لم يثنِ الوضع الوبائي الدقيق في البلاد والعالم، تونس عن التمسك بإضاءة الشاشة الكبيرة مجدداً أمام عشاق السينما في الداخل والخارج، كما دأبت سنوياً عبر مهرجانها العريق "أيام قرطاج السينمائية".
القرار الصعب الذي اتخذته إدارة المهرجان بعدم التراجع عن تنظيم دورة هذا العام في ظل الظروف الراهنة، جاء إيماناً منها بأن السينما والفن عموماً هو فعل مقاومة وطرح مواقف، ومن الجبن أن يختفي هذا الدور فيما العالم بصدد مقاومة ومواجهة أحد أخطر الأوبئة.
وقررت الهيئة المديرة لأيام قرطاج السينمائية 2020، بالاتفاق مع وزارة الشؤون الثقافية والمركز الوطني للسينما والصورة، تنظيم المهرجان مع تأخير موعده السنوي من 18 إلى 23 ديسمبر/كانون الأول، بدلاً تاريخ من 07 إلى 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مع الحفاظ على جلّ فقراته، بما في ذلك برمجة السجون والجهات باستثناء حجب المسابقات الرسمية. يتضمن المهرجان عادة أربع مسابقات رسمية: للأفلام الروائية الطويلة، الأفلام الروائية القصيرة، الأفلام الوثائقية الطويلة والأفلام الوثائقية القصيرة.
برغم تأجيل موعده وحجب مسابقاته الرسمية، قررت إدارة مهرجان أيام قرطاج السينمائية عدم التراجع عن تنظيم دورته لعام 2020 في ظل الجائحة العالمية، لأن السينما والفن عموماً هو فعل مقاومة وطرح مواقف
وجاء قرار التأجيل بسبب تأكيد الإطار الصحي في تونس بأن فيروس كورونا سيشهد ذروته نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول وبداية نوفمبر/تشرين الثاني، والذي يتوافق مع التاريخ القديم للمهرجان، ولهذا وحرصاً على سلامة محبي السينما من متابعين وضيوف تم تغيير الموعد.
أيضاً، وتفاعلاً مع الوضع الوبائي قامت إدارة المهرجان بإشراك عدد من المختصين في الصحة، ليكونوا جنباً إلى جنب معهم لتقديم النصائح اللازمة في كل مرحلة لضمان أن تمر الدورة دون خطر، بالإضافة لتقليص أعداد المتفرجين في كل قاعة إلى قرابة النصف، على أن يتم عرض نفس الفيلم مرتين أو ثلاث، حسب تصريحات مدير المهرجان، المخرج التونسي رضا الباهي.
دورة استثنائية في وضع استثنائي
مدير مهرجان أيام قرطاج السينما، رضا الباهي لرصيف22: "إن هذه الدورة ستكون نافذة لمشاهدة أعمال سينمائية مؤثرة تشكل صلة وصل بين الجيلين، عبر ذاكرة المهرجان التي تحيي أعمالاً عدة، ظل صناعها طويلاً طي النسيان
من المتوقع أن تكون دورة هذا العام استثنائية تماشياً مع الوضع الاستثنائي الذي فرضه انتشار فيروس كورونا، والإرباكات والتعطيلات التي طالت كل شيء. فهي ستكون بمثابة الاحتفاء بذاكرة المهرجان الكبير منذ تأسيسه سنة 1966 حتى اليوم، واستشراف لمستقبله ورهاناته، وفي هذا الإطار، سيكون جمهور المهرجان هذا العام على موعد مع إعادة عرض الأفلام الخالدة التي مرت من بوابة أيام قرطاج السينمائية، وكانت من بين المتوجين، أو تلك التي حققت الشهرة والنجاح.
ويقول مدير المهرجان رضا الباهي: "إن هذه الدورة ستكون فرصة للجيل اليافع لاكتشاف مدارس سينمائية مغايرة والعودة إلى تاريخ أيام قرطاج السينمائية، عبر أفلام كانت علامات فارقة لأصحابها. ستكون نافذة لمشاهدة أعمال سينمائية قوية ومؤثرة، عبر ذاكرة المهرجان التي تحيي أعمالاً عدة، بعد أن ظل صناعها طويلاً طي النسيان وكأنهم مومياء في متحف، وحان الوقت لربط صلة تواصل بين الجيلين".
رضا الباهي، مدير مهرجان أيام قرطاج السينمائية
كما ينظم المهرجان أربع ورشات كبرى انطلقت بهدف مراجعة المهرجان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، يشارك فيها عدد من السينمائيين والمهنيين، وسيتم الإعلان عن توصياتها ومقترحاتها للعموم عبر منتدى سيقدم ضمن فعاليات المهرجان. هذا فضلاً عن مراجعة الإطار القانوني والتشريعي للمهرجان، وجمع شتات ذاكرته ورقمنة أرشيفه بصفته أقدم مهرجان سينمائي أنصف سينما دول الجنوب.
وفي تعليقه عن هذه الورشات، يقول مدير المهرجان: "في ظل تقليص عدد الضيوف وغياب المسابقة الرسمية ارتأينا أن ننظر ونناقش مستقبل ومصير مهرجان قرطاج السينمائي، وعما إذا كان سيبقى تابعاً لوزارة الثقافة أو تتولى جمعية الإشراف عليه أو المركز الوطني للسينما والصورة. ولهذا استدعينا أهل الاختصاص، بما في ذلك القانون والمالية، للقيام بهذه المهمة عبر ورشات عمل سيتمخض عنها كتيب يضم مخرجات هذه المناقشات، يصدر قبل انطلاق المهرجان، سيقدم لوزارة الثقافة والبرلمان حتى تتغير التشريعات، ويصبح لهذا المهرجان كيان قانوني واضح ونهائي".
وتجدر الإشارة إلى أن أيام قرطاج السينمائية الذي أنشئ سنة 1966 على يد مؤسسه الطاهر شريعة، وأول وزير للثقافة في تونس، الشاذلي القليبي، أُسس دون إطار قانوني واضح وظلت تبعيته لوزارة الثقافة. ويبدو أن الفاعلين السينمائيين في تونس قد أدركوا أن هذا الإطار لم يعد ناجعاً في ظل المتغيرات التي يشهدها القطاع على مستوى العالم، ولهذا ستكون هذه الدورة فرصة لمراجعة هذه النقاط، ولا سيما المسائل القانونية واستقلالية المهرجان، على غرار كبار مهرجانات العالم.
وتماشياً مع استثنائية هذه الدورة، أعلن مهرجان أيام قرطاج السينمائية تغيير عاداته في ليلة الافتتاح التي عادة ما تؤثث بفيلم طويل، باختيار ستة أفلام قصيرة للعرض في حفل افتتاح الدورة 31، يحتفي مخرجوها بستة أفلام تركت أثراً كبيراً في تاريخ السينما العربية والإفريقية ومرت من بوابة المهرجان، وتتراوح مدتها الزمنية بين 10 و15 دقيقة.
تماشياً مع استثنائية دورته الحادية والثلاثين، أعلن مهرجان أيام قرطاج السينمائية تغيير عاداته في ليلة الافتتاح بعرض فيلم طويل، لتعرض بدلاً منه ستة أفلام قصيرة تركت أثراً كبيراً في تاريخ السينما العربية والإفريقية ومرت من بوابة المهرجان
هذه الأفلام هي "المصباح المظلم في بلاد الطررني" للمخرج طارق الخلادي، وهو اقتباس حر عن "في بلاد الطررني" (1973). الفيلم الأصلي مؤلف من ثلاثية هي "المصباح المظلم"، "الزيارة" و"نزهة رائقة"، للمخرجين، حمودة بن حليمة، الهادي بن خليفة وفريد بوغدير.
وفيلم "le temps qui passe" أو "الوقت الذي يمر" للمخرجة سنية الشامخي، المستوحى من فيلم "شمس الضباع" (1976) للمخرج رضا الباهي. وفيلم "سوداء 2" للمخرج الحبيب المستيري، وهو مستوحى من فيلم (1966) "la noire de" للمخرج الكونغولي السنغالي عثمان سمبين، الحائز على أول تانيت ذهبي في أيام قرطاج السينمائية. وفيلم "السابع" للمخرج علاء الدين بوطالب، وهو إعادة صياغة لفيلم "العرس" (1978) لفرقة المسرح الجديد، محمد إدريس، فاضل الجعابي، فاضل الجزيري وجليلة بكار. و"على عتبات السيدة" للمخرج فوزي الشلي، وينطلق من فيلم "السيدة" (1996)، والطريف أن بطولة الشريط القصير ستكون لمخرج الفيلم الأصلي محمد الزرن، مع واحد من أبطاله الأصليين هشام رستم. إلى جانب فيلم "ماندا" للمخرج هيفل بن يوسف، وهو مستوحى من فيلم "Le Mandat" للمخرج السنغالي عثمان سمبين.
المخرج التونسي حبيب المستيري، أحد المخرجين المشاركين في سهرة افتتاح المهرجان، اعتبر أن قرار تنظيم المهرجان في خضم هذه الظروف الصحية الدقيقة هو انتصار حقيقي للسينما وللثقافة على الوباء وعلى الأفكار السلبية جميعها.
ويقول: "لقد كنت من أبرز الداعمين لفكرة تنظيم هذه الدورة لضمان ديمومة هذا المهرجان العريق، لأن الانقطاع سيكون عاملاً سلبياً في مسيرته. كما أن هذا الحدث السنوي هو نافذة السينما التونسية، وخاصة الشباب ومن ورائهم الشباب الإفريقي والعربي، على العالم للتعبير عن وجودنا، في ظل سيطرة قوى كبرى على المهرجانات العالمية، ولهذا من المهم أن تظل أيام قرطاج السينمائية قائمة، حتى نستمر في طرح أفكارنا وأعمالنا ونواصل المقاومة والبقاء للدفاع عن وجود السينما يعود للمهرجان".
المخرج التونسي حبيب المسيتري، أحد المشاركين في سهرة افتتاح المهرجان
ويشدد المستيري على أن فعل المقاومة والنضال هو من الأبجديات التي قام عليها المهرجان منذ البداية، زرعتها نوادي السينما وتحولت إلى فعل ثقافي وفني يمرر وجهات نظر ومواقف، ولهذا لا بد من مواصلة المشوار، لا سيما بعد أن اتضح للجميع ضرورة التعايش مع هذا الوباء.
لا حلول أخرى سوى التعايش مع احترام القواعد الصحية إذا أردنا ألا نتبع الحلول السهلة، يضيف المستيري، لأن المنع والتوقف لن يغيرا من واقع انتشار العدوى. الحكمة هي أن نخلق تقاليد للتعايش لا أن نتخلى عن ممارسة السينما وعن الفعل الثقافي عموماً. الحلول ممكنة وسنخلق أساليب للتفاعل والعرض والفرجة تحترم الصحة، المهم ألا تقبل السينما بانتصار الوباء.
نحو فضاءات أوسع لصنّاع السينما في تونس
يشدد المستيري على ضرورة أن تكون الدورة فرصة لتعديل أهداف ومنطلقات المهرجان، أولها أن يوفر المهرجان فضاءات أوسع للسينمائيين التونسيين، خاصة في ظل قلة الإمكانيات، ما يفرض حتمية وجود منصة تدافع عنهم وتدعمهم وتعرف بهم. ومهرجان قرطاج السينمائي باسمه الكبير وتاريخه العريق كأول مهرجان سينمائي عربي إفريقي، لا بد أن يكون مكسباً للسينما التونسية ويضطلع بهذا الدور، طبعاً دون القطع مع صورته كبوابه للسينما العربية والإفريقية.
المخرج التونسي حبيب المسيتري لرصيف22: حان الوقت للانفتاح على السينما العالمية بدل الارتهان للسينما الفرنسية التي تتعامل معنا كسينما من الدرجة الثانية
وثانياً، أكد المخرج التونسي على أهمية انفتاح المهرجان على السينما العالمية، الإنجليزية والإسبانية، بدل الارتهان للسوق الفرنسية التي ظلت "تتعامل معنا كسينما درجة ثانية. يوجهوننا ويقدمون التمويل، لفرض نوع من الذائقة لا تتواءم في كثير من الأحيان مع قضايانا. هذا الخيار لم يعد ناجعاً اليوم. نحتاج إلى مقاربة جديدة تتكلم بلغة العالم، لتسهيل وصول الأفلام إلى أكبر دائرة ممكنة، وتستهدف لا فقط العرب وإفريقيا وبعض الدول الفرنكوفونية، بل آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها. هذا ما يجب أن تراجعه هذه الدورة من المهرجان".
ويشارك حبيب المستيري بفيلم قصير ضمن عرض الافتتاح وهو مستوحى من فيلم للمخرج السينغالي عثمان سمبين، الحائز على التانيت الذهبي، ومن الفترة التي قضاها الاثنان في إيطاليا سنوات التسعينيات.
يقول المستيري: "فكرة الفيلم ولدت من رحم لقاء جمعني خلال التسعينيات بإيطاليا، مع المخرج السينغالي وهو بصدد تحضيره فيلمه، عندها تعارفنا وقضينا فترة جميلة، تبادلنا فيها أفكاراً حول السينما، لا سيما وأنني كنت أعمل في شركة عالمية رائدة في استخدام التقنيات الحديثة. وبقينا على تواصل حتى بعد عودته، حيث كان يذكرني بأشياء كثيرة، خاصة المكرونة التي طبختها له على الطريقة الإيطالية، والأهم أنه أرسل إلينا رسالة يشكر فيها جميل اللقاء ويشرح وجهة نظره حول السينما، كانت وثيقة تشجيع وشحن وتحفيز بالنسبة لنا كشباب، ولهذا أردت إنجاز هذا الفيلم، حتى أحيي تلك الرسالة وأشارك جمهور وصناع السينما مضمونها الهام والكبير في تقديري، ولهذا تحديداً لاقت استحسان لجنة الاختيار التابعة للمهرجان".
يعد مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي تأسس عام 1966 من أقدم المهرجانات السينمائية في أفريقيا وفي جنوب المتوسط، وأحد أهم بوابات الفن السابع للعبور نحو الضفة الأخرى، والمشاركة في أهم المهرجانات العالمية، على غرار مهرجانات كان والبندقية. وكان يقام بالتبادل مع أيام قرطاج المسرحية إلى أن تحول لحدث سنوي بدءاً من 2015. وقد حصد في السنوات الأخيرة نجاحاً ثُمّن عربياً وعالمياً بعد إدراج تجربة أيام قرطاج السينمائية في السجون، والتي أدرجت مع المدير السابق الراحل إبراهيم اللطيف، على أن تواصل التجربة في الدورات القادمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...