في مقطع ترويجي للفيلم السوري الجديد "الإفطار الأخير"، يتبادل سامي قبلة حميمة مع زوجته رندة قبل أن يخطفها الموت متأثرة بشظايا قذيفة هاون سقطت على منزلهما. القبلة التي تجمع زوجين أدى دوريهما الفنانان عبد المنعم عمايري وكنده حنا، تحوّلت إلى الحدث، بدلاً من الفيلم وقصّته.
مشاهد الفيلم الذي يروي فصول أزمة نفسية حادة يعاني منها رجل سوري فقد زوجته في الحرب السورية، أثارت موجة من الجدل والانتقاد ضد صناع الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي، طغت عليها أدبيات "الشرف" و"الأخلاق".
والفيلم الذي يُعد أحدث أعمال المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، يثير أسئلة حول فلسفة الحياة والموت والأحلام، في رحلة سامي عبر ذكرياته الرومانسية التي جمعته بزوجته في آخر إفطار لهما. وبالرغم من وجود تعليقات أثنت على الفيلم، وأبدت تأثّرها بمشهد مقتل رندة، ومعاناة سامي مع فقدان زوجته التي يحب، إلا أن أغلب التعليقات تركزت على مشهد القبلة، التي تعود مؤخراً إلى الدراما السورية بعد أن غابت لعقود.
الفيلم الذي يُعد أحدث أعمال المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، يثير أسئلة حول فلسفة الحياة والموت والأحلام
فور بث المشاهد، شنّ عدد كبير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي حملة على الممثلين السوريين، ليُتهما مرة بـ"الإباحية"، وأخرى بـ"الفسق" و"الرخص"، إضافة إلى سيل من الشتائم، اختلفت المصطلحات المستخدمة فيها ضد الفنان عمايري، عن تلك المستخدمة ضد الفنانة حنا، التي تلقت شتائم من نوع خاص، يغلب عليها الطابع الجنسي والاتهام بـ"العهر"، ضمن الثقافة الذكورية التي تخاطب المرأة بشكل عام في إطار جنسي. بعض التعليقات طالت زوج الفنانة، رغم عدم ارتباطه بالعمل من قريب أو بعيد.
القبلة في إطارها الفني
أمام موجة "شجب التقبيل"، يُطرح السؤال: ما الذي تريد قبلة رومانسية قوله في فيلم؟ من حيث المبدأ، يوجد أنواع كثيرة من القبلات وطرق عدة يُمكن تفسيرها من خلالها، لكن في مشهد القبلة الرومانسية تحديداً، تسكت الشخصيات وكأن المخرج يترك الكلام لها. والقبلة هي تعبير عن الرغبة بالاتصال الجسدي بين شخصين، وتشير إلى رغبة الطرفين في اللمس بطريقة حميمة، وهي فعل حيوي يعبر عن العاطفة.
يوجد أنواع كثيرة من القبلات وطرق عدة يُمكن تفسيرها من خلالها، لكن في مشهد القبلة الرومانسية تحديداً، تسكت الشخصيات وكأن المخرج يترك الكلام لها
وحينما يعرض فيلم معين مشهد قبلة رومانسية، فإن المخرج هنا يُجسّد للمشاهد قوة مشاعر الحب التي تجمع هاتين الشخصيتين، بأبسط تعبير جسدي عن هذه العاطفة: القبلة. ففي السينما، تحتاج الكاميرا إلى أشياء مادية لتصويرها، وتكون لقطة القبلة تجسيدا للحب المتدفق من خلال شفاه الحبيبين. وقد تعبر القبلة عن انتصار الحب، كقبلة العشاق في نهاية الأفلام المصرية القديمة، وقد تكون تعبيرا عن مشاعر الشوق إلى الحبيب، حينما يتذكر الزوج قبلاته مع زوجته التي قتلتها قذائف الحرب، كما في فيلم الإفطار الأخير.
يرى المخرج والمصور ربيع إبراهيم أن القبلة "كأي مادة بصرية تعبر عن شعور إنساني، هي أداة بيد المخرج، كي يستعملها للتعبير عن حالة أو موقف أو فكرة"، فالقبلة في السينما، "هي كأي فعل آخر، تعبير عن فكرة أو مشاعر باستخدام لغة الجسد، لهذا فإنها أداة تعبير بصرية مهمة جداً في العمل السينمائي".
ويقول إنه في صناعة السينما "يحاول المخرج أن يجعل المشاهد يعيش حالة معينة، وبالتالي، إذا شعر المخرج أن القبلة هي الأداة البصرية الأقدر على إيصال فكرة أو حالة أو إحساس ما، يصبح مجبراً على تقديمها في عمله، حتى لو شعر البعض أنها جريئة جداً".
إذا شعر المخرج أن القبلة هي الأداة البصرية الأقدر على إيصال فكرة أو حالة أو إحساس ما، يصبح مجبراً على تقديمها في عمله
من جهته، يدعو الناقد الفني جوزيف طوق المشاهد العربي، أمام مشاهد من هذا النوع، إلى أن يتذكر دائماً أن "الدراما ليست الحقيقة"، وبالتالي، إذا ما حدثت قبلة بين ممثل وممثلة في أي عمل فني "فهذا لا يعني أنهما في علاقة غرامية، ولكن هذا يعني أن هذا العمل الدرامي يتطلب هنا قبلة كي تتمم البنية الدرامية للعمل سواء كان فيلماً أو مسلسلاً".
المشاهد العربي "يتقبل الأفلام والمسلسلات التي تقدم ذكورية مفرطة من خلال مشاهد العنف والدم، كمسلسل الهيبة، لكنه يرفض تقديم الرجل في السينما كإنسان عاطفي
ينتقد طوق تبرير رفض القبلات في السينما من خلال القول إن المجتمع العربي "هو مجتمع محافظ على الأخلاق والقيم"، بينما تقدم مشاهد القتل والدم والدمار والأشلاء والجرحى، كمشاهد عفوية وعادية في نشرات الأخبار كل يوم. ويسأل: "هل هناك من يريد القول إن الدم والقتل عادي لكن القبلة عيب!"
ذكورية مفرطة
وأمام الهجوم على عمايري، يقول طوق لرصيف22 إن المشاهد العربي "يتقبل الأفلام والمسلسلات التي تقدم ذكورية مفرطة من خلال مشاهد العنف والدم والقتل والعصابات، كمسلسل الهيبة، على سبيل المثال لا الحصر، لكنه يرفض تقديم الرجل في السينما كإنسان عاطفي وناعم من الممكن أن يُقِبّل كي يعبر عن مشاعره". يرى طوق في هذه المفارقة أن المشاهد بات يتحمس للرجل "الذي يعبر عن مشاعره وهرمون التستوستيرون لديه بالعنف والتدمير، لكنه يرفض الرجل الذي يُعبّر عن مشاعره باللطافة والرومانسية".
بدت التغطية الإعلامية التي تناولتها ملفتة، حيث غلبت عبارات مثل "فضيحة" و"مشاهد ساخنة" على العناوين
في المقابل، تناولت الانتقادات الفنانة السورية كنده حنا من زاوية أنها "تسيء لصورة المرأة السورية"، دون تحديد ما إذا كان هناك "كتالوج" يتضمن "مواصفات المرأة السورية"، أو يضم "تعليمات" من ناحية أن لا تقبل الزوجة زوجها، كما قبلت رندة زوجها سامي في الفيلم. يبرز هنا رفض التعامل مع العمل الفني كعمل فني، تكون التصرفات التي تنتج عن شخصياته، تصرفات ناتجة عن الشخصية المقدمة، وليس عن صاحبة أو صاحب الدور. فرغم أنه في كل يوم، تقبل زوجة زوجها في سوريا، وهذا ما قدمته كنده في سياق علاقة حب بين زوجين، إلا أن هذه التعليقات كانت ترفض وضع القبلة في إطارها التمثيلي.
تحويل الفن إلى فضيحة
في إطار ردة الفعل على بعض مشاهد العمل أيضاً، بدت التغطية الإعلامية التي تناولتها ملفتة، حيث غلبت عبارات مثل "فضيحة" و"مشاهد ساخنة" على العناوين. معظم العناوين وصفت المشاهد بـ"الصادمة" و"الساخنة"، وهي مصطلحات تستخدم عادة لوصف مشاهد جنسية. إحدى التغطيات عنونت: "قبلة ومداعبات بين كنده حنا وعبد المنعم عمايري تثير حفيظة السوريين"، وهو عنوان مستوحى من المواقع الإباحية. يشار هنا إلى أن المشاهد التي يجري الحديث عنها لم تتضمن "مداعبات جنسية" من أي نوع. أخرجت هذه التغطية الإعلامية المشاهد من سياقها الدرامي، الذي يفترض أن يعرفه جيداً أي صحافي يتناول عملاً فنياً، ووضعتها في إطار جنسي بحت، بعكس الإطار النفسي المليء بالمشاعر الذي عرضه العمل.
أخرجت هذه التغطية الإعلامية المشاهد من سياقها الدرامي، الذي يفترض أن يعرفه أي صحافي يتناول عملاً فنياً، ووضعتها في إطار جنسي بحت
يقول طوق إن المجتمع بطبيعته "عاطفي بالدرجة الأولى، ومن ثم مجتمع شهواني، يتفاعل مع الأخبار الجنسية مثله مثل كل مجتمعات العالم"، لكن المشكلة في العالم العربي بنظره، هي حينما تقدم تلفزيونات وصحف ومجلات ومواقع، على تحويل قبلة فنية درامية طبيعية إلى "القبلة الفضيحة". ويرى أن وسائل الإعلام هذه "تضع إصبعها على الجرح الذي لا نتألم منه، كي تتجنب الحديث عما يؤلمنا حقاً في العالم العربي".
ويوضح طوق وجهة نظره بأن وسائل الإعلام هذه "تحوّل الخبر إلى جنسي وتجعل منه فضيحة كي تتجنب الإشارة إلى الفضائح الحقيقية التي يعاني منها العالم العربي كالاستسلام والفساد والديكتاتوريات وعدم احترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل".
قيود تتراجع!
قبل نصف قرن، كانت المشاهد الجنسية تمر في السينما السورية بشكل طبيعي، قبل أن يشتد عود الحركات الأصولية في المنطقة، والتي أثرت على ثقافتها بشكل جلي. في عامي 1973 و1974، قدم الفيلمان السوريان "وجه آخر للحب" و"المغامرة" مشهداً حميمياً جمع بين سلوى سعيد وهاني الروماني، ومشاهد عري للفنانة السورية إغراء، أمّا أفلام دريد لحام ونهاد قلعي فكانت تمرّ فيها القبلات الرومانسية بسلام، كما في أفلام "زوجتي من الهيبيز" و"المزيفون" و"النصابين الثلاثة" وغيرها.
يظهر أن العقبة الأبرز، أن المجتمعات العربية بغالبيتها غير مهيّئة لتقبل هذه الجرأة، بل هي مستعدة لمحاربتها بوسائل عدّة
وغاب هذا النوع من المشاهد تدريجياً عن السينما السورية بدءاً من أواخر السبعينيات، لأسباب سياسية واجتماعية، فيما تعود القبلات اليوم بخجل، مع فيلم "الإفطار الأخير" وقبله مع مسلسل "شارع شيكاغو"، والذي تضمن قبلات جمعت سلاف فواخرجي مع مهيار خضور ونادين سلامة مع وائل رمضان. وفيما تحاول السينما كسر القيود المفروضة شيئاً فشيئاً مستفيدة من عدة عوامل، يظهر أن العقبة الأبرز في وجهها أن المجتمعات العربية بغالبيتها غير مهيّئة لتقبل هذه الجرأة، بل هي مستعدة لمحاربتها بوسائل عدّة مستفيدة من الفضاء الافتراضي المفتوح أمامها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...