ينتمي المُؤرّخ والدبلوماسي اللبناني خالد زيادة (مواليد 1952) إلى قلّة من المؤرّخين العرب الذين راكموا متناً فكرياً مُختلفاً في السنوات الأخيرة، على مُستوى تفاعله مع جملة من قضايا وإشكالات الاجتماع العربي، بحكم تعامله مع الواقع باعتباره نتيجة سلسلة من الأحداث التاريخيّة المُتراكمة والمُترسّبة في بنية الاجتماع، وهي نظرة تقوم على تغليب التاريخي على الفكري في تفسير مُعطيات هذا الواقع الفيزيقي، الذي يقوده دوماً إلى إبتداع أفكارٍ جديدة والحفر في منسيّ التاريخ العربي الإسلامي في فتراتٍ مُتعدّدة من التاريخ، وذلك من خلال جملة نصوصٍ تراثية مُؤسّسة لوعي ومسار الفكر العربي الإسلامي منذ تشكّل بواكيره الأولى إبان الفترة الوسيطيّة إلى حدود منتصف القرن العشرين.
رصد السياق التاريخي العربي
إلاّ أنّ انتماء زيادة إلى حقل التاريخ لم يجعل منه فقيهاً مسكوناً بسحر الماضي، يستعرض أحوال المصادر والمراجع وما تحبل به من أحداث ومعلومات، ولا حتّى مُؤرّخاً تقليدياً مُطمئناً لوثائقه وأفكاره، بل إنّ زيادة يكتب التاريخ من وجهة نظرٍ غربية بامتياز حيث الاعتماد على النفس التحليلي يبدو بارزاً على مُستوى النصوص التراثية التي يطرق بابها من أجل الفحص والنقد. هذا وإنْ كان استعراضه لها يأتي من باب رصد السياق التاريخي العربي، الذي يشتغل وفق أفقه السياسي وتصوّره الاجتماعي.
ينتمي إلى قلّة من المؤرّخين العرب الذين راكموا متناً فكرياً مختلفاً في السنوات الأخيرة، وحاولوا الحفر في منسيّ التاريخ العربي الإسلامي من خلال جملة نصوصٍ تراثية
والحقيقة أنّ ما يجعل من كتاباته تحظى باهتمامٍ بالغ من لدن الباحثين أنّه لا يُقحم نفسه فيما ذهب إليه الباحثون العرب، إذْ نعثر لديه على عناوين مغايرة تتّصل بالتاريخ العربي وفق منظورٍ اجتماعي أو ثقافي، لكن من وجهة نظرٍ تاريخيّة محضة تستعرض آراء المُفكّرين والمُؤرّخين تجاه قضية فكريّة ما، فيُقيم معها سجالاً فكرياً يُثمّن به أفكارها، ثم ينتقدها ويُفكّكها في آن واحد، بل يذهب في أحيانٍ كثيرةٍ إلى تبيان جذورها التاريخيّة والسياسيّة وإقامة نوعٍ من المقارنة الفكريّة على مستوى تباين بعض الروايات التاريخيّة، فتُصبح أبحاث خالد زيادة في هذا الموضع الإبستمولوجي بمثابة كتابةٍ جديدة، وهي تحفر في آراء المُفكّرين وتُشذب غريب الكلام وتوضّح سياقاتها ودلالاتها، كما هو الشأن مع كتابه "المسلمون والحداثة الأوروبية".
اختراق التاريخ الفنّي
لم يهتم اللبناني خالد زيادة بكتابة التاريخين السياسي والاجتماعي فقط، بل تجرأ حتّى على اختراق التاريخ الفنّي من خلال كتابه الهام "المدينة العربيّة والحداثة" (دار الريس) وهو ما جعلني شخصياً أهتم بكتابات زيادة حول طرق وآليات تشكّل المدينة الإسلامية وارتطامها في لحظة من مسارها بالاستعمار وتحديث النظام المديني العربي بمفاهيم الذاكرة والتراث والتحديث والحداثة والمعاصرة.
مفاهيمُ استرعت زيادة فعمل على تشريحها بشكل مُضمر في كتابه هذا. لم يُنجز زيادة بحثاً تاريخيّاً مونوغرافياً عن مدينةٍ بعينها، وإنّما جعل ذاكرته تغوص في فيزيونوميّة المُدن الإسلامية بتضاريسها وأشكالها وجماليّة هندستها، فقدّم لنا عملاً متيناً يُوازي فيه بين الذاتي والتاريخي والفكري والجمالي. إذْ نادراً ما يعثر الباحث على مؤلّفاتٍ داخل العالم العربي تهتم بالمعمار والتشكيل والفوتوغرافيا من وجهة نظرٍ تاريخيّة، مقابل بروز كتب تاريخيّة تتّصل في مُجملها بالسياسة والاجتماع والاقتصاد. وبالتالي، فإنّ صدور كتاب مثل "المدينة العربيّة والحداثة" تكون الثقافة العربيّة المعاصرة قد استعادت بعضاً من عافيتها على مُستوى الانتماء إلى الحداثة.
فهذا الجنوح صوب التاريخ السياسي لا يُمكن تفسيره إلاّ كنوعٍ من التأخّر المعرفي الذي يجعل هذه الثقافة لا تنتبه إلى ما يحدث اليوم داخل مجال البحث العلمي في الزمن المعاصر. فقد ولّى الوقت الذي كانت فيه السياسة تُشكّل مدخلاً معرفياً ناجعاً لفهم الرجّات التي طالت التاريخ، بقدر ما غدا الفنّ بمُختلف مُمارساته البصريّة نافذة جديدة للكتابة التاريخيّة، وهي تغوص في مُتخيّل اللوحات وسلم الصُوَر السينمائية وشروخ التيجان المعمارية.
نشأة المدينة العربيّة
جاء اهتمام خالد زيادة بفنّ العمارة انطلاقاً من معيشه اليوميّ في لبنان ومُعايناته اللصيقة بمعمار بلده وناسه. فقد فطن إلى جملة من الملاحظات الدقيقة التي قادته إلى تسجيل ملاحظات فكريّة حول نشأة المدينة العربيّة، من خلال اعتماد على سجّلات المحاكم الشرعية الخاصّة بالحقبة العثمانية. وبما أنّ الاهتداء إلى هذه السجّلات يُعد أمراً نادراً داخل مجال الكتابة التاريخيّة، سيما أنّ هذا التقليد على مُستوى البحث المنهجي كان قد اهتم به العديد من المؤرخين الأجانب مثل روبير مانتران وأندريه ريمون.
ونظراً إلى حيويّة الفضاء المَديني العربيّ، فإنّ المؤرّخ يجد نفسه أمام عشرات الوثائق المكتوبة والأثريّة والبصريّة القادرة على تشكيل تاريخٍ مونوغرافيّ جديد لفضاءات المدن العربيّة، ويقودها إلى البحث عن كتابة تاريخيّة، غير مسكونة بالماضي، بقدر ما تجعل ممّا هو موجود في الحاضر وسيلة لفهمه ونقده وإعادة اكتشاف سحره مرّة أخرى.
لم تكُن الكتابة بالنسبة لخالد زيادة عملية مضنية ترتبط بالبحث عن الوثائق وتجميعٍ لمادّة الكتاب، بل كانت أشبه بجرحٍ فكريّ يُهدّم المُعتّق في جرار الزمن
على هذا الأساس، يُسلّط زيادة في كتابه هذا الضوء على توضيح لبعض المفاهيم المُرتبطة بالمدينة وأسباب ونشأة التسمية بين "المدينة العربيّة" و"المدينة الإسلامية" ورصد مُختلف التمظهرات الفنّية والجماليّة للمدينة العربيّة، مع إمكانية التفكير في المسارات التي قطعتها من التقليد إلى الحداثة والمراحل التاريخيّة التي تقاطعت فيها مع الحضارة الغربيّة وما رافقها من عملية تأثير وتأثّر.
وبقدر ما نعثر على موضوعات الكتابة أصيلةً وجادّةً في مُنطلقاتها العلمية وتجلّياتها المعرفية، تبدو الكتابة وكأنّه يُطلق إشاراتٍ ضوئية تدق ناقوس الخطر من فرط التكرار الذي يطبع الكتابة التاريخيّة، وكيف تحوّلت إلى ما يُشبه السرد الروائيّ، بسبب عدم تجديد الوثائق والثورة عليها، انطلاقاً ممّا تُتيحه المرحلة الراهنة من إمكانية الوصل إلى وثائق جديدة تظلّ الصورة بكافّة مُتخيّلها الفنّي مادة خصبة قادرة على استنبات قضايا وإشكالاتٍ جديدة ذات صلة بالتاريخ العربي.
لذلك لم تكُن الكتابة بالنسبة لخالد زيادة عملية مضنية ترتبط بالبحث عن الوثائق وتجميعٍ لمادّة الكتاب، بل كانت أشبه بجرحٍ فكريّ يُهدّم المُعتّق في جرار الزمن، وما توارثه المعاصرون في ميكانيزمات الكتابة التاريخيّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين