شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"أعمام وأخوال وأصهار"... العمق العائلي بين أطراف الحدود السورية الأربعة...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الأربعاء 5 أكتوبر 202211:17 ص

خلال حديث مع صديق في العام 2007 آمنت للمرة الأولى أن الحدود التي ترسم أشكال البلاد وهم سياسي أمام العلاقات الإنسانية التي تجمع بين القاطنين على طرفيها. فصديقي الذي ينحدر من قرية الجانودية بريف إدلب الشمالي، كان يجتاز الحدود مع تركيا كلما زار قريته، والزيارة لم تكن إلا للقاء حبيبته التي أذكر أن اسمها "نازك".
شدني حينها شرحه للأمر بأن أخواله يعيشون في قرية تعتبر تركية سياسياً لوقوعها ضمن أراضي لواء اسكندرون الذي احتلته تركيا في القرن الماضي، ولا يحتاج الأمر منه سوى السير نحو عشر دقائق ليكون في قرية محبوبته، ولم يكن الأمر بالنسبة له يحتاج لفيزا عبور، فالمخافر الحدودية حينها لم تكن تعطي بالاً لمن يعبر منفرداً خلال ساعات الليل، وكان تركيز حرس الحدود من الجانبين السوري والتركي منصباً على عمليات تهريب البضائع وحسب، فتهريب البشر لم يكن معمولاً به قبل الحرب.

شمالاً... قصة حب بين بلدين

المرة الأولى التي اقتربت فيها من شريط حدودي كانت في العام 2008 خلال زيارة لمدينة الدرباسية شمال محافظة الحسكة على الشريط الحدودي مباشرة، وكان لأي شخص القدرة على الوصول إلى الشريط الحدودي ليضع قدماً في سوريا وأخرى في تركيا، بل إن مطعماً لا يبعد عن الحدود سوى مئتي متر فقط كان يقدم وجبات "الكباب والسودة" لسائقي الشاحنات التي كانت تعمل قرب البوابة الحدودية.
في حديث أذكره جيداً، تكرر مشهد دهشتي حين عرفت أن سكان القرى القريبة من الحدود قد يجتازونها بسهولة إذا ما سمعوا صوت عرس في قرية قريبة، بل إن سكان هذه القرى وعلى امتداد ما يقارب 900 كم تبدأ من مدينة المالكية شرقاً حتى كسب في محافظة اللاذقية يمتلكون علاقات قربى مع عوائل باتت تحمل الجنسية التركية بعد رسم الحدود إبان الحرب العالمية الأولى التي تسمى وفقاً لمصطلحات التاريخ الذي يتم تدريسه في سوريا بحدود سايكس بيكو، نسبة لمعاهدة تقاسم الشرق الأوسط الذي حصل بين بريطانيا وفرنسا بعد انسحاب الدولة العثمانية وتفككها.
يقول مالك الحسين (35 عاماً) لرصيف22 إن صلات القرابة بين أبناء العائلات على طرفي الحدود السورية - التركية، لم تكن معنية بالحدود التي كانت عبارة عن أسلاك شائكة أو (تيل مانع) حسب لفظ سكان المنطقة، والتي كانت مهملة ولا يعنى أي من طرفي الحدود بترميمها. وفي بعض الأماكن وجدت سواتر ترابية بارتفاع لا يزيد عن متر، أو لم تكن الحدود موجودة على الأرض أساساً، فقد يدخل المرء أو يجتاز الحدود إلى الأراضي التركية أو السورية دون أن يعلم هو نفسه ذلك.

لم تكن الحدود موجودة على الأرض أساساً، فقد يدخل المرء أو يجتاز الحدود إلى الأراضي التركية أو السورية دون أن يعلم هو نفسه ذلك

ويضيف: "زوجتي تحمل الجنسية السورية، لكن عائلتها تقيم منذ ما قبل الحرب في قرية تقع ضمن الأراضي التركية وقد حملوا الجنسية التركية لاحقاً. غالباً هناك قربى بسبب وجود عشائر عربية تعيش في الجنوب التركي مثل النعْيم والشرابيين، وقربة العشائر هي صلة دم لا تعرف ولا تعترف بالحدود السياسية بين أي بلدين.

العراق شرقاً... أنساب وأصهار

القبائل العربية التي تسكن منطقتَي حوض الفرات والجزيرة السورية تمتلك امتداداً بشرياً في العراق، وهذا الامتداد كان سبباً أساسياً في تعاون العشائر بمعركة تل النسورية التي جرت ضد القوات الإنكليزية في العام 1919 وسبباً في نصرة العشائر لثورة مهمة في تاريخ محافظة دير الزور تعرف باسم ثورة البوخابور نسبة لإحدى قبائل ما يُصطلح عليه اليوم بشرق الفرات. كما أن تعداد عشيرة الجبور في العراق قد يصل لضعفي تعدادها في سورية لكن أمير هذه القبيلة سوري وورث منصبه عن أبيه، ومركز هذه الإمارة يقع في بلدة تل براك شرق محافظة الحسكة، وهي إمارة عشائرية، حدودها تمتد إلى حيث يقطن أي فرد من العشيرة في البلاد العربية، وهي بالطبع ليست إمارة بالمعنى السياسي.
والحال نفسه لعشيرة البقارة التي يلفظ اسمها بقلب القاف كافاً، وعشيرة طيء التي يعيش أميرها حالياً في مدينة القامشلي، وثمة عشائر مثل شمر وحرب والعكيدات والعُبيد والدليم يعيش أبناؤها في سوريا والعراق، وبالنسبة للعشائر فإن وحدة النسب والدم تلغي الحدود ولو ترك الأمر لقادة هذه العشائر لتم إلغاء الحدود بين الدولتين.
يستذكر الأربعيني محمد الخليل خلال حديثه لرصيف22 أواخر تسعينيات القرن الماضي حين فتحت الحدود مع العراق إثر قطيعة استمرت لسنوات طويلة، وما إن بات التنقل مسموحاً بين طرفي الحدود وباستخدام الهوية الشخصية، حتى باتت الزيارات العائلية أو العشائرية تأخذ حيزاً كبيراً من حياة سكان الشرق السوري، فهناك نساء عراقيات متزوجات من سوريين كنّ محرومات من زيارة ذويهن لفترات طويلة، كما إن عوائل أخرى كانت تسمع أن لها أقارب مباشرين في العراق ولا تعرفهم. فأن يقول جملة مثل "أخوالي في العراق"، فذاك قد يعني خؤولة الأب لا الخؤولة المباشرة، وبالتالي فإن التواصل معهم واجب مجتمعي بحت.
محمد الذي يعمل سائقاً لسيارة تاكسي عمومية في دمشق هو أحد الذين نزحوا بحثاً عن عمل في العاصمة بعد أن عصف الجفاف بالشرق السوري منذ ما قبل الحرب، يقول إن أهل قريته الواقعة شرق بلدة اليعربية ينقسمون بين الجنسيتين السورية والعراقية، وذلك بفعل أن القرية نفسها وعلى قلة تعداد منازلها تنقسم بين الأراضي السورية والعراقية.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي حين فتحت الحدود مع العراق إثر قطيعة استمرت لسنوات طويلة، وما إن بات التنقل مسموحاً بين طرفي الحدود وباستخدام الهوية الشخصية، حتى باتت الزيارات العائلية تأخذ حيزاً كبيراً من حياة سكان الشرق السوري

والأمر لا يعود لترسيم الحدود بين البلدين وحسب، بل إن تمدد أي قرية وتوسعها يقومان على بناء منازل جديدة في أرض القرية من قبل المقبلين على الزواج، وغالباً ما يكون البناء في أقرب نقطة ممكنة من منزل ذوي الشاب وهذا ما تسبب ببناء البعض منازلهم في الجزء العراقي رغم أنّهم سوريون والعكس صحيح، وسكان القرية هم أقارب لجد واحد، وهو ليس أمراً استثنائياً في تلك المنطقة وصولاً إلى آخر القرى الحيّة جنوب مدينة البوكمال بريف دير الزور الشرقي.

الأردن جنوباً... أخوالنا وأعمامهم 

يمكن وصف العلاقة بين العائلات الدرعاوية ونظيراتها في محافظة إربد شمال الأردن بالدم الواحد، فثمة مثل شائع أن "الدرعاوي عم الربداوي، والربداوي خال الدرعاوي" نظراً لعمق علاقات القربى بينها، فالعائلات التي تقطن درعا هي ذاتها التي تقطن الرمثا في محافظة إربد، وحين فاز نادي الرمثا ببطولة الدوري الأردني الموسم الماضي سمعت أصوات الاحتفالات في منطقة نصيب السورية وما حولها، ولو دققنا في أسماء لاعبي غزلان الشمال، كما يطيب للشارع الرياضي أن يلقب نادي الرمثا، لوجدتهم من عوائل مشهورة في درعا مثل الزعبي وأبازيد وهي عائلات حافظت على امتدادها العائلي في جغرافيتها المتوارثة رغم الحدود، ولهذا السبب كان لجوء سكان الجنوب السوري نحو شمال الأردن الحل الوحيد حين استعرت نيران الحرب السورية.
حين فاز نادي الرمثا ببطولة الدوري الأردني الموسم الماضي سمعت أصوات الاحتفالات في منطقة نصيب السورية
لقد حملت العلاقات الاجتماعية الجنوبية صفحة جديدة من تاريخ القربى، ففي الوقت الذي زادت فيه نسبة التواصل بين أبناء العائلة الواحدة بعد لجوء السوريين  إلى الأردن، انقطع التواصل المباشر مع من بقوا داخل سوريا لسنوات عدة.
تقول نور التي بقيت في محافظة درعا إن المصاهرة زادت بين السوريين والأردنيين خلال فترة الحرب لكون المخيمات تحولت لما يشبه المدن السورية في شمال الأردن.
يقول أحد تجار مدينة درعا الذي فضل عدم ذكر اسمه لرصيف22: "الأردنيون من محافظات عدة وليس من إربد وحدها كانوا يزورون الأراضي السورية لتبضع الاحتياجات الأساسية والاستطباب بشكل مستمر نظراً لفوارق الأسعار الكبيرة، وكان من الطبيعي أن تكون درعا مقصدهم الأول نظراً لقربها من الحدود ولوجود علاقات قربى بين جزء كبير من الزوار الأردنيين وسكان هذه المحافظة، لكن الأمر انقلب الحال جذرياً خلال الحرب، فنادراً ما تجد سورياً في زيارة لذويه في درعا، فما بالك بالأردني الذي له أقارب في درعا التي لم تزل تشهد توترات أمنية بين الحين والآخر رغم المصالحات التي أجرتها الحكومة مع الفصائل المسلحة والتي أعادت الهدوء إليها".

لبنان غرباً... الشقيقة اللدودة

لا تقف علاقات القربى بين العائلات السورية واللبنانية التي تعيش على طرفي الحدود عند حاجز طائفي. يقول محمد عيسى المتحدر من ريف حمص الغربي إن الحدود مع لبنان من العريضة جنوب طرطوس حتى جديدة يابوس غرب دمشق، وصولاً إلى بيت جن جنوب غرب العاصمة، لم تكن إلا وهماً غير محسوس بالنسبة للسكان حتى بداية الحرب في سوريا، وخاصة في ريف طرطوس وحمص حيث العلاقات المجتمعية بين سكان طرفي الحدود وثيقة وقديمة، فلكل عائلة تسكن غرب أو شرق الحدود أقارب على الطرف الآخر، وقد تسببت الحرب بنشوء علاقات قربى جديدة من خلال حالات الزواج التي شهدتها منطقة وادي خالد اللبنانية، حيث تصاهر كثير من سكان هذه المنطقة مع السوريين الذين لجأوا إلى لبنان.
الحدود مع لبنان من العريضة جنوب طرطوس حتى جديدة يابوس غرب دمشق، وصولاً إلى بيت جن جنوب غرب العاصمة، لم تكن إلا وهماً غير محسوس بالنسبة للسكان حتى بداية الحرب في سوريا

العلاقات بين الأسر السورية واللبنانية لم تكن تقف عند الحدود الطائفية طوال الوقت، فكثيراً ما نجد سنياً سورياً متزوجاً من شيعية لبنانية أو العكس، وفي دمشق القديمة، نجد الكثير من العائلات التي تحمل الجنسية اللبنانية لكنهم بسبب طول عيشهم في دمشق، يُعرفون بأنهم سوريون (شوام) أكثر مما هم لبنانيون وبرغم الحرب لم يغادروا الأراضي السورية.

حدود عالية

الحكومة التركية وجدت في بناء جدار عازل للحدود مع سورية حلاً لمخاوفها الأمنية وفقا لتوصيفها الرسمي، بما يمنع حركة البشر بين طرفي الحدود أياً كانت الأسباب، فمنذ بداية الحرب سقط عدد كبير من الضحايا برصاص قوات حرس الحدود التركية التي تعرف باسم الـ"جندرما"، كما تعرض عدد غير معروف للاعتداء الجسدي من قبل القوات التركية خلال محاولة العبور إلى الجنوب التركي، وإن كان العبور حالياً بهدف الهجرة نحو أوروبا، فإن انعكاسات هذا الجدار على العلاقات الاجتماعية بين العوائل القاطنة على طرفي الحدود سيكون ممتد الأثر لما بعد الحرب.
تأثرت هذه العلاقات العائلية بشكل كبير خلال الحرب نتيجة لانقطاع التواصل المباشر مع من بقي ضمن الأراضي السورية، فجزء كبير من سكان الشمال هجر قريته ليسكن الأراضي التركية مع اقتراب أصوات الرصاص من مكان سكنه السابق، وبشكل قطعي لن يكون ثمة قصص عشق يمكن فيها لشاب أن يعبر الحدود متى هزه الشوق لحبيبته، مثلما كان يفعل مصطفى الذي غابت أخباره منذ بدء الحرب.
الجدار العازل كان خيار الحكومة العراقية أيضاً لمنع حركة التنظيمات الإرهابية، بين طرفي الحدود، وقد نفذت بغداد بالفعل جزءاً من هذا الجدار شرق مدينة الشدادي السورية، كما أن إجراءات الدخول بين البلدين تغيرت جذرياً، ولم تعد الهوية الشخصية كافية للسوري ليعبر من البوابات الحدودية، فبدون تأشيرة لن يتمكن من دمغ جواز سفره بخاتم الدخول الرسمي من السلطات العراقية، ما يعني أن شكل التواصل المجتمعي بين العوائل والعشائر تغير ثانيةً، وربما للأبد.
أردنياً، تم رفع سواتر ترابية على امتداد الشريط الحدودي، وإذا صدقت الشائعات وبنى الأردن جداراً على حدوده الشمالية، واستكمل العراق ما يبنيه، فستصبح سوريا محاطة بالأسوار من ثلاث جهات فيما حدودها الغربية مفتوحة على بحر، وعلى سلسلة جبلية شاهقة ووعرة تفصله عن لبنان، لكن ذلك لن يلغي صلة الدم التي ربطت سكان الأقاليم قبل قيام الدول الحديثة وقبل ترسيم الحدود. 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image