تدرس أمي حالياً الطب التصنيفي، وهو "العلم المعني بتشخيص وتصنيف وقياس وعلاج المشاعر المضطربة المسببة للأمراض العضوية ليتعافى المريض ذاتياً"، بمعنى أنه يُركّز على تشخيص وعلاج المرض نفسياً، لا فيزيائياً ولا كيميائياً، وبحسب مُعلّمها، الدكتور أحمد الدملاوي، فإن الطب التصنيفي يشخص الأمراض ويعالجها من جذورها على عكس الطب التقليدي الذي يعالج أعراض المرض وحسب.
يشرح: "الطب التقليدي مبني على أن كل مرض أصله اضطراب في كيمياء أو فيزياء الجسم، والطب التصنيفي لا يتعارض مع ذلك، بل يفسر الأسباب التي أدت إلى هذا الخلل الكيميائي أو الفيزيائي، فكل نوع من الضغوط النفسية الحادة يقابله مرض واضح بعينه".
أكتب هذا لشرح الخلفية التي تأتي منها أمي اليوم، بعدما قررت خوض تجربة الدراسة مجدداً. فبينما كانت تُطبقّ عليّ ما تتعلمه، وتحلل نتيجة اختبار أجرته معي، قالت لي إنني أرى "قيمتي" في ما أقدّم في عملي. أجبتها: "آه طبعاً"، بكل بديهية، واستهجان ربما، من استنتاجها، قبل أن تُصحح لي المفهوم الذي أشعر بشيء من القلق الدائم بسببه. وربما تأتي محاولتي في كتابة هذه المدونة لإقناع نفسي بما سيأتي في السطور التالية.
أشارت أمي إلى مشكلة لديّ، وقالت إن من ضمن الدروس التي تتعلمها حالياً ثمة درس هو استيعاب أن "قيمة" الإنسان تتمثل بوجوده فقط، بأنه على قيد الحياة ولو لم يفعل شيئاً على الإطلاق.
طبعاً هذا الكلام لن يروق كثيرين. فنحن، أو بعضنا، أبناء وبنات جيلي تحديداً (ربما؟)، اعتدنا قياس النجاح والرضا بـ"تحقيق الإنجازات"، وليست أي إنجازات كأن يعيش المرء كما يهوى، بل بما هو "أكبر" حسب القياس المجتمعي للإنجاز، كأن تترقى في وظيفتك (يشمل هذا ارتفاع الراتب الشهري بالطبع)، أو تفتتح مشروعك الخاص، أو تتزوج أو تنجب أو تشتري منزلاً أو تحقق إنجازاً ما يتعلق بمظهرك الخارجي. للأسف، يتم الاحتفاء بتغيير المظهر الخارجي بشكل جماعي، لا فردي، وكأن جميع المحيطين ساهموا في التغيير. قد تحتاج هذه النقطة إلى مدونة أخرى.
بالعودة إلى العمل، فإن العديد منّا يعمل ليلاً ونهاراً لإثبات الكفاءة والشعور بـ"الإنجاز" و"الرضا". وهذا ليس عملاً بطولياً على الإطلاق، ولا ينبغي لأي صاحب عمل أن يصفّق لأي موظف أو موظفة على هذا لأنه قد يكون أسوأ ما يمكن تقديمه للذات. ما قد يفعله المدير أو صاحب العمل هو تدريب الموظفين على إدارة الوقت ربما. بمعنى أن ينجزوا مهماتهم اليومية بأقل عدد ممكن من الساعات ليغذوا أرواحهم من خلال أشياء أُخرى في الساعات المتبقية من اليوم.
"أشارت أمي إلى مشكلة لديّ، وقالت إن من ضمن الدروس التي تتعلمها حالياً ثمة درس هو استيعاب أن 'قيمة' الإنسان تتمثل بوجوده فقط، بأنه على قيد الحياة ولو لم يفعل شيئاً على الإطلاق"
التخلّي عن المشاعر التي تُثقلنا
ما أحاول تعلمهُ من أمي هو أن أتخلى عن كل المشاعر التي تُثقلني. ألا أقسو على نفسي لأنني تناولت ما أشتهي دون الالتفات إلى رغبتي بنزول الوزن. ألا أجلد ذاتي حين لا أخرج من باب المنزل. ألا أحدد من أنا نسبةً لمقدار الجهد الذي قدمته في عملي اليوم. ألا أقيّم مهاراتي الاجتماعية كلّها في التجمّع الأخير الذي لم أشعر بالارتياح فيه. ألا أجلد نفسي على كل خطوة وكل شيء وأنني مثلما قالت لي إمي "قيمة ولو لم أقم بشيء على الإطلاق".
أكتب هذه الكلمات في محاولةٍ لإقناع نفسي بالتغيير، علماً أنني لست وحدي من أشعر بكل ما سبق. في بحثي عن الموضوع، وجدت في منصة معنية بالصحة النفسية أنه من الشائع بين العديد من الأشخاص أن يربطوا قيمتهم بخمس نقاط: المظهر، الثروة، الدائرة الاجتماعية، الوظيفة، والإنجازات. وتشير المنصة ذاتها إلى نقاط أساسية ينبغي أخذها بعين الاعتبار ليدرك الشخص قيمته حقاً، أولاها أن يتعرف إلى نفسه بشكل أعمق، ومن ثم يتقبلها (أتقبّل الجيد والسيئ والقبيح)، ومن ثم يحاول أن يعزز حبّه لذاته، ويقرّ بأنه ذو قيمة وأنه ليس بحاجة إلى أن يؤكد هذه الحقيقة من خلال أحد أو شيء ما، وأن القيمة هي عنصر داخلي، لا خارجي ولا تتضمن عوامل خارجية لتحقيقها.
"ما أحاول تعلمهُ من أمي هو أن أتخلى عن كل المشاعر التي تُثقلني. ألا أقسو على نفسي لأنني تناولت ما أشتهي دون الالتفات إلى رغبتي بنزول الوزن. ألا أجلد ذاتي حين لا أخرج من باب المنزل. ألا أحدد من أنا نسبةً لمقدار الجهد الذي قدمته في عملي اليوم"
متى يتحوّل الأمر إلى مشكلة؟
في حديثي مع الطبيب النفسي علي قرقر، أخبرني أن التوصيف المهني والأفضل لمفهوم القيمة هُنا هو "التصديق الخارجي" (External validation) النابع من الشعور بالتأكيد على صدق المشاعر، وأن ما تقترحه أمي هو النوع الآخر وهو التصديق الداخلي (Internal validation).
يشرح أن "النوع الأول مرتبط بالإحساس النابع من المجاملات التي يطلقها الآخرون أو الثناء على العمل والمجهود وهو ذو قيمة بالتأكيد ومردود شعوري إيجابي"، مضيفاً أنه قد يكون للمال دور كوسيلة للحصول على ذلك التصديق الخارجي، إلى جانب مظاهر أخرى كالقوة أو السلطة أو الشهرة، وإنها قد تختلف نظرة شخص عن آخر في مدى أهمية إحدى تلك العناصر دون غيرها… مؤكداً أنه "ليس بالضرورة أن يكون المال أهمها وإن كانت نماذج الاستهلاكية الحديثة تساعد على ذلك".
لكن متى يتحوّل الأمر إلى مشكلة؟ يجيب: "عندما نتوقف عن الشعور بالجدوى دون الحصول على ذلك التصديق الخارجي، ويصبح من الضروري أن نحصل على دلالات أننا غير منبوذين أو أننا ناجحون أو أذكياء أو منتجون... فبطريقة ما ستصل الأمور إلى أن نكون ما نتصور أن الآخرين يعتقدونه عنا، وهذا بالتأكيد مرهق وقاسٍ في بعض الأحيان وربما مسبب للحيرة حول إلى أين يجب أن توجه بوصلة الشخص في خياراته السلوكية".
وأشار إلى أن قليلاً من التوازن بين التصديق الخارجي والداخلي قد يكون الطريق لحل تلك المشكلة، وأننا "قد نحتاج لتقبل أننا كائنات اجتماعية تحتاج لذلك الشعور بالأمان النابع من قبول الآخرين لنا (أو بالأحرى شعورنا بقبول الآخرين) بدايةً من طفولتنا مع أبوينا. ومن ثم بعد تقبل ذلك الطابع البشري، الاتجاه أكثر إلى تحديد بعض الاتجاهات لبوصلة شخصية، قد تكون الأسرة وقد تكون الصحة وقد تكون المال وقد تكون الشهرة، ومن ثم العمل على خلق حالة اتساق بين السلوك وتلك البوصلة وتقليل وزن الاعتماد على التصديق الخارجي".
لا توجد مشكلة في أن يكتسب المرء قيمته من شيء ما، بشرط أن يتناسب هذا مع سلوكه، وأن يوازن ما بين التصديق الداخلي والخارجي.
مثالاً لما يحاول شرحه: "إن كان الشخص يرى القيمة في المال، ويعمل ليلاً ونهاراً من أجل المال، فهذا جيد. إن كان يرى القيمة في الأسرة، فقرر يعمل لساعات أقل وبمردود مادي أقل، فهذا جيد. المشكلة تكمن في حدوث العكس. أن يكون الشخص يرى القيمة في المال، ولكن سلوكه لا يجلب له المال. أن يرى القيمة في علاقته مع الله ولكن سلوكه بالنسبة له معصية".
خلاصة القول، لا يرى الطبيب قرقر مشكلةً في أن يكتسب المرء قيمته من شيء ما، بشرط أن يتناسب هذا مع سلوكه، وأن يوازن ما بين التصديق الداخلي والخارجي. ويعتقد أنه قد يكون مفيداً أن يحيط المرء نفسه بمن يحسنون إليه القول لكن في نهاية المطاف لا يمكن الاعتماد في مشاعرنا على كيان مستقل ذي مشاعر مستقلة قد تتغير من يوم إلى آخر وتؤثر على سلوكه وبالتبعية على مشاعرنا ورؤيتنا لقبوله بنا من عدمه.
من المزري أن تُنشر المدونة دون أن يتغير شيء ما في داخلي. فسأعتبر نشر المدونة وعداً لي لكي أكتشف التصديق الداخلي "يا إِمّي"، وأُقلل الاعتماد على التصديق الخارجي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...