شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
على مائدة نزار قبّاني... كبّة وقهوة وملبّس

على مائدة نزار قبّاني... كبّة وقهوة وملبّس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 30 أبريل 202209:00 ص

"خمسون عاماً وأنت تخبئنا تحت أهدابك، وتطعمنا اللوز والسكر، وتغني لنا قبل أن ننام، وتأخذنا إلى المدرسة صباحاً، وتعطينا الملبّس والشوكولاته عند العودة، وتشتري لنا الكتب، وتحفظ قصائدنا الأولى في جيوبك حتى لا تضيع"؛ هكذا نظمَ نزار قباني الشعر في والده توفيق، ففاحت من الأبيات رائحة الحلوى وعطر أزقة دمشق العتيقة.

طفولة بنكهة الملبّس

"هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، بوابة صغيرة من الخشب تنفتح، يبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكي، وتبدأ سمفونية الضوء والظل والرخام".

هكذا يصف الشاعر السوري نزار قباني، منزل طفولته. وبين سوق البزورية وحي مئذنة الشحم في دمشق العتيقة، سار نزار قباني مراراً متجهاً إلى معمل الملبّس والسكاكر الذي افتتحه والده توفيق القباني، فكان أول صناعي سوري يُدخل هذه الحلوى إلى سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي.


أوعية زجاجية لامعة ممتلئة بالملبّس الأبيض، توضع على الطاولة الخشبية، وفي الجانب الآخر آلات تدور في داخلها حبّات اللوز لتجمع السكر الذي يكسوها، وتتحول إلى قطعة ملبّس ساخنة حلوة، أضحت في ما بعد جزءاً من طفولته التي نظم فيها الكثير من الشعر.

يقول صباح قباني، الشقيق الأصغر لنزار، في برنامج "مرافئ الذاكرة": "كانت أمي تسمح لنا بالذهاب إلى المعمل والجلوس مع العمّال، الذين علّمتهم أنهم مُقبلون على تعلّم صناعة أساسها النظافة، فكانت تعطّرهم بصابون الغار والياسمين. كان والدي ينتظرنا، فيركض أخي نزار ليحصل على الملبّس المصفوف في الصواني الكبيرة، ونحن نركض معه، نأكل مع العمّال، ونأخذ حصتنا لليوم التالي".

بين سوق البزورية وحي مئذنة الشحم في دمشق العتيقة، سار نزار قباني مراراً متجهاً إلى معمل الملبّس والسكاكر الذي افتتحه والده توفيق القباني، فكان أول صناعي سوري يُدخل هذه الحلوى إلى سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي

القاهرة 1946

يسير نزار قباني في شوارع القاهرة، بعد التحاقه كديبلوماسي بالسفارة السورية في مصر. يصل إلى أحد المطاعم، يسأله النادل ماذا يحب أن يأكل، فيجيبه: "شو طابخة أم المعتز اليوم؟"، ليردّ النادل: "من تكون أم المعتز؟"، فيجيب نزار: "أمي! كانت تطهو الكبة اللبنية، واليبرق، والمحاشي، والمقلوبة، والسر ليس في الأكلات، لكن في أصابع أم المعتز".

هذا مشهد أدّاه الفنان السوري، تيم حسن، في مسلسل "نزار قباني"، الذي ألّفه الكاتب السوري قمر الزمان علوش، استناداً إلى السيرة الذاتية للشاعر الدمشقي، ويظهر تعلّق نزار بوالدته، وهذا التعلّق واضح أيضاً في شعره، إذ يقول في قصيدة "خمس رسائل إلى أمي":

مضى عامان يا أمي على الولد الذي أبحر

وخبأ في ملابسه طرابين من النعناع والزعتر

وليلكةً دمشقية

أيا أمي

أنا الولد الذي أبحر

ولا زالت بخاطره

تعيش عروسة السكر

فكيف؟ كيف يا أمّي

غدوت أباً ولم أكبر!

يسير نزار قباني في شوارع القاهرة، بعد التحاقه كديبلوماسي بالسفارة السورية في مصر. يصل إلى أحد المطاعم، يسأله النادل ماذا يحب أن يأكل، فيجيبه: "شو طابخة أم المعتز اليوم؟"، ليردّ النادل: "من تكون أم المعتز؟"، فيجيب نزار: "أمي! كانت تطهو الكبة اللبنية، واليبرق، والمحاشي، والمقلوبة

يحكي رشيد قباني، الأخ الأوسط لنزار، في مقابلة مصوّرة مع الإعلامي المغربي، محمد سعيد الوافي، أن والدته فايزة آقبيق، وبعد إنهاء نزار دراسته في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وسفره إلى القاهرة للالتحاق بالعمل الدبلوماسي، واظبت على مراسلته برسائل بريدية تحتوي على وصفات الطعام الذي يحب، وداخل الرسائل كانت تضع عشبة "الطرخون" ليضيفها إلى وصفة الكبة عندما يحضّرها.


غادر نزار قباني القاهرة وحيداً، وانتقل إلى لندن ليكمل عمله الدبلوماسي. كان حينها قد أصبح أباً لهدباء وتوفيق، بعد زواجه من ابنة خاله زهراء آقبيق، لكن علاقتهما انتهت بالانفصال. بقي في لندن عامين، ثم انتقل إلى الصين، ومنها إلى إسبانيا، إلى أن استقر عام 1966 في بيروت مع زوجته الثانية، بلقيس الراوي، التي لقّبها بـ"نخلة العراق"، وبقي في بيروت حتى 1981، العام الذي قٌتلت فيه بلقيس في تفجير السفارة العراقية في لبنان، فغادر نزار عائداً إلى لندن، واستقر فيها إلى يوم مماته.

بيروت الكورنيش والقهوة

عاش نزار قباني مع زوجته بلقيس في لبنان، وتفرّغ للشعر. منحته بيروت ما لم تمنحه إياه مدينة أخرى، وقد ذكر ذلك في لقاءات صحافية عدّة، فأسس في العام 1966، داراً للنشر، وأطلق العِنان لقلمه.


في تلك الفترة تجمّعت العائلة، إذ انتقلت هدباء وتوفيق للعيش مع والدهما. عن ذلك تقول هدباء في حوار أجراه الشاعر والناقد السوري حسام الدين محمد: "كان أبي بيتوتياً، يخرج مرّةً في الأسبوع، فهو يحب أن ينام باكراً ويستيقظ باكراً، يحرص على شراء الخضروات بنفسه، وأكثر الأماكن التي عشقها كورنيش بيروت، الذي كتب على مقاعده أجمل قصائده".

وتذكر هدباء علاقة الصداقة التي ربطت والدها بالشاعر الفلسطيني محمود درويش: "كان يتردد إلى منزلنا في مار الياس. كنا ندعوه إلى الغداء، واعتاد أبي على القيلولة بعد الغداء، فكان يقول له: "خاطرك بدي نام، فيضحك درويش ويشرب القهوة مع بلقيس والأولاد".

في حوار مع رصيف22، يقول الكاتب والصحافي اللبناني طلال شتوي: "تعرفتُ إلى الشاعر نزار قباني في العام 1980، عندما حلّ ضيفاً على برنامج استديو الفن، وكنت مشاركاً عن فئة الشعر والتقديم، بعدها ربطتنا علاقتة صداقة كانت بيروت شاهدةً عليها".

يتابع شتوي: "كل ما يمكن أن أقوله عن نزار قباني، أنه رجل منظَّم، يهوى تناول القهوة الشامية والكتابة في المنزل. لم أرَه يجلس في مقهى ويكتب الشعر، ولا في سهرة صاخبة، بل رأيته في معارض الكتب. نزار قباني لم يكن زير نساء، ولا شهريار، بل فوجئت بخجله وحشمته، وعندما توفي في العام 1998، كنت رئيس تحرير مجلة "كل الأسرة"، وضعت صورته على الغلاف، الذي صدر بعنوان: فتى الياسمين يغادر القرن العشرين".

ويبدو أن القهوة الشامية كانت مشروب نزار المفضل، إذ يقول في "القصيدة الدمشقيّة": "طاحونة البن جزء من طفولتنا... فكيف أنسى؟ وعطر الهال فوّاح".

لندن-ثورلو ستريت

كبرت هدباء وصارت أماً لولدَين. استقرت في لندن، في منزل مجاور لمنزل والدها، واعتنت به حتى النهاية. تقول: "في لندن أحب أبي السير في الحدائق، وإطعام الحمام، وشراء الفواكه والخضروات، وأغراض المنزل. اهتم بالتفاصيل اليومية الصغيرة، وربطته علاقة مميزة بالمطبخ. عدّ الطبخ فنّاً، فكان يبتكر وصفاتٍ جديدةً ويتذوّق".

تحكي هدباء قباني أن والدها كان من المدرسة القديمة التي تؤمن بالأناقة كونها جزءاً من احترام الآخرين. تقول: "كنت كلما جئت مع ولديّ مايا وتوفيق، لزيارته في منزله في لندن، يقول: "اعطِني عشر دقائق لارتدي ثياب الاستقبال"، ويدعونا إلى الغداء، ويُخرج الصحون الجميلة لديه". تتابع: "كل شيء تحت يده كان منظّماً ومرتّباً، حتى قوائم طلبات السوبر ماركت، يكتبها كما لو كان يخطط، وإذا أخطأ في كلمة يشطبها ويعيد الكتابة من جديد، فأداعبه قائلةً: إنها فقط للسوبر ماركت! فيجيب: ولو! كان فخوراً بأنه يستطيع الطبخ، ويكره التسكع والأمور الفوضوية التي لا تؤدي إلى نتيجة".

في لندن أحب أبي السير في الحدائق، وإطعام الحمام، وشراء الفواكه والخضروات، وأغراض المنزل. اهتم بالتفاصيل اليومية الصغيرة، وربطته علاقة مميزة بالمطبخ. عدّ الطبخ فنّاً، فكان يبتكر وصفاتٍ جديدةً ويتذوّق

مطبخ نزار شاهد على خلاف!

محمد الماغوط الشاعر السوري المتمرد، الذي انتعل الأرصفة ولهاث القاع، وأعلن هزيمة الأمة، اختلفت نشأته وبيئته وحياته وشعره عن الشاعر نزار قباني. وبالرغم من وقوع خلافٍ بينهما كان مطبخ نزار في لندن شاهداً عليه، إلا أن نزار قال فيه: "أنت أصدقنا".

وفي كتابه "شرق عدن غرب الله"، يتحدث الماغوط عن علاقته بقباني قائلاً: "بدعوة من الصديق المشترك رياض نجيب الريس، التقينا في لندن، وإذا بنزار يخرج من المطبخ على صدره مئزر مزركش، طالباً مني النهوض لمساعدة المضيفتين، فقلت له: والله ما جئت من سلمية إلى دمشق وبيروت، وسُجنت في المزة، وجعت وتشردت كل هذه السنين، لأقشّر البصل والثوم في إحدى شقق لندن المجهولة!".

شِعر معطّر بالهيل

تحمل الإعلامية السورية المخضرمة هيام حموي، حقيبتها المهنية: المسجّل، والميكروفون، وكمية لا بأس بها من أشرطة الكاسيت، والأوراق البيضاء التي دوّنت عليها أسئلتها المدروسة بعناية، لتطرحها على الشاعر نزار قباني.

تقول حموي لرصيف22: "لم أذهب إلى الكوافير، ولم أرهق نفسي في البحث عن الفستان المناسب، أو المكياج اللائق، كنتُ تلميذةً مُقبلةً على امتحان صعب: كيف سأحاور هذه القامة الأدبية المُحاطة بهالة من الأساطير والحكايات والشائعات؟"، خاصةً بعد أن أوصاها في رسالة مسبقة بألا تطرح عليه أسئلةً من النوع الأكثر رواجاً، على سبيل المثال: ما هو طبقك المفضّل؟

تتذكّر هيام: "أعلنتُ حضوري برنّة على باب الشقة اللندنية، وعندما فُتح الباب وجدت نفسي أمام سيدة جميلة سبق أن شاهدت صورتها في بعض المجلات، مصحوبة باسمها الشاعري "هدباء قباني". قادتني إلى الصالة الأنيقة البسيطة، حيث كان نزار قباني في انتظاري. تناولنا القهوة الشاميّة المنكّهة بالهال، ورتبت أدوات التسجيل على الطاولة وبدأنا الحوار الذي استغرق نحو أربع ساعات، في ما عدا استراحتين تناولنا خلالهما القهوة اللذيذة أيضاً. أربعة من أشرطة الكاسيت امتلأت بإجاباته وقصائده، وهذا يعني أني عثرت أخيراً على كنزي الأدبي".

لملمت هيام العدّة الصحافية وتهيأت للمغادرة، لكن هدباء ووالدها أصرّا على بقائها، على قاعدة أنه من المعيب أن تغادر من دون مشاركتهما طعام الغداء. بكثيرٍ من الحنين تخبر رصيف22: "جلست على مائدة نزار قباني... وعليها من الأطايب البسيطة المعتادة، كما في أي بيت دمشقي. أما نتيجة هذه الجلسة فقد تحوّلت إلى 14 حلقةً إذاعيةً بُثّت عبر أثير إذاعة مونت كارلو الدولية، في صيف 1991، ولا تزال هذه الساعات الأربع من أجمل ذكريات حياتي المهنية".

وإذا بنزار يخرج من المطبخ على صدره مئزر مزركش، طالباً مني النهوض لمساعدة المضيفتين، فقلت له: والله ما جئت من سلمية إلى دمشق وبيروت، وسُجنت في المزة، وجعت وتشردت كل هذه السنين، لأقشّر البصل والثوم في إحدى شقق لندن المجهولة!

لندن من غير مسكوف

يروي الشاعر كريم العراقي قصته مع نزار قباني، فيقول في لقاء مع قناة سامراء العراقية، إن نزار أَحبّ قصيدةّ "الغربة" التي كتبها العراقي وغنّاها الفنان كاظم الساهر، لأنها ذكّرته بزوجته الراحلة بلقيس، فطلب منه إرسالها بخط يده.

تقول القصيدة: "يا دنيا انت اللي حرمتيني من أهلي، وسَكنت الغربة غصب عليّا، بعدها صورتي تتوسط البيت؟ المكان اللي أحبه بعده موجود؟ حديقتنا بعدها محمّلة ورود؟ للمقهى القديمة وشاي أبو الهيل، بحضن دجلة الزوارق تطوف، ونيران الشواطي وسمك مسكوف".

فإذا بنزار يردّ برسالة: "كريم أيها الشاعر الجميل، حين وصلتني رائعتك موّال الغربة، دخلت المطبخ وصنعت شاياً عراقياً أبو الهيل، وتنسّمت عبق بهارات الشوربة، والجبن الأوشاري في أربيل، وعندما سألت البقّالين في لندن عن السمك المسكوف الذي ذكرته، قالوا إنهم لا يعرفونه، بالرغم من أنهم استعمروا العراق عشرات السنين!".

دمشق 30 نيسان/ أبريل 1998

قبل وفاته بقليل، أعلنت الفضائية السورية أنّ الشاعر الكبير نزار قباني سيكون في بث مباشر من مشفاه، وعندما بدأ المذيع بطرح الأسئلة، قال نزار: "دعني، لا أريد أن أجيب عن أي شيء، دعني أحادث دمشق، وأقرأ لها بعض ما كتبت، لأنني أظن أن لقائي مع دمشق هذا هو اللقاء الأخير". وكان عنوان قصيدته الأخيرة: "دمشق أهدتني شارعاً".


في ما يشبه ولادةً جديدةً، شيّعت دمشق نزار قباني. بنسائها وياسمينها ورجالها وكبارها وأطفالها. خرجت دمشق للّقاء الأخير، وقطع المشيعون طرقاتها سيراً على الأقدام، حاملين نعش نزار على الأكتاف، مروراً بالشارع الذي يحمل اسمه في حي أبو رمانة، ليوارى الثرى في مسقط رأسه، في مقبرة "باب الصغير"، في الشام العتيقة، كما كانت وصيته.    


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image