عندما نبصر النور، لا تكون لدينا سوى معرفة قليلة جداً عن العالم الذي ولدنا فيه، ونحتاج إلى التعلم وتنمية مهاراتنا من أجل البقاء على قيد الحياة، ومن ثم ننمي حسّ الفضول من خلال طرح الأسئلة والبحث عن الحقيقة والمعرفة.
والواقع أن معظم المغامرات الرائعة في الحياة تبدأ بالفضول، حتى أن عدداً كبيراً من القصص الخيالية تنطلق من إعطاء شخص ما صوتاً للتساؤل، فتتسم الشخصية التي تلعب دور البطولة، بحب الاطلاع وبالتعطش إلى المعرفة. ففي قصة الأميرة النائمة، تنطلق الأحداث من نقطة معيّنة: هناك شابة تريد أن تستكشف القلعة فقط لترى ما بداخلها...
وفي سفر التكوين، يُحكى أن الله طلب من آدم وحواء ألا يأكلا من شجرة التفاح، غير أنهما لم ينصاعا لهذا الأمر، وذلك بدافع الفضول والرغبة في معرفة السبب الكامن وراء هذا الحظر.
في الواقع، قد يكون الفضول هو القوة الدافعة لجميع العلوم والتجارب، ما يدفعنا لاستكشاف القمر والمغامرة في أعلى الجبال وأعمق المحيطات، لكنه قد يشكل أكبر انهيار لنا. إنه الصوت الذي يقول في رأس كل واحد منّا: "اضغط على الزر"، فننصاع له وقد نكتشف أننا وقعنا في ورطة كبيرة، على غرار المقولة الشهيرة: "الفضول قتل القطة".
واللافت أن البشر غير متساوين لناحية الفضول: ففي حين أن بعض الناس لا يتوقفون عن طرح الأسئلة أو التحقيق في كل "شاردة وواردة"، فإن البعض الآخر سعيد تماماً بما لديه وبما يراه، ولا يجد أن هناك حاجة ملحة لمعرفة المزيد، فما هو الفضول ولماذا يختلف مستواه بين الناس؟
الدافع وراء الفضول
إحدى الطرق لبدء استكشاف الفضول هي الانطلاق من فكرة "البحث عن المعلومات"، ويمكن ملاحظة هذا السلوك بين جميع الحيوانات، بدءاً من القرود وصولاً إلى الدلافين، بحيث يسعى كل حيوان للحصول على معلومات حول بيئته.
وبالنسبة للبشر، لعل هذا هو سبب وجود الأعضاء الحسية التي تقوم بتزويد الدماغ بالمعلومات لفهم البيئة واتخاذ خيارات أفضل.
ولكن متى يتم اعتبار البحث عن المعلومات فضولاً؟
إن الاختلاف يكمن في الدافع، فإذا كنتم تبحثون عن المعرفة بسبب دافع خارجي، مثل المدرسة أو العمل، فهذا لا يعتبر فضولاً، ولكن إذا كنتم تبحثون عن المعرفة لأنه لديكم رغبة شخصية في معرفة الإجابة، فهذا يعتبر فضولاً.
إنه الصوت الذي يقول في رأس كل واحد منّا: "اضغط على الزر"، فننصاع له وقد نكتشف أننا وقعنا في ورطة كبيرة، على غرار المقولة الشهيرة: "الفضول قتل القطة"
فكروا مثلاً في الإنسان الذي صنع الناي منذ 35000 عام. لم يكون مدفوعاً بالحاجة إلى الدفء أو تناول الطعام؛ بدلاً من ذلك، كان لديه حماس داخلي لصنع آلة يمكنها أن تحدث صوتاً جميلاً.
في الواقع، عندما يثير شيء ما فضولنا، يدخل عقلنا في مرحلة تعرف بـ"حالة الفضول": تُضاء أجزاء الدماغ الحساسة للظروف غير السارة. هذا يدل على أننا غير مرتاحين إلى حدّ ما، لأننا ندرك أننا نفتقر إلى بعض المعرفة. بعد ذلك، تبدأ أجزاء دماغنا المسؤولة عن التعلم والذاكرة في العمل بسرعة قصوى، بحيث يمكننا التعلم وتذكر ما تعلمناه بشكل أكثر كفاءة.
في هذه المرحلة نكون على استعداد لبدء البحث عن إجابات. وعندما نبدأ فعلياً في تعلم حقائق جديدة، يحدث شيء أكثر إثارة للاهتمام من الذاكرة المتزايدة: تبدأ دائرة المكافآت الخاصة بنا، بحيث يكافئنا عقلنا على السعي وراء الفضول.
وفي هذا الصدد، توصل الباحثون إلى أنه عندما نستكشف فضولنا ونُشبعه، يغمر العقل جسمنا بالدوبامين، ما يجعلنا نشعر بالسعادة، وبالتالي، تزيد آلية المكافأة هذه من احتمالية أن نحاول إرضاء فضولنا مرة أخرى في المستقبل.
نظام البحث
عندما نشبع شهيتنا، نمارس الجنس أو نحمي جمسنا من البرد مثلاً من خلال الجلوس أمام المدفئة، يقول لنا دماغنا "نعم، لقد أحسنتم العناية بالجسم، خذوا بعض الإندورفين".
في العام 1998، أطلق عالم الأعصاب جاك بانكسيب على هذا النظام اسم "نظام البحث"، والذي يتكون من واحدة من سبع وظائف عاطفية أساسية للدماغ (جنباً إلى جنب مع وظائف أخرى مثل الخوف والذعر واللعب).
بمعنى آخر، فإن نظام البحث هو الذي يشجّعنا على الاستكشاف والبحث عن الطعام وتجاوز منطقة الراحة الخاصة بنا. إنه نظام موجه نحو هدف ما وله آليات مكافأة مختلفة، تم إعدادها لتحقيق هذا الهدف. هذا النظام هو عبارة عن آلية تطورية عمرها آلاف السنين، تدفع البشر إلى أن يكونوا مغامرين وجريئين ويبحثون عن المخاطر. من دون نظام البحث هذا، لكنّا قد جلسنا في "وكرنا" واكتفينا بكل ما لدينا من أشياء هزيلة.
في حوار أجراه موقع رصيف22 مع الأخصائية في علم النفس العيادي، ستيفاني غانم، تحدثت عن الفضول انطلاقاً من 3 مستويات: الذهني، الاجتماعي والعاطفي.
فبالنسبة إلى الشق العقلي، اعتبرت غانم أن العلماء يشددون على حاجة الإنسان إلى "النور" الذي يأتي عبر المعلومات والتجارب الحسية التي نختبرها، موضحة أننا كبشر نحتاج إلى أن نفهم لكي يصبح لدينا سيطرة أكبر على حياتنا وواقعنا: "كلما كان لدينا فضول أكبر للاستكشاف، كلما تمكنّا من بسط سيطرتنا وهيمنتنا على الواقع".
وعن البعد الاجتماعي، أوضحت ستيفاني أن الإنسان الذي يترعرع في كنف بيئة فيها فضول اجتماعي يتسم مثلاً "بتجميع" معلومات عن الآخرين، كالأهل الذين يريدون معرفة كل شيء عن أولادهم، أو الفرد الذي يرغب في معرفة كل تفصيل في حياة رفاقه، قد يعني ذلك بالإجمال أن هؤلاء الأفراد لا يركزون بشكل كاف على ذواتهم وعلى حياتهم الشخصية، وهم بحاجة إلى أخذ معلومات وتجارب أشخاص آخرين، إمّا بهدف التمسك والتمثل بصورة معيّنة، أو ببساطة لأن لديهم فراغاً كبيراً ويحتاجون لإشباعه عبر الفضول الاجتماعي.
وبالنسبة للفضول العاطفي، أشارت غانم إلى أنه يتمثل في حاجة المرء إلى معرفة الأمور التي يجهلها: "هذا النوع من الفضول يعتبر إيجابياً، لكونه لا يدور حول معرفة ماذا يدور في ذهن الآخرين وتجاربهم ومشاعرهم، إنما تغذية الروح والنفس من خلال المعرفة التي يمكن العثور عليها عبر الكتب أو البحث الإلكتروني".
وأضافت ستيفاني أن الفضول يمكن استخدامه لتنمية المعلومات و"مَنْطَقَة" الأمور لكي يتمكن المرء من بسط السيطرة على حياته الشخصية من دون التدخل في شؤون الآخرين، كما يمكن أن يستخدمه للهروب من ذاته، ولتجنب التركيز على نفسه وبسط السيطرة على الآخرين: "الفضول السلبي هو نوع من أنواع السيطرة، كلما طرح المرء أسئلة تتعلق بالآخرين، وقام بتجميع المعلومات حول شؤونهم الخاصة، كلما أصبح يمتلك سيطرة عليهم، لأنه بات لديه علم بأمور حياتية خاصة بهم".
تدريب الفضول
كل جزء من دماغنا يصبح أسرع وأكثر كفاءة مع الاستخدام الأكبر. كلما قمنا بمهمة ما أو بسلوك معيّن، فإن دماغنا يفرز مسارات عصبية مختلفة أو يعززها أو يقويها. نادراً ما يتوقف معظمنا للتفكير في كيفية القيادة أو المشي، وذلك لأن المسارات العصبية لهذه السلوكيات قد تم حفظها من خلال الاستخدام المنتظم.
عندما يكبر الطفل، تكافئه بيولوجيته بشكل طبيعي حين القيام ببعض سلوكيات البحث عن المخاطر. يُمنح الدوبامين "كجائزة" للأشخاص الفضوليين والمغامرين، وأي شخص يعرف مدى الإحباط الذي قد يسببه الدفع المستمر بالتجريب، ولكن هذا ما يجب فعله، لكون البحث المستمر هو الذي سمح للبشر بالبحث عن الطعام والعثور على مراعٍ جديدة والتقدم كنوع بشري.
"الفضول السلبي هو نوع من أنواع السيطرة، كلما طرح المرء أسئلة تتعلق بالآخرين، وقام بتجميع المعلومات حول شؤونهم الخاصة، كلما أصبح يمتلك سيطرة عليهم، لأنه بات لديه علم بأمور حياتية خاصة بهم"
إن النجاح الذي سيحققه المراهق مثلاً في إرضاء فضوله، أو إلى أي مدى يُسمح له بالانغماس فيه، سيحدد مدى كفاءة مسارات الفضول هذه في وقت لاحق من حياته. إذا تم منح الطفل بيئات جديدة لاستكشافها، وغرفة للعب والتجربة، وحرية طرح الأسئلة، فحينئذ سيتعلم كيف يكون شخصاً محباً للمعرفة والاكتشاف عندما يكبر.
بالطبع، لن يختفي الجدل حول الطبيعة مقابل التنشئة الاجتماعية بين عشية وضحاها. سيظل علم الوراثة وتكوين الدماغ منذ الولادة عاملاً مهماً بالنسبة للكثيرين، ولكن كلما زاد استخدام مسار المكافأة في البحث عن المخاطر أو الفضول، كلما زاد الفضول مرة أخرى.
هل يختلف الفضول بين الجنسين؟
في الحقيقة، لا يوجد مكان يكون فيه الجدل حول الطبيعة مقابل التنشئة أكثر احتداماً من التفكير في الاختلافات بين الجنسين.
هناك بحث يشير إلى أن النساء أكثر تجنباً للمخاطر عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات المالية، وأن الرجال أكثر عرضة مرتين لطرح الأسئلة في المؤتمرات الأكاديمية، كما وجد بحث من جامعة ستوكهولم أن الرجال أكثر عرضة للمراهنة بكل أموالهم على سؤال واحد في لعبة الخطر.
ولكن هل يتم تشجيع الرجال والنساء على الاستكشاف والمغامرة بنفس الطريقة؟ هل يتم تعزيز مسارات المكافأة بنفس الاهتمام والاجتهاد؟ هل يُسمح للمرأة أن تكون فضولية مثل الرجل؟ هذه الأسئلة بحدّ ذاتها مثيرة للفضول، ولكن للأسف لا نملك إجابات شافية حتى هذه اللحظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون