في الكويت تقليد منذ تأسيسها، وهو ألا يمارس حكامها، آل صباح، التجارة، وألا يتدخلوا في أمور التجارة. السبب وراء هذا التقليد يوضحه الخبير الدستوري وأستاذ القانون العام في جامعة الكويت د. محمد الفيلي: "مَن يحكم يملك وسائل الحكم عندما يمارس نشاطاً تجارياً أو صناعياً".
ولكن، يمتلك الأمير الكويتي الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح وأبناؤه واحدة من أكبر إمبراطوريات الاقتصاد في الكويت والخليج وربما حتى في الشرق الأوسط. إنها شركة مشاريع الكويت القابضة "كيبكو" KIPCO. تسريبات "أوراق باندورا" Pandora Papers أماطت اللثام عن تفاصيل ملكيّة الأمير الراحل وأبنائه لـ"القطار الذي لا يقف في وجهه أحد"، على حد تعبير مصدر قريب من عالم المال والأعمال في الكويت طلب عدم كشف هويته.
يقول المصدر: "بينما تعترض الشركات مشاكل بيروقراطية وتتوقف أعمالها للحصول على الموافقات اللازمة، كانت مشروعات كيبكو لا تُعترض، فالجميع يعلم مَن يقف وراء الشركة، وهذا كان امتيازاً ساعدها في تلك المرحلة، ولكن أعتقد أن ذلك سيتغيّر الآن برحيل الأمير".
يستند التحقيق إلى وثائق مسرّبة حصل عليها "المركز الدولي للصحافيين الاستقصائيين" (ICIJ)، وشاركها مع "أريج" وعدد كبير من الناشرين حول العالم، ضمن مشروع أُطلق عليه اسم "أوراق باندورا".
التسريبات التي يحقق فيها أكبر تعاون صحافي عابر للحدود في التاريخ، تضم ملايين الوثائق من مكاتب محاماة، حول الملاذات الضريبية، وتكشف عن أصول وصفقات سرية وثروات خفية لأثرياء، من بينهم أكثر من 130 مليارديراً، وأكثر من 30 من قادة العالم وعدد من الهاربين أو المدانين ومشاهير الرياضة وغيرهم، وكذلك قضاة ومسؤولي ضرائب وأجهزة مكافحة تجسس.
تأسست "كيبكو" عام 1975، وتمتد عملياتها عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. "مع مجموعة شركات قابضة في قطاعات مثل الخدمات المالية والإعلام والتصنيع والعقارات، تضمّ مجموعة مشاريع الكويت أكثر من 60 شركة وتوظف أكثر من 16000 شخص في 24 دولة"، بحسب تعريف الشركة نفسها على موقعها الإلكتروني.
من بين الموقعين على عقد تأسيس "كيبكو" وليّ العهد الحالي الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وعبد الله يعقوب بشارة، والذي تولى منصب مدير مكتب صباح الأحمد في وزارة الخارجية، وأصبح في ما بعد أول رئيس لشركة شمال إفريقيا القابضة، الواردة في تسريبات "باندورا"، والتي تعود ملكيتها إلى شركة "كيبكو"، إلى جانب 133 اسماً من أبرز رجال الأعمال في الكويت، من بينهم مؤسسو أكبر الشركات الكويتية: الخرافي والشايع والغانم والساير وغيرهم.
غالبية المؤسسين لم تظهر لهم أي علاقة بالشركة بعد تأسيسها. ويرى خبير في البورصة (طلب عدم كشف هويته) أنهم ربما باعوا أسهمهم مع تعديلات كيان الشركة على مرّ السنين، أو ما زال بعضهم يحتفظون بأسهم لا تخوّلهم تولي شؤون الإدارة.
أُدرجت شركة "كيبكو" في بورصة الكويت عام 1984. بعد أربعة أعوام، حدثت تعديلات على كيانها بإضافة نشاطات الخدمات المالية والإقراض والاقتراض إلى أعمالها. وفي عام 1999، عُدّلت صفتها من شركة استثمارية إلى قابضة "لتفادي رقابة البنك المركزي الصارمة والخروج من تحت مظلته"، بعدما واجهت الشركة مشاكل معه في اعتماد بياناتها المالية، بحسب تحليل لـ"مركز الجمان للاستشارات الاقتصادية" للبیانات المالیة لـ"كيبكو" عام 2004.
رأس مال الشركة المدفوع بلغ 200 مليون دينار كويتي (قرابة 665 مليون دولار)، موزعة على ملياريْ سهم. هيكل الملكية يعود بنسبة 44% لشركة الفتوح القابضة (تترأس مجلس إدارتها حفيدة الأمير الراحل فتوح ناصر صباح الأحمد)، وبنسبة 22% للشركة الأمريكية المتحدة القابضة.
وفي 20 كانون الأول/ ديسمبر 2020، نشرت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) سيرة لنجل الأمير الأكبر الشيخ ناصر، بعد وفاته، ذكرت فيها أنه مؤسس شركة الفتوح القابضة، وهي كانت المرة الأولى التي يُعلَن فيها ذلك.
دستورياً... دور الأمير التفرغ لشؤون الإمارة
عدم الجمع بين العمل التجاري والعمل السياسي هو شكل من أشكال تطبيق نظرية عدم جواز تعارض المصالح، بحسب ما يوضح الخبير الدستوري وأستاذ القانون العام في جامعة الكويت د. محمد الفيلي. ويضيف: "مَن يحكم يملك وسائل الحكم عندما يمارس نشاطاً تجارياً أو صناعياً، وهناك خطأ في أن يستخدم صلاحياته كحاكم لمصلحة عمله كتاجر أو صانع".
بحسب الفيلي، لم ينظّم الدستور الكويتي هذه المسألة، ولم يتضمن نصاً يمنع الأمير من ممارسة العمل التجاري. ولكنه يوضح أن الأمير، وفق الدستور، لديه نوعان من الاختصاصات، "الأول يمكّنه من إصدار أوامر أميرية تمنع منازعته أمام المحاكم، بتعيين وكيل عنه في الخصومة. والثاني، وهو الخاص بالحياة العامة، بحيث لا يمارس اختصاصاته إلا بواسطة وزرائه، باستثناء أمور محددة في الدستور، يمارسها بأمر أميري مثل تزكية ولي العهد، وتعيين وعزل نائب الأمير وتعيين رئيس مجلس الوزراء". وبالتالي يُفترض، بحسب الفيلي، أن الأمير متفرغ للإمارة.
وجود كيان اقتصادي كبير في الكويت يعود إلى الأمير وأبنائه هو تعارض واضح للمصالح بين الحكم وأمور التجارة. يقول د. غانم النجار، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت: "القصد من ذلك أن الشيوخ والأسرة الحاكمة والمسؤولين الرسميين عليهم ألا يدخلوا بالتجارة".
الحكم والتجارة
شهد البرلمان الكويتي واقعة تشير إلى توصية أميريّة سابقة بعدم جواز الجمع بين الحكم والتجارة. ففي 18 تموز/ يوليو 2006، بعد نحو خمسة أشهر من تنصيب الأمير صباح، رُفعت مخصصاته السنويّة من ثمانية ملايين دينار إلى 50 مليوناً (زيادة نحو 500%). ووافق البرلمان من دون مناقشة باستثناء تعليق من مرزوق الغانم، رئيس مجلس الأمة الحالي، الذي قال: "إن أجمع المجلس على زيادة مخصصات سمو الأمير، أرجو أن نستذكر في هذه اللحظة قول الشيخ عبد الله السالم (أمير الكويت الحادي عشر وفي عهده وُضع دستور الكويت) وتوصيته بألا يكون هناك جمع بين الحكم والتجارة).
في الكويت تقليد منذ تأسيسها، وهو ألا يمارس حكامها، آل صباح، التجارة، وألا يتدخلوا في أمور التجارة. ولكن، تسريبات "أوراق باندورا" #PandoraPapers أماطت اللثام عن تفاصيل ملكيّة الأمير الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح وأبنائه لـ"قطار لا يقف في وجهه أحد"
تولى أمير الكويت الخامس عشر صباح الأحمد الصباح الإمارة في كانون الثاني/ يناير 2006 حتى وفاته في أيلول/ سبتمبر 2020. لديه أربع أبناء، ثلاثة ذكور توفي أحدهم صغيراً، وابنة توفيت في بداية عقدها الخامس. وأدار نجلاه الآخران أمور التجارة وتطوير كيان "كيبكو".
الشيخ حمد صباح الأحمد لا يعمل في السياسة ولا يقترب من الأضواء، لكنه رجل الأعمال القوي الذي يقف خلف إمبراطورية "كيبكو"، ويرأس مجلس إدارتها.
أما الشيخ الراحل ناصر صباح الأحمد، فهو مؤسس شركة "فتوح القابضة" و"شركة مشاريع الكويت القابضة" (كيبكو). وتولى منصب وزير شؤون الديوان الأميري (من شباط/ فبراير 2006 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2017). وتعدى الديوان الأميري خلال توليه منصبه على اختصاصات وزارتي الأشغال والصحة وغيرها، بتولي تنفيذ مشروعات كبيرة في الدولة، بحجة تفادي الدورة البيروقراطية الطويلة المعطلة للمشروعات.
شركة دار "اس اس اتش" الدولية للاستشارات الهندسية (SSHIC)
أسس الشركة صباح أبي حنا الذي بدأ عمله بتصميم قصور الأسرة المالكة عام 1961، وتولت تنفيذ 25 مشروعاً من خلال الديوان الأميري بتكلفة 1.4 مليارات دينار، على ما صرّح به وزير شؤون الديوان الأميري الشيخ علي الجراح عام 2019 والذي أعفي من منصبه عام 1921.
وكان عمران حبيب حيات رئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية للخدمات البترولية "نابيسكو" المملوكة لشركة "القرين للبتروكيماويات" المملوكة لـ "كيبكو"، هو أيضاً مدير عام شركة العقارات المتحدة (الذراع العقاري لمجموعة شركة كيبكو) بحسب بيانات غرفة تجارة وصناعة الكويت. الشركة نفّذت مشروع الواجهة البحريّة المعروف بـ"مول وفندق المارينا" في منطقة السالمية عام 2000. في حين أن شركة SSH فازت قبل التنفيذ عام 1997 بعقد التخطيط الرئيسي والتصميم والإشراف.
مشروع SSHIC في المغرب
شركة SSHIC هي أيضاً المستشار الرئيسي لتنفيذ منتجع (خمس نجوم) في المغرب لم يعلن عن اسمه، وبقيت تكلفته وهوية العميل المالك له قيد السرية. من خلال التدقيق (عبر محرك غوغل) في الصور المنشورة على موقع الشركة، تبيّن أن اسم المنتجع هو "سانت ريجيس مراكش" المتوقع افتتاحه عام 2024.
ما الذي يجعل شركة كويتيّة كبيرة تتجه لإنشاء شركات في الخارج توصَف بأنها ملاذ للتهرب الضريبي؟ الأمر بحد ذاته قانوني... لكن ما وراء ذلك هو الأهم
المنتجع ضمن مشروع "أسوفيد" وهو أحد استثمارات شركة "كيبكو" في المغرب، فيما تمتلك الشركتين المغربيتين Tiglio SARL وPacato SARL فيلات 108 و101 أسوفيد مراكش المغرب. تأسست الشركتان من خلال شركتي "أوف شور" في جزر العذراء البريطانية، Tolland Consultants Ltd وNiteshade Corporation، وورد ذكرهما في رسائل البريد الإلكتروني ضمن تسريبات "أوراق باندورا".
مستشفى "السيف"... قصة أخرى
مستشفى السيف شركة تابعة للشركة المتّحدة للخدمات الطبيّة، وهي شركة مساهمة كويتية تأسّست سنة 2003، بهدف الاستثمار في قطاع الرعاية الصحيّة في الكويت والمنطقة، بحسب موقعها الإلكتروني.
ورد في بيانات تسجيل الشركة بغرفة تجارة وصناعة الكويت اسم سعدون عبد الله حسين علي في الترتيب الثاني بعد مهدي محمود حيدر (مالك المستشفى)، بصفته مفوضاً عن الشركة بموجب كتاب رسمي. يتولى سعدون عبد الله حسين علي منصب نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة القرين لصناعة الكيماويات البترولية (تأسست عام 2004، برأس مال 110 ملايين دينار كويتي، أي قرابة 365 مليون دولار أمريكي)، وهي إحدى شركات مجموعة "كيبكو" التي يرأسها الشيخ حمد صباح الأحمد (نجل الأمير الراحل).
شهد بناء مستشفى السيف (عيادة الميدان سابقاً) تجاوزات وتعديات على ممتلكات الدولة وصلت إلى حد مناقشتها في مجلس الأمة والقضاء. وصدرت أحكام بإزالة الأدوار والمباني المخالفة للترخيص. في 29 نيسان/ أبريل 2010، طلب مجلس الأمة من ديوان المحاسبة فحص مشروع إنشاء مستشفى الميدان (السيف حالياً). خلصت نتائج الفحص إلى عدم قيام وزارة المالية باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أملاك الدولة من تجاوزات الشركة المنفذة (10 مخالفات).
17 شركة "أوف شور"... ما الهدف؟
أسست شركة "كيبكو" 15 شركة في جزر العذراء البريطانية و"كايمان" وجزيرة "مان" بحسب التقرير المالي للشركة عام 2020، إلى جانب شركتيّ Tolland وNiteshade، المحور الأساسي لتسريبات "أوراق باندورا".
بحسب تقرير الحوكمة 2020 لكيبكو، تعود ملكيّة شركتي الأوف شور في جزر العذراء البريطانية، Tolland وNiteshade، بنسبة 100% إليها، وهما شركتا استثمار قابضة. في إحدى الوثائق المسرّبة، تخطيط هيكلي للشركات المنبثقة عن شركة "شمال إفريقيا القابضة"، التي تملك كيبكو 75% منها، ويصدر عنها 12 شركة بملكيّة كاملة 100% في كل من شمال إفريقيا وقبرص، بالإضافة إلى شركتي Tolland وNiteshade في جزر العذراء البريطانيّة.
ما الذي يجعل شركة كويتيّة كبيرة تتجه لإنشاء شركات في الخارج توصَف بأنها ملاذ للتهرب الضريبي؟
طرحنا السؤال على خبير من أهم الخبراء الاقتصاديين في الكويت في مجال الاستثمار وشركات الأوف شور، طلب عدم كشف هويته، فاعتبر أن الأمر قانوني، لكن ما وراء ذلك هو الأهم.
يقول: "أعتبر أن الخليجيين يمكنهم استخدام هذه الشركات للانطلاق باستثمارات جديدة في أسواق دوليّة من دون لفت الانتباه لأنفسهم أو لجنسياتهم، وعدم ظهورها للفضوليين، أو لتسهيل إعادة بيع الأصول بدون إجراءات معقدة".
وحتى لحظة نشر هذا التحقيق، لم تردّ شركة "كيبكو" على استفساراتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 15 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت