيضاً، والخوف دفع ببعض أهلي للدفاع عني بالتأكيد مراراً: "إنه يعارض تحت سقف الوطن"، برغم أني لا أحب الأسقف كلها، أصليةً كانت أو مستعارةً، فأكثر ما تفعله الأسقف المنخفضة، هو تهشيم رأس من يحاول النهوض أو رفع رأسه.

في نواحينا البائسة، التغريد خارج السرب أو حتى بجواره أو التخلّف عنه كان يجعل من المرء هدفاً للتكفير والتخوين، وفرصةً لكتبة التقارير، وفي لحظات التوتر والخوف و"الهياج الوطني"، قد يصبح هدفاً للعنف

في نواحينا البائسة، التغريد خارج السرب أو حتى بجواره أو التخلّف عنه كان يجعل من المرء هدفاً للتكفير والتخوين وجلسات النميمة، وفرصةً لكتبة التقارير، وفي لحظات التوتر والخوف و"الهياج الوطني"، قد يصبح هدفاً للعنف والأذى. في حالتي، اكتفوا برشق بيتي ببضعة أحجار، فشكراً لهم. وللأمانة، تطوّع كثر للدفاع عني بكل السبل، فالطيبة والشهامة لا تنعدمان حتى في أحلك الظروف.

وحين كان فيسبوك، تهمةً واحتمال خيانة وتعاملٍ مع العدو و"القنوات المغرضة"، كان من أبسط الحجج الدامغة على وضعي المشبوه، التأكيد بيقين من أي شابّ بالكاد نبتَ الزغبُ الوطني على شاربه: "هاد من جماعة الفيسبوك"، فيرتجف السامع لوقع الخبر وقد يشهق غير مصدق.

أما السوالف المبتكَرة عن أنشطتي المشبوهة فقد نسبت إلي أعمالاً خارقةً تكفي لتحميلي مسؤولية نصف كوارث البلد، بما فيها ضياع شرق الفرات واستمرار احتلال الجولان. فقد أقسم أحدهم أنه رأى صوري محمولةً على الأكتاف في مظاهرات مدينة بعيدة، وأكد عامل في الجهات المختصة أنه لا أحد غيري من كتب الشعارات المناهضة على طريق رئيسي في الجوار، وهمس مناضلٌ غيور لرفيقه: يتعامل مع الجماعات الإرهابية المسلحة، بحيث هيأت نفسي ليوقفني أحدهم في الطريق ويسأل بكل براءة: كم سعر الكلاشنكوف الآن؟

المضحك في الأمر -إن كان هناك ما يضحك- أنه لو علمت المعارضة بما كنت أفعله وأقوله في تلك الأيام، لعيّرتني بالتشبيح، واتهمتني بالوقوف مع النظام. أجل أيها السادة، الموالاة والمعارضة تشكلان أحياناً فكّي كماشة كبيرة تعصر المرء وتنشره على حبل التخوين والتخوين المضاد حتى يجفّ تماماً.

 لا أعرف من كتب الشعار وهل فعلها مبادراً أم بتكليف؟ ولن أحاول، لكن لو صادف والتقيته، فسأبادره بالقول: سلمت يداك يا صاح، لو أردتَ الآن أن تكتب شعاراً على جدار من دون أن يراك أحد، فماذا ستكتب؟

أن تخالف السائد في محيط "متجانس"، أمر فيه من الطرافة بقدر ما فيه من المغامرة. اختزل أحد اللطيفين المشكلة برمتها سائلاً إياي: "يا زلمي شو كان بدك بهالصرعة"؟ أدركت وقتها أن التعبير عن الرأي في ما يتعلق بالشأن العام في لحظات الاضطراب ليس سوى صرعة يمكن التخلي عنها كرمى لعيون التجانس الوطني والوحدة الصوانية، وصوابية الرؤية التي تأتي من أعلى حصراً. وآخرُ يصرعُني بضربة قاضية حين يباغتني في أول لقاء بالتساؤل الاستنكاري: "يا زلمي ليش مانك بعثي؟ والله أفكار الحزب كويسة لو يطبقوها"، فلا أملك إلا أن أبتسم له ممتناً ومؤكداً: "أشكرك على لفت نظري إلى ما عميتُ عنه لثلاثين عاماً، سأذهب من فوري لتقديم طلب انتساب".

بعضهم كان يخفف من وقع كارثة معارضتي بالقول لي متودداً: "يا أخي إذا القصة بالفساد والأخطاء ترى كلنا معارضة هاه"، متوقعاً أن أقبل عليه فاتحاً ذراعي لأضمه مؤكداً أننا في صف واحد إذاً، و"لا حدّ يباعدنا"، ولا خلاف في الرأي يفرقنا ولا من يحزنون. ولشدة نقمة هؤلاء على الفاسدين والهمّة العالية لمحاربتهم ونصب المشانق لهم بتُّ أخشى على الفاسدين من مجزرة تفنيهم وتحرمنا من إرث وطني عتيق.

مضت السنون وجرى في النهر ما جرى، تغيّر بعضُنا أو غيّر اصطفافه أو زاوية رؤيته، وتراجعت درجة التشنج في المواقف وحدة الصراخ، وليس نادراً أن يقول من سبق وتمنى أذيتي بسبب رأيي: "والله إن ما تكتبه على فيسبوك يشفي غليلي".

بطبيعة الحال لا أعرف من كتب الشعار وهل فعلها مبادراً أم بتكليف؟ ولن أحاول، لكن لو صادف والتقيته، فسأبادره بالقول: سلمت يداك يا صاح، لو أردتَ الآن أن تكتب شعاراً على جدار من دون أن يراك أحد، فماذا ستكتب؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image