"إن الله کان في لؤلؤة، والؤلؤة في صدف، والصدف في أعماق البحر"؛ إنها حكاية قصيرة وأسطورية من أناشيد إحدى الديانات الشرق أوسطية أي دیانة "یاري" (المناصرة)، وهي أقلیة دینیة یطلق علی أتباعها "یارسان" (المناصر)، ویقطن معظم أتباعها في المناطق الکردیة والترکیة في غرب إیران.
تُعدّ محافظة کرمانشاه الإیرانیة الواقعة غرب إيران، والتي تبعد 378 کیلومتراً عن العاصمة العراقیة بغداد، الموطن الرئیسي لأتباع دیانة الیارسانية، ومرکز الدور المقدسة التي یزورونها. كما أن لهذه الديانة أتباعاً آخرین في العراق وسوریا وترکیا وأفغانستان وباکستان، ولهم تسميات شتى في المناطق التي يقطنونها، فیشتهر أتباع اليارسانية في إیران بـ "أهل الحق"، وفي أفغانستان وباکستان بـ"زکریا"، وفي الهند بـ"سربستي"، وفي ترکیا بـ"الحلویین"، وفي العراق بـ"الکاکائي"، وتعني مفردة کاك "الأخ الأکبر" بالکردیة.
ویعتقد معظم المؤرخين أن جذور هذه الدیانة تعود إلی القرن الثامن الهجري، وقد تم تأسیسها تحت تأثیر التصوف الشیعي، لاسيما طائفة "النُصَیریة"، وهي طائفة شیعیة تنتمي إلی التشیع الکوفي المتطرف آنذاك، ولها أتباع في سوریا وترکیا.
ویعتقد آخرون أن لهذه الدیانة جذوراً في "المیثرائیة". ومیثرا إله زرادشتی إیرانی، کان يُعبد في إیران حتی المدّ الإسلامي لبلاد فارس، فيما یعتقد آخرون أن هذه الدیانة لها جذور في البوذیة والمسیحیة. ولکن النصوص المقدسة لدی أتباع الدیانة الیارسانية تعتبر هذه الدیانةَ أزلیةً–أبدیة.
جذور الیارسان
تعني مفردة "سان" في اللغة الکردیة بلهجتها الغورانیة "السطان"، وهکذا تعني مفردة "یارسان": "أنصار السلطان" أو "أتباع السلطان". وبحسب بعض الروایات کان کلٌّ من "بهلول ماهي" و"بابا سَرْهَنگ" و"شاه خوشین" و"بابا ناأوس" أول دعاة الدیانة اليارسانية، عاشوا بین القرن الثاني حتی الخامس للهجرة، ووعدوا أتباعهم بظهور رجل یدعی السلطان إسحق، أو بلهجتهم الکردیة: "سان سهاك".
يعتقد أهل الحقّ أن الروح تستمر بالحياة في قالب آخر بعد موت الجسد، وعليها السیر في ألف عالم وعالم روحاني لتبلغ الکمال وتتجنب الدنس
وبعد ثلاثة قرون من الصمت والانتظار ظهر السلطان إسحق، وهو أهم شخصیة في الیارسانية، فی مدینة زور العراقیة وغادرها بعد خلاف مع إخوته برفقة عدد من أتباعه، متوجهاً نحو مناطق أورامان و جَوانرود وغوران وجبال دالاهو، لرفع دعوته وتوسع عقیدته، حتی أقام في بردیور في کِرمانشاه الإیرانیة، الواقعة غرب البلاد، وأعلن تأسیسه لدیانة الیارسان بصورة علنیة.
وانقسم أصحاب السلطان إسحق إلی 14 قسماً من بینهم "هَفْتن" و"هفْتوان"، وهما الأقرب إلی السلطان الذي ولّی القسم الأول مسئولیة السماوات السبع، والثاني الأراضي السبع. ولم یُشهد هفتن إلا وهو یدعو الناس إلی التوحید والنمط المفضل للحیاة علی نهج الأنبیاء والسلاطین.
وفي القرن الثامن هجري ظهر سبعة أشخاص یمثل کل منهم مرتبة روحانیة؛ الأول: بیر بنیامین، ویمثل جبرائیل، والثاني: داود، ویمثل إسرافیل، والثالث: بیر موسی، ویمثل میکائیل، والرابع: خاتون دایراك، الملقب بـرَزبار، ویمثل حور العین، والخامس: مصطفی داودان الذي یمثل عزرائیل، والسادس: شاه إبراهیم، والسابع: بابا یادگار.
وبحسب "دفتر المصیر" المقدس لدى هذه الديانة، يحتاج كلٌّ من أتباع أهل الحق من رجال ونساء إلی قائد ودلیل یقوده/ا في سیره/ا وسلوکه/ا العرفاني نحو الذات الإلهیة المقدسة حتی أن السلطان إسحق نفسه اتخذ بنیامین قائداً، وداود دلیلاً لسلوكه الروحاني.
الفرق الأكبر بین الدیانة الیارسانية والدیانات الإبراهیمیة یکمن في صورة الرب. دیانة الیارسان بخلاف الدیانات الإبراهیمیة لدیها صورة إنسانیة من الرب، فإنهم لا یؤمنون بوجود الرب القهار الذي یشرف علی أعمال الإنسان کما تعتقد الدیانات الإبراهیمیة، بل یعتقدون أن لله وجوداً یتجلي في کل الکائنات ویوجد في کل شيء.
وصفهم البعض بأتباع الشیطان لاعتقادهم بوجود الخیر والشر في وجود الشیطان، کما يعتقدون أن الإنسان، وبسبب العقل الذي یملکه، یستطیع أن یحصل علی ذات ترفعه إلی أعلی الدرجات، ثم بذلك يمكنه بلوغ "الکیان الإلهي –الإنساني".
النصوص المقدسة للیارسانية
یطلق أتباع دیانة یارسان علی نصوصهم الدینیة "الکلام"؛ لکل مرحلة کلام مختلف خاص بها، ویطلقون علی مجموعة الکلام "دفتر"، ویمکن إحداث تغییر في الکلام وتحدیثه بشکل مکرر، بعکس ما يُعتقد به إزاء "الکتاب".
وأقدم دفتر لدی اليارسانية یسمی "دورة بهلول"، ويُعتبر أول کتاب دیني لهذه الديانة. یعود هذا "الدفتر" إلی القرن الثاني للهجرة، وقد طُبع عام 1984 في خانقین العراقیة، ویشتمل علی 15 بنداً. وتم طباعة ستة مجلدات من الکلام کان آخرها "دیوان غوره" الذي تمت کتابته القرن التاسع عشر، وأهمها "دفتر المصیر" الذي کتبه السلطان إسحق وأتباعه في القرن الثامن للهجرة، وطبع بشكل حديث عام 1996.
بحسب تعالیم "المصیر"، علی کل أهل حق أن یتبعوا تعالیم هذا الكتاب دون أن یذکروها عند غیرهم، فتبقی سرّاً لديهم. وربما جاءوا بهذه العقیدة لیحولوا دون الاحتكاك بالمتطرفین من المسلمین کما یفعل الکثیر من أهل الحق في إیران حالياً.
"قلت لأطفالي عند دخولهم المدرسة إن سألکم أحد عن دیانتکم قولوا له إننا شیعة! علینا أن نتخذ الحیطة والحذر في الکشف عن مذهبنا لأن المسلمین یصفوننا بالأنجاس"
وتقول لنا السیدة تاتي، وهي من أتباع دیانة الیارسان في کرمانشاه الإیرانیة: "قلت لأطفالي عند دخولهم المدرسة إن سألکم أحد عن دیانتکم قولوا له إننا شیعة! علینا أن نتخذ الحیطة والحذر في الکشف عن مذهبنا لأن المسلمین یصفوننا بالأنجاس؛ فمثلاً عندما يزورنا أصدقاء أبنائي الذین یعلمون بدیانتنا، لا یأکلون ولا یشربون شیئاً عندنا لأن أهلهم علموهم أن الطعام من أیدینا نجس".
الجزء الأول من کتاب المصیر الذی یطلق علیه "مرحلة هفْتوانه" یشتمل علی 60 بنداً من الأناشید التي ألفها السلطان إسحق وأتباعه بمختلف الأنماط، وجمیعها تتناول تجلي الذات الإلهیة في الأجساد إبتداءً من "منصور الحلاج" والبطل الإيراني الأسطوري "رستم" حتى الرسول محمد وحفیده الحسین.
ویروي المنشدین الماضي کـ قولهم "ربنا أتی بـ بنیامین علی هیئة رستم وبابایادکار علی هیئة سهراب لینشر نهج التوحید" (البند 52).
لغة کتاب المصیر هي الکردیة الغورانیة باستثناء فصل واحد کتب بالکردیة السورانیة، إلا أن الکردیة الغورانیة اندثرت، ولم تعد تستخدم، بعد أن کانت لغة الأکراد الرسمیة في إیران والعراق حتی القرن التاسع عشر.
أُلّف کتاب المصیر بطریقة شعریة علی غرار کتاب الزرادشتيين "أفِستا"، إذ أن الیارسانيين یعتبرون زرادشت من الشخصیات التي تعکس تجلیات الذات الإلهیة.
الطقوس والعقیدة والمقدسات
الجَمخانه
بحسب رسالة المصیر، یجب أن یجتمع أتباع اليارسانية أسبوعیاً في الجمخانه لأداء طقوس وعبادات خاصة. وعند انعقاد الاجتماع یبدأ القائد بعزف الناي وتلاوة فقرات من اناشيدهم بصوت جمیل ویردد المجتمعون کلامه: "دامیار دامیار" و"زلال زلال".
الذهاب إلی الجمخانه والنذر لها وتناول القرابین من الأعمال الواجبة على اتباع اليارسانية. إنهم یهدون الدیوك أو الخرفان والثیران والغزلان قرابینَ للجمخانه، ولا یهدون إلا الذكور من الحیوانات.
ومن منطلق هذه العقیدة یُفهم السبب وراء منع المرأة عن دخول الجمخانه والمشارکة في طقوسها، على الرغم من تمتع المرأة لدی أهل الحقّ بمکانة دینیة واجتماعیة عالیة دون تمییز في الحقوق والواجبات کالإرث أو غیرها، کما أن تعدد الزوجات لدی الیارسانية أمر مذموم وممنوع.
عزف على الطنبور في أحد طقوس اليارسان في مدينة دالاهو غرب إيران
الصيام وعید خاونکار
بحسب رسالة المصیر، عندما هاجر السلطان إسحق ورفاقه الثلاثة نحو کرمانشاه، نوى إخوتُه، وبسبب العداء والحسد، أن يقتلوه، فاختبأ السلطان ورفاقه في مغارة دون أن یحملوا معهم المتاع، ولکن بأمر الله هبت عواصف أدت إلی هلاك الأعداء، ثم أتت إلیهم عجوز حاملة معها ديكاً والأرز والزیت، فتخليداً لهذه الذكرى یصوم أهل الحق هذه الأیام الثلاثة في توقیتها السنوي (اليوم 12 لغایة 14 من شهر الانقلاب الشتوي) ثم یحیون عید "خاونکار" بعد هذا الصيام، ویقدمون فیه لحم الدیك والرمان.
بالإضافة إلی عید خاونکار یُحیي أهل الحق عیدَ النوروز الذي یعد عیدهم الرئیسي، ویرمز إلی تجدید الخلق وانقلاب الطبیعة.
الخضوع وضرب الرأس بالجوز
الخضوع من الأمور المهمة للدخول في مذهب أهل الحق، وکل من أتباع أهل الحق یجب أن یکون خاضعاً متجشماً. ومن أجل القيام بعملیة الخضوع یحمل الأتباع إلى الجمخانه حبةً لنوع من الجوز البرّي، ومندیلاً و"نیاز" (ويتكون من اللوز والرمان والسکر)، برفقة المال ونقود معدنية وسکین حادة ودیك و3 کیلوات من الأرز وعلبة زیت.
بحسب تعالیم "المصیر"، علی کل أهل حق أن یتبعوا تعالیم هذا الكتاب دون أن یذکروها عند غیرهم، فتبقی سرّاً لديهم
دونادون
"دون" یعني اللباس، وعبارة "دونادون" فی النصوص الیارسانية تعني خلع الروح لباسَها، وارتداء لباس آخر، فالروح تستمر بالحياة في قالب آخر بعد موت الجسد، وعليها السیر في ألف عالم وعالم روحاني لتبلغ الکمال وتتجنب الدنس.
الشوارب
من مظاهر أهل الحق ومقدساتهم هي الحفاظ علی الشوارب لدی الرجال. إنهم لا یحلقون شواربهم إلى أن تنمو وتغطي أعلی أفواههم، لأنهم یعتبرونها من مظاهر دیانتهم، ویتبعون في ذلك سیرة سلطان الولایة وفق عقيدتهم أي علي بن أبی طالب الذي يعتبرونه من مظاهر تجلي الذات الإلهیة، وهو لم یحلق شاربيه حسب ادعائهم.
تقول تاتي: "أحد الأقرباء کان یشعر بألم في وجهه، وبعد زیارة الطبیب، اکتشف أن هناك عدوی یجب أن یجري لمعالجتها عملیة جراحیة، والعملیة تتطلب حلق الشاربين، الأمر الذي جعل المریض یهرب من المشفی، لأن حلق الشوارب أمر مشين للرجل اليارساني، حتی أنه یجوز له دخول الجمخانه دون شاربين".
الوضع السیاسي والاجتماعي للیارسانيين
لا تعترف الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بدیانة اليارسانية، وتضع في دور الزیارة التابعة لهم مصحفاً ورموزاً إسلامیة أخری حتی أن العدید من أهل الحق أضرم النار على نفسه خلال السنوات الماضیة احتجاجاً علی التمییز الممارس ضدّ أتباع هذه الديانة وانتهاك حقوقهم ومصادرة أموالهم وتدخل الحکومة في طقوسهم الدینیة.
مزار داود كوسوار، أحد أولياء اليارسانية الذي يُعتقد بأنه تجلّ لإسرافيل؛ كِرمانشاه الإيرانية
لا توجد إحصائيات رسمية تحدّد عدد أتباع اليارسانية في إيران، إلا أن الإحصائيات غير الرسمية تخمّن عددهم بما يزيد عن 3 ملايين نسمة. وفي العراق وبحسب الإحصائیات غیر الرسمیة لمنظمة "میترا"، یتبع 120 ألف شخصاً الديانة الکاکائية (اليارسانية) في هذا البلد، معظمهم یقطن في نینوى والسلیمانیة وأربیل وحلبجة وخانقین وکرکوک ودیالي. والحکومة العراقیة تفرض عليهم أحياناً حلق الشوارب، ولکن یسعى أتباع الدیانة غیر المعترف بها حالياً لاعتراف الحکومة العراقیة بدیانتهم.
وراح ضحیة هجمات داعش علی الیارسانيين منذ عام 2003 إلى 2021 قرابة 254 شخصاً من أتباع هذه الديانة في العراق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...