في خطوة بدت مفاجئة للكثيرين، قرر مجلس الوزراء السوداني قبول طلب المحكمة الجنائية الدولية القاضي بتسليم قادة النظام السابق، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير، لمحاكمتهم في لاهاي على خلفية الاتهامات الموجة إليهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور.
موافقة الخرطوم على تسليم المتهمين خلقت حالة من الانقسام في الشارع السوداني، بين محتفين بمحاكمة "مجرمين" بحسب القانون الدولي، وغاضبين لانصياع بلادهم لضغوط يرونها تنتقص من السيادة الوطنية.
دارفور من المذبحة للمحاكمة
في فبراير/ شباط 2003، شهدت منطقة دارفور في غرب السودان تمرد الأقليات العرقية غير العربية ضد حكومة الخرطوم، متهمةً إياها باضطهاد أبنائها، وبخس حقهم في توزيع ثروات المنطقة لصالح السكان العرب.
وسرعان ما تحول التمرد إلى صدام مسلح بين حكومة الخرطوم ومتمردي دارفور (حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة)، وهو الصدام الذي نجمت عنه حملة إبادة وتطهير عرقي ضد سكان المنطقة، على يد مليشيات (الجنجويد) التابعة لنظام البشير.
تفاقم الوضع في الإقليم استدعى تدخل الاتحاد الأفريقي عبر إرسال قوات في عام 2004 لإيقاف الصدام الدموي، لكنها أخفقت في تنفيذ مهمتها، فقررت الأمم المتحدة في عام 2007 إرسال قوات حفظ سلام مشتركة بغية إيقاف المذابح التي وقعت في الإقليم وراح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين. وهو ما دفع المحكمة الجنائية الدولية في عام 2008 إلى إصدار مذكرة توقيف بحق البشير ورجال نظامه (عبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، وعبد الله بندة، وعلي عبد الرحمن كوشيب) بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في إقليم دارفور.
رهن البرهان الموافقة على تسليم البشير للجنائية الدولية بعجز القضاء المحلي عن إقامة محاكمة عادلة للرئيس المخلوع.
قبول رسمي بتسليم المتهمين
بالطبع لم ينصع البشير لقرارات المحكمة الجنائية، ولم يسلم نفسه أو يسلم أياً من معاونيه. لكن بعد الإطاحة بنظامه، عادت مطالبات المحكمة الجنائية للظهور بقوة وسط تأجيل، وربما تسويف من قبل الخرطوم.
لكن النقلة النوعية إزاء مطالبات محكمة الجنائية الدولية بتسليم المتهمين، أتت على يد مدعية المحكمة فاتو بنسودا التي وصلت الخرطوم في مطلع الشهر الجاري للمطالبة بتسليم البشير. وهي الزيارة التي أسفرت عن قبول الخرطوم بتسليم المتهمين، وفقًا لتصريح مقتضب لوزيرة الحكم الاتحادي بثينة دينار، أعلنت فيه قبول السودان مطلب المحكمة الجنائية، وإن لم تحدد موعدًا لتسليم المطلوبين.
البعض يفضلونها محاكمة دولية
الشارع السياسي السوداني لم يقف قلبًا واحدًا إزاء قبول الحكومة تسليم رئيس السودان السابق عمر البشير، إذ تباينت المواقف وفقًا لتموضع كل فريق، فمن جانب رحب قادة المكون المدني بالحكومة الانتقالية وقوى تحالف قوى الحرية والتغيير "قحت" - الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية- بقرار تسليم البشير للجنائية الدولية، إذ يمثل ذلك انتصاراً لمطالبهم الثورية التي تجسدت في هتاف "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور" الذي رفعه المحتجون في أول موكب للمطالبة برحيل البشير في ديسمبر/ كانون الأول 2018 بالعاصمة السودانية.
يحذر محللون من مضي المكون المدني في عملية التسليم منفرداً، لأن ذلك قد يؤدي لنشوب صراع يربك الشراكة القائمة حالياً في الحكم، ما يعني وضع السودان في عتبات حرب أهلية، لا سيما في ظل تعدد الجيوش.
"تسليم البشير يساهم في تحقيق العدالة الانتقالية التي ظلت أحد المطالب الرئيسية للثورة السودانية". هكذا يستهل أمجد السر، وهو قيادي شاب في التحالف عن حزب البعث، حديثه لرصيف22 شارحًا أسباب قبول القوى الثوريه ذلك القرار. ويضيف: "تسليم البشير يُنهي تطلعات الفلول في استعادة زمام المبادرة، فضلاً عن كونه يساعد أيضاً في تسريع عملية إدماج السودان في المجتمع الدولي، بعد عقودٍ من العزلة".
وعن أسباب عدم ترحيب الثوريين بمحاكمة البشير محليًا، يقول السر: "رغم احترامنا الشديد للقضاء المحلي، فإن عمليات التخريب الممنهج التي شهدها النظام العدلي في حقبة المخلوع، وما نجم عنها من تمكين العناصر ذوي الولاء السياسي على حساب الكفاءات، أمر يجعل من تسليم البشير للجنائية وضعًا مُلحًا ولا مناص منه".
لكن الفريق الأكثر احتفاءً بقرار تسليم البشير، كان أهل دارفور أنفسهم. يعبر عن مشاعرهم لرصيف22، محمد عجين القيادي في حركة العدل والمساواة قائلًا: "إن تسليم البشير يمثل انصافاً لضحايا الحروب العبثية التي شنها نظام البشير ضد الدارفوريين. فضلاً عن كونه مسألة غاية في الأهمية لإنفاذ اتفاق جوبا". وحذّر عجين من أن "أية محاولة للمماطلة في إنفاذ هذا النص، تعني تقويضاً لاتفاق السلام"، وأردف "بالطبع نحن لا نريد أن نصل لهذه المرحلة".
للجيش حسابات أخرى
رغم وجود مكون مدني قوي في سدة الحكم، تظل المؤسسة العسكرية لاعباً رئيسياً لا يمكن إغفاله عند اتخاذ قرارت بمثل هذه الأهمية، لذا ترقّب الجميع موقف الجيش من تسليم البشير، الذي حتى الآن يبدو غير واضح
وإن أوحى تصريح رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في مقابلة تلفزيونية أواخر مايو/ أيار الماضي، بعدم ترحيب الجيش بتسليم الرجل. إذ رهن البرهان الموافقة على تسليم البشير للجنائية الدولية بعجز القضاء المحلي عن إقامة محاكمة عادلة للرئيس المخلوع.
وعن ذلك يقول الخبير الأمني، سعد الدين عباس لرصيف22 إن قادة المؤسسة العسكرية مع محاكمة البشير بالداخل "لسببين، أولهما رمزية البشير العسكرية بوصفه القائد العام السابق للقوات المسلحة، وثانيهما مخافة من أن تفتح عملية التسليم الباب أمام ملاحقة مزيد من قادة الجيش بواسطة القضاء الدولي، ومنهم قادة المكون العسكري في الحكومة الانتقالية، بتهمة التورط في فض اعتصام القيادة العامة، الذي نجم عنه سقوط قرابة 130 قتيلاً ومئات الجرحى، وعشرات المفقودين، وتسجيل عدد من حالات الاغتصاب".
يختتم عباس حديثه إلينا محذراً من مضي المكون المدني في عملية التسليم منفرداً، لأن ذلك قد يؤدي لنشوب صراع يربك الشراكة القائمة حالياً في الحكم، ما يعني وضع السودان في عتبات حرب أهلية، لا سيما في ظل تعدد الجيوش.
الإسلام والقانون ضد تسليم البشير
وفي عداد رافضي التسليم، التنظيمات الإسلامية، وعلى رأسها حزب المؤتمر الوطني المنحل (حزب البشير). يقول مجاهد خليفة، وهو قيادي إسلامي شاب، لرصيف22: "هناك نصوص دينية تحرم محاكمة المسلمين بقوانين غير إسلامية، فما بالك أن يكون القضاة أنفسهم غير مسلمين".
ويستطرد: "نحن لا نمانع في محاكمة البشير، ولكننا ضد تسليم أي فرد سوداني للمحاكم الخارجية، لأن ذلك يمثل انتقاصاً من السيادة الوطنية".
إسلاميون: "نحن لا نمانع في محاكمة البشير، ولكننا ضد تسليم أي فرد سوداني للمحاكم الخارجية، لأن ذلك يمثل انتقاصاً من السيادة الوطنية".
على صعيد آخر هناك إشكالية قانونية في مسألة تسليم البشير، يشرحها لرصيف22 أستاذ القانون الدستوري، د. الفاتح حامد: "تسليم البشير يستوجب أولًا إلغاء نص في القانون الجنائي المعدل لسنة 1991 الذي يرفض محاكمة السودانيين في محاكم خارجية. وهو ما يستوجب موافقة مجلسيِّ السيادة الوزراء اللذين يمثلان مجلساً تشريعياً مؤقتاً في ظل غياب المجلس التشريعي".
يختلف مع تلك النقطه المحامي طارق عبد الله الذي يؤكد لرصيف22 أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يملك أحقية في استصدار القرار منفرداً بموجب الصلاحيات الممنوحة له في الوثيقة الدستورية.
سواء بقرار منفرد من مجلس الوزراء، أو بتسوية مع الشق العسكري، أو من باب إنفاذ بنود اتفاق السلام، فإن تسليم البشير الذي سبق أن قال إن محكمة لاهاي وقضاتها "تحت حذائه" هي مسألة شديدة التعقيد يتداخل فيها السياسي بالقانوني بالديني، فأي واحد من المكونات سينتصر؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت