“العدو هو الرجل الذي يستغّل امتيازاته البيولوجية والاجتماعية بهدف خوض حياته على أسس أنه أفضل من المرأة رغم أنه لم يجتهد بقدرها ليحقّق نفسه. وفي مرحلة ما بحياتنا، كلّنا كرجال مارسنا امتيازاتنا بطريقة واعية أو غير واعية. والهدف اليوم يكمن بإدراك هذه الامتيازات وتحييدها في الخطاب الذي نتّبعه وبأسلوب حياتنا الذي نختاره. وبعد لحظة الوعي هذه وحتّى قبلها، المحاسبة ضرورية لتشكيل روادع تحمي المرأة والرجل أيضاً من حياة لا تشبهه وتفرض عليه الخضوع لمفاهيم الرجولة”. هكذا أجاب محمّد. ش (25 عاماً) عند سؤاله عن رأيه بالامتيازات التي يتمتّع بها كرجل وعن الخطاب النسوي المعادي للرجل.
من المهم أن يتوجّه الخطاب إلى الجميع. النساء أوّلاً بهدف كسر حواجز الخوف وترسيخ حقوقهنّ، والرجال ثانياً كحلفاء وليس كأعداء
تشير الأرقام والإحصاءات في كل العالم إلى أن النساء والفتيات من كل الأعمار وعبر الأجيال يتعرّضن لجميع أنواع التمييز والاضطهاد من قبل النظام الأبوي القائم والقوانين والأعراف المتشعّبة منه. إن هذه المعادلة التي جعلت من النساء الحلقة الأضعف سمحت في الوقت عينه للرجال بالتحكم بموازين القوة من الناحية الاجتماعية والمهنية وحتّى القانونية.
تشكّل هذه التفاصيل جزءاً من النضال النسوي القائم والمستمر لتحقيق العدالة والمساواة. وضمن المدارس النسوية المتعدّدة قد يتحوّل الرجل إلى هدف للنقد بفعل أنه يملك حقوقه التي لا تعترضها الحياة بطريقة أو بأخرى، دون أن يدرك أن ما ينجزه بسنة واحدة قد يتطلّب من النساء سنوات من العمل لإنجازه.
المنظومة هي العدو وليس الرجل
يدرك محمد منذ الطفولة أنه مميّز في عائلته المكوّنة كلها من نساء، وذلك لأن والده يأخذ برأيه ويعلمه أن كل ما يملكه سيكون له، بينما أخواته سيكملن حياتهن مع رجال سيتوجّب عليهم تأمين احتياجاتهنّ، ورغم أن أحداً في المنزل لم يخضع لأفكار الوالد فإن الأخير بحسب رأي محمّد يتكلّم بالخطاب الذي تشرّبه، ويشرح: “والدي رجل ذكوري بحسب كل المعايير لأنه قرّر أنني غير محتاج للحماية الاجتماعية وأنني من الناحية الاقتصادية سأرث كل ما يملكه بينما أخواتي “الضعيفات” سينتقلن من احتوائه الخاص إلى احتواء أزواجهن، أي من سلطة الرجل الذي أنجبهن إلى سلطة الرجال الذين سيكملن حياتهن معهم. بالطبع أخواتي بسبب الظروف والتحدّيات التي خضنها صرّن محنّكات واكتسبنّ قوّة بالتعاطي مع تفاصيل الحياة اليومية أكثر منّي بكثير، وبسببهنّ أصبحت الرجل الذي أنا عليه اليوم”.
بالنسبة لمحمّد، من غير المحق بالطبع أن يجلس ويشتكي من الخطاب النسوي المعادي للرّجل وذلك لأن ما فعله الرجال بالنساء عبر الزمن يستدعي أن يتم الرد عليه بأسلوب عنيف، لكنّه، بحسب تعبيره، يرفض أن تتم محاسبته بناءً على تاريخ وأخطاء كل الرجال لأنه على الصعيد الشخصي يسعى من خلال عائلته وعلاقته لأن يكسر النمط ويرفض أن يستغل امتيازاته. ويضيف: “حين ولدت لم أقرر جنسي، كانت لي أخطائي الكثيرة التي دفعت ثمنها واعتذرت عنها ولم أكتشفها إلا حين كبرت، وفهمت أن المسموح لي ليس بالضرورة هو الصواب”.
اقتنعت أن دوري الأساسي في الحياة ليس أن أعيل زوجتي القادرة تماماً على إعالة نفسها، وأنني في حال انكسرت بإمكاني كرجل أن أطلب المساعدة لا أن يسيطر شعور الفشل على كل جوانب حياتي
من ناحية أخرى، تشرح شقيقة محمّد البالغة من العمر29 عاماً الأمور من وجهة نظرها، وتقول: “تربّينا في المنزل نحن كنساء مثلنا مثل الكثيرات في مجتمعنا على أسس ذكورية حاربناها في المراهقة وتخطيناها حين كبرنا، ولا زلنا ندفع ثمنها. في الوقت الذي كانت هذه المنظومة تكبتنا من النواحي الجنسية والمهنية، راحت تمارس الكبت العاطفي على شقيقي وتؤهّله ليكون عبارة عن آلة اقتصادية تلبّي حاجات المرأة وتؤمّن لها الحماية الاجتماعية والجسدية وأقنعته أنه يملك سلطة عليها. ولو لم نحارب هذا التنميط من خلال وعينا الذي اكتسبناه لكان الأخير سيشكّل عائقاً لنا نحن كأخوات، وسلطة ذكورية في علاقاته معنا”.
تشرح سماح (اسم مستعار) اللحظة المفصلية التي كسرت الأنماط في البيت، وتقول: “قبل سنوات كنت في السيارة مع محمّد حين بدأ بالتحدّث عن فتاة تعجبه وتفوّه بجملة بما معناه أنها لا تمانع ممارسة الجنس قبل الزواج. وحين سألته عن رأيه بقناعاتها قال إنه لا يوافق وإن الجنس يجب أن لا يتم إلا بعد الزواج. صمتّ قليلاً حينها لأنني أعلم أن شقيقي فقد عذريته في مراهقته بعد أن أخذه ابن عمّي إلى مكان يقدّم الخدمات الجنسية وأنه منذ ذلك الحين لديه علاقات متعدّدة، لكنّه في هذه اللّحظة يعلمني أنه لا يمانع نسف كيان فتاة تعجبه فقط لأنها تفعل ما يفعله هو”.
تقول سماح إنها طلبت من محمّد إيقاف السيارة ليتحدّثا قليلاً وأخبرته أنها هي أيضاً مثل صديقته تمارس علاقات جنسية خارج إطار الزواج: “كان صغيراً جداً حين أخبرته، وكان هذا الحل الوحيد لكسر الصورة المبينة في رأسه عن الفتيات الناشطات جنسياً في مجتمعنا. ولأنني أعرف مدى حبّه واحترامه لي، قلت له بالحرف الواحد: ما في فرق بيني وبين هيدي البنت. النساء متل الرجال بيعملوا سكس. الفرق الوحيد إنو إنت فيك تحكي بالموضوع”.
العدو هو الرجل الذي يستغّل امتيازاته البيولوجية والاجتماعية بهدف خوض حياته على أسس أنه أفضل من المرأة، رغم أنه لم يجتهد بقدرها ليحقّق نفسه
نحكي كل هذا لأنه من المهم أن نفهم مدى التعقيدات الموجودة داخل قضايا النّساء والتي لم تنفصل عبر الزمن عن حياتهن الخاصّة والعامة وعلاقاتهن بكل المحيط ولأنه من المهم أن يتوجّه الخطاب إلى الجميع. النساء أوّلاً بهدف كسر حواجز الخوف وترسيخ حقوقهنّ، والرجال ثانياً كحلفاء وليس كأعداء.
بالطبع أغلب المعتدين على النساء من النواحي الجسدية والعاطفية والنفسية هم من الرجال، إن كان من خلال العائلة الصغيرة أو سوق العمل وصولاً إلى العلاقات العاطفية والزوجية، لكن في هذه المعركة التي يجب أن تدار من النساء من المهم أن يقف الجنس الآخر كحليف عبر عدم إقصائه. وهؤلاء الذين يريدون الإبقاء على “تفوّقهم الجنسي التاريخي” الذي شهدنا نتائجه عبر التاريخ وشهدناها بالأرقام بعد جائحة كورونا وكيفية تعاطي سوق العمل مع النساء مقارنة بالرجال، وهؤلاء الذين يريدون الحفاظ على النظام القائم لأنهم يرفضون إعادة بلورة أدوارهم الاجتماعية ويعتبرون أن اكتساب المرأة لحقوقها يعني حرمانهم من رجوليتهم، هم العائق الحقيقي في وجه القضيّة. ورغم الذين يعيدون محاسبة أنفسهم بإمكاننا أن نرى أنه حتى هذه اللحظة ورغم معاناته الخاصّة من المنظومة نفسها، بإمكان محمّد أن يكشف عن اسمه بينما شقيقته تدلي بالمقابلة باسم مستعار. تختم سماح: “حوّلت علاقتي مع أخي، وبجهد كبير إلى حلف إضافي لمواجهة العائلة. أتمنى لو أن الأمور أبسط، وأتمنى لو أنه لم يتعلّم كل هذه المفاهيم البالية، ولو أن كل فتاة بإمكانها اتّباع هذا الأسلوب. لكن الحياة ليست بهذه البساطة”.
الرجل الذي لست عليه
يشرح أسعد (30 عاماً) وهو يعرّف عن نفسه بأنه رجل مثلي الجنس، كل الأعراف والقوانين التي ظلمته منذ الطفولة، ويقول: “بصفتي الرجل الوحيد الذي أنجبه والدي، حملت وزر اسم العائلة التي يجب أن تتمدّد. في المراهقة حين اكتشف والدي مثليتي الجنسية طردني من المنزل في حين أمّنت لي والدتي حماية محدودة. لاحقاً تمّ الصلح بيننا لكن لسبب اقتصادي. إذ إن أبي توقّف عن العمل وصار من واجبي بحسب معتقداته أن أحمل العبء المادّي. لا نتحدّث عن ميولي الجنسية فحالة النكران تسيطر على العائلة”.
خلال نشأته، بحسب تعبيره، تعرّض أسعد لكل أنواع الظلم، منها النفسية ومنها الجسدية، وذلك فقط لأنه لا يطابق مواصفات الرجولة المقبولة من المجتمع، ويقول: “نولد نحن كرجال بغض النظر عن ميولنا الجنسية بلائحة محدّدة يجب أن نتبعها. الصبي يحمي من حوله من فتيات لأنه الأقوى جسدياً. الرجل لا يبكي ولا ينفعل. من المحرّم أن يكون للرجل عاطفة تسيطر عليه، فهذه صفات النساء وبالطبع لكي يكون الرجل رجلاً عليه أن يكون منتجاً. حسناً، في الانهيار الاقتصادي في لبنان كم من رجل فقد رجولته لأنه فقد وظيفته؟ أليس من الظلم اختصار فرد بأعضائه التناسلية وبأدوار اجتماعية قد لا تناسبه فقط لأن العالم أقيم بهذه الطريقة؟ لم أكن يوماً الأقوى جسدياً، وشقيقتي منتجة أكثر منّي، وأهلي لا يفقهون سوى ما تعلّموه من أهلهم، وأنا أعرّف عن نفسي كرجل لكن أرفض تأدية الدور المفروض حتّى هذه اللّحظة”.
حين صارت زوجتي المعيلة
هنا نناقش التفاصيل الصغيرة اليومية في حياة رجال يقفون مع القضية النسوية لكنهم في الوقت عينه يشرحون التغييرات التي تحلّ على حياتهم مع تغيّر المنظومة واتجاهها ولو بأسلوب بطيء نحو مسار العدالة الجندرية.
يحكي ج. خ (34 عاماً) قصّته لموقع رصيف22 بتجرّد تام: “الواقع لا يشبه الشعارات. لطالما دعمت زوجتي النسوية بكل خيارات حياتها وكنت سنداً لها، لكنّني لم أكن قد اختبرت تأثير المنظومة على شخصي. العام الماضي حين فقدت وظيفتي بسبب الانهيار الاقتصادي فقدت جزءاً من هويتي. والسبب هو أنني دون قصد كنت قد تبنّيت الصورة النمطية المفروضة عليّ وأضفت إليها قناعاتي الخاصّة. كنت أردّد: أنا مع المساواة بين المرأة والرجل على كل الأصعدة، لا يمكنني أن أعرّف عن نفسي كنسوي لأنني لم أختبر كل ما تختبره النساء، لكنّني داعم للقضية. وجاء الانهيار الاقتصادي وأدركت أن هويّتي مبنية بشكل أساسي على إنتاجي المادّي، وبالتالي عانيت لأتقبّل أنني لم أعد المعيل الأساسي في المنزل”.
نولد نحن كرجال بغض النظرعن ميولنا الجنسية بلائحة محدّدة يجب أن نتبعها. الصبي يحمي من حوله من فتيات لأنه الأقوى جسدياً. الرجل لا يبكي ولا ينفعل. من المحرّم أن يكون للرجل عاطفة تسيطر عليه، فهذه صفات النساء وبالطبع لكي يكون الرجل رجلاً عليه أن يكون منتجاً
بالنسبة لـ ج. هذا الشعور ليس مزحة، إنه شعور حقيقي بالعجز، فرض عليه إعادة تشكيل نفسه واستيعاب أن المردود المادي الذي يصله كل شهر لا يختصر كيانه، يقول: “زوجتي ساعدتني لأتقبّل الأمر. فبعد أن أصبت بموجة اكتئاب جلست معي وقالت لي: أعتقد أنّك للمرّة الأولى تفهم بأسلوب واقعي تأثير النظام الأبوي على شخصك. وأخبرتني عن صراعاتها الخاصة، الجسدية والنفسية، وكيف أنها في يوم من الأيّام فقدت نفسها بسبب شعور الذنب والعجز وبسبب الدور الذي كان يجب أن تؤدّيه وحين لم تمتثل له، تسلّل إليها الإحساس بأنها على خطأ. لكنها عادت وفهمت أن كيانها بالكامل لا يمكن اختصاره بعذريتها أو بملابسها أو بأمومتها”.
يؤمن ج. أنه فهم لمحة صغيرة من قساوة المنظومة وأن كل التبعيات التي عاشها ابتداءً من الإحراج الذي رافقه خلال الفترة التي كان عاطلاً فيها عن العمل، وصولاً إلى اعتقاده بأنه إنسان ناقص لأنه فقد كل ما عمل من أجله، ليست سوى لمحة صغيرة مما تعانيه النساء في حياتهن اليومية، لكنّها في الوقت عينه وعلى مستوى غير واعٍ مرسّخة داخل الرجال بطرق وأساليب أخرى.
وعن كيفية تخطّيه لهذا المفهوم، يقول: “اقتنعت أن دوري الأساسي في الحياة ليس أن أعيل زوجتي القادرة تماماً على إعالة نفسها، وأنني في حال انكسرت في الحياة بإمكاني كرجل أن أطلب المساعدة، لا أن يسيطر شعور الفشل على كل جوانب حياتي. وأنني في شراكة مع زوجتي، نحدّد فيها نحن الأدوار، كلّ حسب شخصيته وقدراته لا بحسب جندرية النّظام الأبوي”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين