المصادفة جاءت إليّ بصورة الشيخ بخيت. لعلها صورة وحيدة لشيخ ألف كتباً انتهى مفعولها، وشغل منصب مفتي الديار المصرية، ولا يزال يشغلنا بأثر خطير، باق ساري المفعول، وإن نسينا اسم زارع اللغم. صورته أغرتني أن أتتبع أثره. وآمل أن أشفى من تقصي البدايات.
كان الفيلم القصير "دنيا الله" (عام 1968) أول عمل سينمائي من أدب نجيب محفوظ. أعتبره أقرب الأفلام تمثّلاً لفلسفة محفوظ، وتجسيداً للقلق الوجودي، والسؤال عن السعادة. أخرج الفيلم إبراهيم الصحن، وقام ببطولته صلاح منصور وناهد شريف. في التترات لوحة بها خمسة أسماء يتوسطها "محمد فؤاد يس"، الذي نطق جملتين في ثوان. ثم صار محمود ياسين نجم السبعينيات.
لا يذكر اسم الشيخ محمد بخيت المطيعي الآن، إن ذُكر، إلا مقترناً بدستور 1923، وجنايته على المستقبل بمادة ملغومة، متعددة الانشطارات، تتكون من سبع كلمات: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".
بدد التحالف العسكري الإخواني السلفي فرصة ذهبية لبناء دولة القانون. وترنحت سفينة الثورة، وفقاً لنوع الموجة وقوتها، فاقتربت ونأت، وابتعد معها حلم الدولة المدنية
أما الآثار الأخرى للشيخ فليس لها أثر. في كتاب المفتي الحالي الدكتور شوقي علام "دار الإفتاء المصرية... تاريخها ودورها الديني والمجتمعي" 33 سطراً عن الشيخ بخيت (1854 ـ 1935)، وقد تولى منصب المفتي عام 1914 بقرار من السلطان حسين، وأحيل إلى المعاش في تموز/يوليو 1920، وأصدر 2028 فتوى. ومن مؤلفاته قبل تولي مهام الإفتاء "إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة" و"رسالة الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية".
الشيخ بخيت أجاز الاستماع إلى القرآن من الفونوغراف في "رسالة إزاحة الوهم وإزالة الاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكورتاه" وهو التأمين على الحياة. وفي كتاب دار الإفتاء المصرية لا تشمل صفحة الشيخ بخيت أعماله كلها. وبعض عناوين كتبه خلا من التدقيق، كما جاء في إزالة الاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكرتاه (كذا). ولكن الموقف الفارق جرى بعيداً عن التأليف، شهدته مناقشات كتابة دستور 1923، بعد أربع سنين من ثورة رفعت شعار "الدين لله والوطن للجميع". ولم تكن بريطانيا، دولة الاحتلال، لتغفل الأبعاد الاجتماعية في أحداث ثورة 1919، وتأثير اليسار المصري بين الطبقة العاملة، بعد عامين على نجاح ثورة تشرين الأول/أكتوبر البلشفية في روسيا.
قبل تأسيس الحزب الشيوعي المصري، مطلع العشرينيات، شغل للفكر الاشتراكي مساحة وسط أفكار تتصارع، منذ نهايات القرن التاسع عشر. سلامة موسى نشر كتاب "الاشتراكية"، عام 1913. وبعد عامين صدر كتاب "تاريخ المذاهب الاشتركية" لمصطفى حسنين المنصوري الذي ترجم كتاب "التقدم والفقر" لهنري جورج.
أصوات أزعجت سلطات الاحتلال؛ فسرّبت إلى الشيخ بخيت، في آب/أغسطس 1919، خطاباً بتوقيع مسلم هندي، يسأله عن حكم الدين في طريقة البلشفية؟ فأجاب المفتي بأنها ضد الشرائع السماوية، وخصوصاً الإسلام. رد يساريون على المفتي ببيان عنوانه "خدعوك يا بخيت". وهنا نشأ ثأر بين الاشتراكيين والشيخ الذي أسر الخصومة في نفسه، وأبداها لزملائه أعضاء لجنة كتابة دستور 1923.
الشيخ لم ينس الثأر، واقترح مادة الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، فأحرج بها أعضاء لجنة الدستور. هل أوعز إليه الاحتلال بهذه المادة؛ لإيقاع الفرقة بين المسلمين والمسيحيين؟ زرع الشيخ فتنة هذه المادة، فواجهها وطنيون منهم محمود عزمي (1889 ـ 1954)، بمقال عنوانه "العقيدة الدينية في لجنة الدستور"، ينبه إلى أن وجود نص دستوري على أن "للدولة دينا رسمياً... سيجر على البلاد ارتباكاً قد ينقلب إلى شر مستطير... سيأتي وقت على سكان مصر في هذا القرن العشرين فتقطع الأيدي والأرجل من خلاف... نحن نلفت النظر وسنستمر على لفت النظر إلى الخطر المحدق بنا الذي يجيء عن طريق هذا النص".
دستور 1923 يضم 170 مادة، وتحتل مادة الدين رقم 149، في الباب السادس "أحكام عامة"، ولعل الترتيب المتأخر للمادة كان حلاً توافقياً. ودستور 1930 الدكتاتوري به 156 مادة، وصارت هذه المادة رقم 138، في الباب السادس أيضاً.
وفي مشروع دستور 1954 تقول المادة الثالثة: "المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو الطوائف الدينية أو الآراء السياسية أو الاجتماعية". أما دستور "جمهورية مصر" لعام 1956 فيشمل 196 مادة، وقفزت مادة الفتنة إلى المركز الثالث في دستور "الدولة المصرية"، وأضيفت فصلة (،) بين دين "الجمهورية المصرية" ولغتها.
ازدحمت الفقرة السابقة بأرقام ثقيلة الظل، لم تخفف وقعَها الكلمات. ألوذ بالكلمات فأقول إن دستور 1958 انتصر لمدنية دولة الوحدة المصرية السورية (الجمهورية العربية المتحدة)، فالقانون حكمٌ عدل، بضمانة نص المادة السابعة: "المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة". واستبعدت الكلمات السبع لمادة الشيخ بخيت. ثم قدم رئيس الجمهورية أنور السادات لليمين الديني، في دستور 1971، عربون صداقة، فصعدت مادة الفتنة "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع" إلى المركز الثاني إلى اليوم، مزيدة غير منقحة.
دستور ما بعد الإخوان (2014) يحتفظ بالفخاخ، ويدعمه توافق ديني عسكري، في انتظار تناقضات تسمح بثغرة في جدار يزداد كل يوم ارتفاعاً
أضاف دستور السادات ست كلمات عن الشريعة الإسلامية، وأبقى على اللغة العربية بين دين الدولة وشريعة دينها. أضاف الشريعة مصدراً، بالتنكير، مع مصادر أخرى لم يذكرها الدستور الذي انتظر حتى عام 1980 ليُحكِم المتشابه، بإضافة (ال)، لتصبح مبادئ الشريعة "المصدر الرئيسي للتشريع". بالألف واللام قايض السادات اليمين الديني، وعدل المادة 77 من دستور 1971 التي كانت تسمح بإعادة انتخاب الرئيس "لمدة تالية ومتصلة"، فأجازت "إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخرى". لم يهنأ السادات بهذا التعديل. قتلوه بعد سنة، وأهدوا هذا النص الأبدي إلى حسني مبارك فلبث على صدر البلاد ثلاثين عاماً. ولم تكن لتخلعه إلا معجزة، فكانت 25 كانون الثاني/يناير 2011.
المادة الثانية من الدستور، رشوة السادات، صارت من حقائق الإسلام. يتعطل أحد أركان الإسلام بسبب فيروس كورونا، ولا يجرؤ أحد على التفكير في المساس بمادة الشريعة. ليست مادة دستورية، هي الركن السادس في الإسلام، غير قابلة للنقاش باعتبارها من الثوابت التي لا يكتمل إسلام المسلم ولا وطنية المصري المسيحي إلا بالإقرار بها.
في الدستور نفسه مادة تحظر قيام الأحزاب على أساس ديني. إذا كان الإسلام دين الدولة؛ فلماذا نمنع الأحزاب الدينية؟ أقرت المادة الثانية من دستور 1956 مبدأ "السيادة للأمة"، وعدلت هذه المادة "الثانية" في دستور 1964 فأصبحت "السيادة للشعب". وطالب السلفيون بأن يتضمن الدستور العنصري (2012)، مادة "السيادة لله".
هل خافوا على الله أو على الشعب أن يعبد الشيطان؟
كنا نسخر من حشر اللغة بين دين الدولة وشريعتها، وننتظر لحظة مواتية لإلغاء هذه العنصرية. كنا سذجاً، وأخلينا الشوارع والميادين لليمين الديني، وخاطبنا أنفسنا ببيانات نستهلكها بنصر متخيل. في 16 شباط/فبراير 2011 صدر بيان عنوانه "نحو دولة علمانية" يطالب بضرورة تعديل هذه المادة، "بما يتوافق مع متطلبات التحديث والإصلاح التي نادى بها شباب ثورة 25 كانون الثاني/يناير، عملا بمبدأ الدين لله والوطن للجميع"، لأن مبدأ العلمانية في الدولة المدنية "ليس نفياً للدين، أو نفياً لحق المواطن في ممارسة الشعائر، بل هو دعوة صريحة لفصل الدين عن الدولة ومبادئ التشريع فيها، بما يكفل لكل مواطن حقوقه الأساسية المشروعة"، ومنها حق التعبير والاعتقاد.بدد التحالف العسكري الإخواني السلفي فرصة ذهبية لبناء دولة القانون. وترنحت سفينة الثورة، وفقاً لنوع الموجة وقوتها، فاقتربت ونأت، وابتعد معها حلم الدولة المدنية بالإبقاء على المادة الثانية، وتلغيم دستور الإخوان (2012) بمتفجرات لم تخطر بخيال الشيخ بخيت؛ مواد ترشحه للانضمام إلى قائمة الدساتير الطائفية، ما قبل الثورة الصناعية. منحوا المادة الرابعة للأزهر الذي يتولى "نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية". وتقول المادة 11 إن الدولة ترعى "الأخلاق والآداب والنظام العام... والحقائق العلمية، والثقافة العربية، والتراث التاريخي والحضاري للشعب؛ وذلك وفقاً لما ينظمه القانون".
تخلصت ثورة 23 تموز/يوليو 1952 من مادة الشيخ بخيت؛ لأن الثورة حكمت. لكن 25 كانون الثاني/يناير 2011 حوكمت
مادة مضحكة، بدا فيها العباقرة أحرص خلق الله على أن ترعى الدولة المصرية، فيما ترعى، "الحقائق العلمية"؛ فلا يشكك مواطن، في لحظة سكر أو معصية، في قانون الجاذبية الأرضية، فينتفض نيوتن في قبره! ثم تأتي عصا موسى، المادة 219: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة". وكان ضحاياها أربعة من الشيعة جنوبي القاهرة، قتلوا وسحلوا في حزيران/يونيو 2013، وسط هتاف الفرحين بالنصر: "الله أكبر". وتفاخر ياسر برهامي، في ندوة عامة، بتمكنه من التحايل على المدنيين حتى تمت الموافقة على المادة 219 من دون أن ينتبهوا.
ولم يعمر الإخوان، ذهبوا وبقيت الأخونة. فدستور ما بعد الإخوان (2014) يحتفظ بالفخاخ، ويدعمه توافق ديني عسكري، في انتظار تناقضات تسمح بثغرة في جدار يزداد كل يوم ارتفاعاً.
أتأمل قول ابن سينا: "بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم"، وأتساءل عن حصة لمرجعية الأزهر في الدستور (المادة السابعة)، وعن حكمة الإبقاء على المادة المقدسة العابرة للأجيال. هذه المادة تتعارض مع المادة 74 التي "تحظر قيام أحزاب سياسية على أساس ديني". ألا يحق للإسلاميين إنشاء حزب إسلامي في بلد يقول دستوره إن الإسلام دين الدولة، الدولة لا أغلبية المواطنين؟ تخلصت ثورة 23 تموز/يوليو 1952 من مادة الشيخ بخيت؛ لأن الثورة حكمت. لكن 25 كانون الثاني/يناير 2011 حوكمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع