شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يوم سقط الشيخ يعقوب

يوم سقط الشيخ يعقوب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 12 يوليو 202112:36 م

لم أكن بلغت الخامسة عشر من العمر وقتها. كنت فتى صغيراً أنتظر "ميكروباص" يعيدني إلى البيت، لأجد المكان الوحيد الخالي بجوار بعض الفتيات. يرنّ في أذني صوت الشيخ محمد حسين يعقوب، وهو يحذّر من مجرد الجلوس بجوار أي امرأة في وسائل المواصلات، لأن ذلك يجعل الأجساد تتقارب، وقد تتلامس. ثم يُكمل بحديث منسوب إلى النبي: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". لكن هذا أهون الأضرار، فبسبب شهرة "الشيخ" الذي يتحدث باللغة العامية، وترديده جملة "إذا كان عمر بن الخطاب لم يضمن الجنة، فما بالنا نحن"، تمنيت الموت صغيراً، لعلي أقابل الله بأقل قدر من الذنوب، فيرحمني. هذا بالطبع تفكير طفولي، وربما لم يقصده الشيخ، لكنه لم يقل غيره.

استرجعت تلك المشاهد، وأنا أرى محمد حسين يعقوب يدلي بشهادته مؤخراً في قضية معروفة إعلامياً بـ"داعش إمبابة". وابتسمت لأني تذكرت أن أغنية "الحب المستحيل" لكاظم الساهر، هي من أنقذتني منه يوم أحببتها، وقادني البحث عن كلماتها لشراء دواوين نزار قباني، وغيره، وشيئاً فشيئاً أنارت القراءة عقلي، وأحببت كاظم، وعشقت الحياة، وكرهت الشيخ.

لكن على كل حال، تلك تجربة شخصية، ربما كنت سأنجو لاحقاً بأي طريقة أخرى، لكن هناك ملايين غيري لم ينجوا. فالرجل بلغته البسيطة، ونبرته المختلفة، تربع على عرش الدعوة السلفية لعقود عدة، سيطر فيها على عقول الملايين الذين ظلوا مؤمنين بما يقوله كله؛ يعملون بفتاويه، ويطبقونها في حياتهم. والحقيقة أن الرجل لم يترك أي شيء إلا وأخضعه للحلال والحرام، بدءاً من عدد شعيرات الذقن، وصولاً إلى ألوان الملابس.

الرجل بلغته البسيطة، ونبرته المختلفة، تربع على عرش الدعوة السلفية لعقود عدة، سيطر فيها على عقول الملايين الذين ظلوا مؤمنين بما يقوله كله

حين شاهدت محمد حسين يعقوب يعلن أمام المحكمة أنه ليس سلفياً، وأن ما فعله كله، كان اجتهادات شخصية، لا فتاوى، لأنه غير مؤهل لذلك، قلت: هذا يوم سقوط الرجل، ليس لأن ما قاله كله "كذب" فحسب، بل لأن تلك الجلسة، في رأيي، أخطر جلسة محاكمة لرجل دين منذ عام 2011، لأسباب عدة أولها أن حضور الرجل جاء من منطلق أنه شاهد تريد المحكمة سماع أقواله، بعد أن قال إرهابيون إنهم لم ينفذوا سوى تعاليم شيخهم "يعقوب"، وعليه فهو ليس مُداناً، أو محتجزاً، أو متّهماً. لنقل إنه خضع للتهديد، أو التلفيق من قبل أجهزة الأمن. فقد وقف الرجل متطوعاً لينفي ما قاله كله خلال أكثر من ثلاثة عقود، واصفاً عمله الدعوي بالاجتهادات الشخصية. وأنا أتحدى أن يعثر أحد على خطبة قال فيها يعقوب إن هذا رأي، أو اجتهاد شخصي. ثاني الأسباب هو الوسيلة التي قيل من خلالها هذا التراجع؛ فالمتابع للجماعات الدينية، ورجال الدين، يدرك أن ما فعله حسين يعقوب ليس جديداً، فهو ليس أول رجل يتراجع عما قاله، أو ينفيه بالكلية. كثيرون فعلوا ذلك، وبوقاحة لا مثيل لها. لكن من سبقوا يعقوب تراجعوا من خلال وسائل محدودة الانتشار كالكتب، مثلما فعلت الجماعة الإسلامية حين أعلنت نبذ العنف مطلع الألفية الثانية، وآخرون تراجعوا من خلال بعض الحوارات الصحافية.

وحده تراجع يعقوب جاء عبر بث مباشر من خلال كاميرات المواقع والقنوات الإخبارية التي سُمح لها بتصوير الرجل وهو يجيب عن الأسئلة المطروحة عليه من قِبل المحكمة. وعليه، ساهم ذلك في أن يراه الملايين في اللحظة نفسها من دون الحاجة لإجادتهم القراءة، أو مطالعة الكتب.

حرّموا القهوة، والتلفاز، والهاتف المحمول، ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم تراجعوا وحللّوها بعد أن حرموا الملايين من متع حياتية لم يحرّمها الله

ولذلك فإني لم أتعجب حال الصدمة التي انتابت محبي "الشيخ"، وهم يرونه ينفي ما علمهم إياه كله خلال سنوات طويلة. صدمة جعلتهم عاجزين حتى عن الدفاع عنه أمام الملايين كلهم الذين هالهم هذا الكذب الفج، فكتبوا ينتقدون يعقوب. وقد استوقفني استخدام اسمه، فقبل سنوات كان مجرد ذكر اسم الرجل من دون لقب تفخيمي، قد يؤدي إلى اتهامك بالإساءة إلى الدين.

ذلك كله أدى إلى السبب الثالث والأهم في رأيي، وهو أن رؤية تلك الشهادة بتلك الطريقة، ومع حال الصدمة التي انتابت محبي ومستمعي الشيخ، خلقت حالة من الوعي لدى كثيرين ممن لم يصدقوا أن رجال الدين يمكن أن يتراجعوا بتلك السهولة. ومهما كتب الكتّاب عن أشياء من هذا القبيل، فإنها لم تكن لتلقى قبولاً طالما لم يرَ الرجل العادي شيخه وهو يقول هذا الكلام، وهذا ما جعل شهادة محمد حسين يعقوب استثنائية لأنها حملت عنّا عناء توصيل ما قاله للناس، حتى لو نقلناه بدقة وأمانة.

وهذا ما يجعلني أكرر الطلب الذي طلبته كثيراً في كتاباتي، وهو ألا تصدقوا رجال الدين لأنهم في لحظة يتراجعون عن فتاويهم، ولأنهم في النهاية يقولون إن ذلك لم يكن إلا اجتهادات شخصية، ولأنهم حرّموا القهوة، والتلفاز، والهاتف المحمول، ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم تراجعوا وحللّوها بعد أن حرموا الملايين من متع حياتية لم يحرّمها الله.

ولأن فتاويهم طويلة الأجل، وأعمارنا قصيرة، فمن غير المعقول أن نجعلها رهينة فتوى سيتراجع عنها من أصدرها، لاحقاً. أما لمن يخشى ألا يتم التراجع عن تلك الفتوى، فأقول إن مقابلتك الله، متجاهلاً فتوى ما، أفضل عند الله من أن تهدر حياتك بسبب فتاوى خاطئة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image