لن أكتب عن "حزب الكَنَبة". والمصطلح اختراع مصري أشاعته وأنضجته ثورة 25 يناير 2011، وأعضاؤه أغلبية صامتة، تحلو لهم الكنبة ليتسامروا، ويتسمّروا لمتابعة التلفزيون بفتور الكسالى، أو بانفعال منضبط لا يبلغ حد الحماسة للثورة، ولا يلعنها.
هؤلاء ينشدون الاستقرار البليد، ويريدون حصة من القسمة وقت الحصاد، ويتربصون انتظاراً لما يسفر عنه تلاطم الأمواج، وصراع القوى في الميدان. وفي الانتظار، والقابلية للتأثر بالتعبئة الإعلامية، يستميلهم الخبثاء إلى وجهة محددة.
وإلى هذا الحزب المخذول حالياً يتوجه مسلسل "الاختيار 3" بالعزاء. ولن أكتب عن المكايدة السياسية في مسلسل لا أشاهده، وإنما أتأمل "كَنَـبة الاختيار"، كومبارس صامت، منصة قدمت عملاً موازياً عنوانه "كَنَـبة الاعتراف".
كنبة الاعتراف
"كَنَـبة الاعتراف" جديرة بالتأمل. لها ولمثيلاتها قوة رمزية، لارتباطها بجهاز استخباري أو جماعة أيديولوجية. بعد حرب تموز 2006 حدثني صحفي مصري أنه قابل حسن نصر الله، واختبر كنبة حزب الله. وجدها ثابتة فأيقن بوجود كاميرا. قال ذلك في الجريون قبل السكر.
وسافر محمد حسنين هيكل للقاء نصر الله، ووعد برواية ما دار بينهما، وقامت قيامة ثورة 25 يناير، ولم تسمح لهيكل بالتقاط أنفاسه، ولا لغيره بالاهتمام بشيء خارج الشأن المصري. تبدو جماعة حزب الله دولة عميقة. وهنا توهّمنا انهيار جهاز الشرطة في جمعة الغضب، وفاجأنا تسجيل اتصال مصطفى النجار ردّ الله غيبته بعبد الرحمن القرضاوي. لا يغلب الدولة العميقة غلاب.
"كَنَـبة الاعتراف" جديرة بالتأمل. لها ولمثيلاتها قوة رمزية، لارتباطها بجهاز استخباري أو جماعة أيديولوجية
لا أناقش أخلاقية تسجيل من دون علم صاحبه، والاحتفاظ به للابتزاز، وتسريبه كسلاح في حرب نفسية. الذين أرهبوا المعارضين بالتسريبات، بإيعاز من السلطة، دارت عليهم الدوائر. وخلفهم عبيد آخرون لا يعتبرون. بعد خلع حسني مبارك، تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة حكم البلاد، وكان كعبة المشتاقين. وأنصت إلى ممثلي الأطياف السياسية، وإلى أعضاء ائتلافات ثورية.
وفي وقت لاحق قال ياسر رزق إنه اختلق واحداً من هذه الائتلافات، وتولى عملية تلميعه وتنجيمه من خلال مؤسسة أخبار اليوم، للتشويش على الفاعلين الحقيقيين. ذلك صحفي جمع الحُسنيات (جمع حُسنى)، بقربه من مبارك وابنه جمال، ومن المشير حسين طنطاوي، وعبد الفتاح السيسي، وزيراً ورئيساً.
مرسي على الكنبة
في صيف 2011 نشرتُ كتابي "الثورة الآن" مسلسلاً، ثم صدر في بداية 2012. وعن ياسر رزق رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" آنذاك كتبتُ أنه نشط، خلال الثورة، "في التحريض الدامي"، إذ نشر تحت عنوان "أخطر مؤامرة أجنبية لضرب مصر" رسماً يمكن تخطيطه في جهاز كمبيوتر، لاقتحام مبنى التلفزيون الحصين، والاستيلاء على جهات حيوية، وأن وراء المؤامرة جماعة الإخوان وإيران وحزب الله.
وسقط "مخرّبون" من اليمن وإيران وغيرهما، "وتم القبض على 40 سورياً وفلسطينياً في داخل ثلاث سيارات ميكروباص في دمنهور... وضبط الأهالي 6 من المغاربة بميدان عبد المنعم رياض. كما تمكن الأهالي من قتل أجنبي" بالزي العسكري بميدان عبد المنعم رياض.
غلاف كتاب "الثورة الآن"
تساءلتُ: أين ذهبت جثة الأجنبي؟ وما جنسيته؟ ولماذا لم تنشر الأجهزة الأمنية صورة له؟ ولماذا لا نرى وجوه المقبوض عليهم من العملاء والمخربين؟ لو صدقت الادعاءات لكان هؤلاء وجبة دسمة في برامج تلفزيونية تتسول متحدثين عن الاستقرار وحكمة مبارك.
وفي 21 نيسان/أبريل، نشر ياسر رزق على لسان رئيس البرلمان المنحل فتحي سرور، المحبوس آنذاك على ذمة التحقيقات في "موقعة الجمل"، أن اجتماعاً عقد برئاسة مبارك وحضور نائبه عمر سليمان، ووزير الداخلية محمود وجدي، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى المنحل، "وتناولوا ما حدث في ميدان التحرير بكل سخرية، سواء قتل المتظاهرين أو الشروع في القتل، والحادث كله تناوله أركان النظام بتهكم".
أترك الميدان وأرجع إلى "كَنَـبة الاعتراف" في مسلسل "الاختيار". في ختام الحلقات تذاع دردشات لقادة الإخوان، وتتراوح بين النميمة، والوشاية، والتقليل من شأن الآخرين، والطعن في قوى اليمين الديني، ليبدو التنظيم ممثلاً وحيداً للإسلامجية. يسخر محمد مرسي من محمد البرادعي، ويقول إن عصام سلطان تلقى أموالاً من إيران، ويتهم قادة سلفيين بالتعاون مع جهاز أمن الدولة. وحازم صلاح أبو إسماعيل موضع انتقاد عبد المنعم أبو الفتوح.
من منصّة الكنبة كرر أبو الفتوح قوله لـ"سيادة اللواء"، الذي لا يشير المسلسل إلى اسمه، إنه قال لحازم أبو إسماعيل: "وصولك للسلطة في مصر يا ابني كارثة... هي مصر تستحمل الهباب اللي انت بتعمله؟".
ماذا تحمل "كَنَـبة الاعتراف" من أقوال لمستقلين من قوى اليسار، واليمين المدني والديني، والليبراليين، وممثلي الأحزاب والنقابات، وأساتذة القانون الدستوري، وشباب الثورة؟ لا أجد لسؤالي صدى في مقالات كتّاب يشيدون
صادفني أكثر من تسريب لخيرت الشاطر، ومرسي على الكنبة ينصت أكثر مما يتكلم. مما ذكره الشاطر أن الإخوان لا يطمعون في رئاسة الدولة، ويرفضون تفكير أبو الفتوح في الترشح للرئاسة. فأتذكر تصريح مرشد الإخوان محمد بديع: "لقد نقض (أبو الفتوح) عهده مع الله".
وتلاحقني التسريبات؛ وفي مشهد يسبق أحد التسريبات، يعترف إرهابي شاب بتكليفه بقتل الشيخ رسلان. فيضرب المحقق كفّاً بكفّ: "أقنعوك تقتل، ماشي. لكن تقتل شيخ؟ هو الشيخ ده كافر يا ابني؟". سقطة حوارية أخشى أن يُفهم منها أن قتل الكافر إجراء لا يستوجب الاستنكار والمحاسبة؟ لا أناقش المسلسل الذي لا أشاهده، وقد استفزني هذا المشهد الدال على غفلة.
خيرت الشاطر
يتصدر المشاهد الدرامية ممثل يؤدي دور المشير طنطاوي، وعلى يمينه كرسي تليه كَنَـبة الاعتراف. يبدأ المشهد بدخول الضيف، مرسي (الممثل صبري فواز)، وبعد جملة حوارية يتم القطع على ما تم اختياره من المشهد الوثائقي الحقيقي، وتتجه الكاميرا إلى الكنبة ومن عليها.
فماذا تحمل "كَنَـبة الاعتراف" من أقوال لمستقلين من قوى اليسار، واليمين المدني والديني، والليبراليين، وممثلي الأحزاب والنقابات، وأساتذة القانون الدستوري، وشباب الثورة؟ لا أجد لسؤالي صدى في مقالات كتّاب يشيدون. في مقال عنوانه "بطولة الاختيار فداء لمصر"، كتب يوسف القعيد في "الأهرام"، 11 نيسان/أبريل 2022، أن صناع المسلسل "لديهم الشجاعة بأن قدموا لنا بعض الوجوه البغيضة للجماعة إياها".
صبري فواز في دور مرسي
وبعد أسبوع، كتب -يوسف العقيد أيضاً- في "الأهرام" مقالاً عنوانه "اختيار أهل مصر"، صعد بالعمل إلى منزلة "مسلسل العام الرمضاني... فحرصي على مشاهدته مسألة لا تقبل الجدل أو النقاش... الاختيار ليس مجرد مسلسل تلفزيوني، ولكنه ملحمة وطنية نرى فيها ونتابع ونشاهد كفاح شعب أبدع من أجل أن يرى المصريون معنى كلمة وطن والتضحية في سبيله".
وقال إن المزج بين التسجيلي والدرامي "يتم بشكل فني غير عادي". وللأستاذ يوسف، في بداية عامه التاسع والسبعين من عمره المديد، أن يكتب ما يشاء. وكنت قد أجّلت مشاهدة المسلسل حتى تنتهي زحمة رمضان، ومعها هجوم لا يقتصر على الإخوان وأنصارهم، ومديح مجاني، لكن مقالات الأستاذ يوسف قفلتني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...