ما إن تخطو خطواتك الأولى عبر بوابة التكية السليمانية المقابلة لحديقة المتحف الوطني باتجاه سوق المهن اليدوية وسط دمشق، حتى تشعر أنك عائد في الزمن، فالطراز المعماري الذي يعود للقرن السادس عشر، أشجار الكينا الباسقة ووجوه بعض الحرفيين التراثيين توحي بذلك.
وعبر جولة بسيطة على هذا السوق الذي افتتح في سبعينيات القرن الماضي ضمن التكية، والحديث مع بعض أبنائه، كما يُحبون أن يُطلق عليهم، داخل دكاكينهم الصغيرة وورشاتهم البسيطة، سنكتشف أن أحوالهم لا تختلف كثيراً عن أرضية السوق المتهالكة وبعض أعمدته الآيلة للسقوط، والبحرة الكبيرة التي تتوسطه دون أن تحوي نقطة ماء واحدة.
جميع ما في السوق عَطِش للاهتمام، بشراً وحجراً، والمؤسف أكثر أن ترى عشرات المهن التراثية في طريقها للاندثار من دون أن يحرك أحد ساكناً، فكأن وزارة السياحة واتحاد الحرفيين السوريين ووزارة الثقافة لا يعنيهم أن تلك الحرف اليدوية جزء هام من مكونات الهوية الوطنية، وأن معظمها بات مهدداً بالانقراض نتيجة التطور التكنولوجي المتسارع، وضعف التسويق في زمن الحرب، فلا استراتيجيات للحفاظ عليها وتطويرها، مع غياب شبه كامل للاهتمام بالحرفيين، وتركهم عرضة إما للجوع أو الاستسلام للمغريات المقدمة لهم للعمل في الخارج وترك العاصمة السورية من دون حرفييها الماهرين.
عبر جولة بسيطة على هذا السوق الذي افتتح في سبعينيات القرن الماضي ضمن التكية، والحديث مع بعض أبنائه، كما يُحبون أن يُطلق عليهم، سنكتشف أن أحوالهم لا تختلف كثيراً عن أرضية السوق المتهالكة وبعض أعمدته الآيلة للسقوط
كورونا تراثي
يقول معتز الرفاعي، وهو متخصص بالموزاييك وتصديف الخشب، لرصيف22: "لم نتوقف عن العمل في مهنتنا التراثية رغم ظروف الحرب القاسية، وكنا نواظب على أشغالنا حتى تحت القذائف، وكان الوضع مقبولاً، فحينها لا إغلاق للمطارات أو للحدود، لكن مع كورونا بات الوضع كارثياً. لا أحد يتسوق من منتجاتنا، إذ لا سياحة في الحرب، والمغتربون السوريون الذين يشكلون نسبة كبيرة من زبائننا لا يستطيعون القدوم إلى سوريا بعد الآن".
ويضيف: "أثّر الركود الاقتصادي العالمي والعقوبات الاقتصادية على سوريا بشكل كبير علينا، فارتفعت أسعار المواد الأولية أضعافاً مضاعفة، فمثلاً الصَّدَفْ الذي كان بعشرين ألف ليرة بات الآن بستين ألف. وفي ظل عدم وجود تصريف للبضاعة نضطر إلى تقليل الإنتاج كثيراً، ولا اهتمام من قبل المعنيين، وكأن الموضوع آخر همّهم".
الحرفي نبيل القزاز الذي توارث عمله في معمل الزجاج التقليدي أباً عن جد، أخبرنا أنه لم يبق من العاملين في هذه المهنة سوى خمسة أشخاص، والحرفي الحقيقي حتى يتقنها يحتاج إلى عشرين عاماً كاملة، لما فيها من صعوبة وما تحتاجه من صبر وإتقان.
أما عن أهم ما يعانيه في عمله فهو "ضعف التسويق، وضرورة توفير المازوت باستمرار، لأن فرن الزجاج من دون ذلك سيتهالك ويصبح مهدداً بالانهيار، مثله مثل حالنا في هذه السوق، وحال بقية الحرفيين".
وعود لا تنفذ
وعندما توجَّهنا إلى رئيس لجنة سوق المهن اليدوية بدمشق، عرفات أوطه باشي، بالسؤال عما يعانيه السوق، رفع الصوت عالياً في تصريحه لرصيف22 بالقول: "منتجاتنا بحاجة إلى تسويق ودعاية جيدين، والسوق يحتاج إلى ترميم للأرضية، وإلى اهتمام عملي وليس مجرد نظري، فهناك دائماً إشراف ومتابعة من وزارة السياحة، لكن هذا لا يكفي، نحن بحاجة إلى شيء على أرض الواقع. الوعود كثيرة لكنها لا تنفذ".
وتتجاوز الحرف التراثية السورية في التكية، وفق المتحدث، ستين مهنة مسجلة ضمن التراث الثقافي اللامادي، منها الفسيفساء الحجري، القاشاني، الخزف القريب من القاشاني، الرخام المشقف، المقرنص والمقرنص الحجري.
وعن كيفية حماية المهن التراثية من الاندثار، أوضح أوطه باشي أن ذلك يمكن أن يتم بزيادة عدد الدورات التدريبية، على أن تكون ذات فائدة للحرفي الذي يُدرِّب وللمُتدرِّب على حد سواء، وإنشاء أسواق جديدة موازية لهذا السوق في الأماكن التراثية الأخرى.
أيضاً يرى الحرفي بأن على الجهات المعنية أن تؤمن للحرفيين العاطلين عن العمل فرصاً جديدة، وأن تُسوِّق لمنتجاتهم في الخارج، وأن تشركهم بمعارض عالمية.
الأهم من ذلك برأي أوطه باشي، إبعاد التجار عن هذه المهن التراثية: "فعلى الحرفيين أن يشتغلوا وألا يكون هناك وسيط بينهم وبين المستهلك، لاسيما مع بروز شركات تتاجر بمصنوعات الحرفيين، وتسرق جهودهم، وفي مثل هذه الحالات لا يتلقى الحرفي الدعم، بل على العكس، تتم المتاجرة به وبعمله".
عيب على الأمانة السورية للتنمية
نسأله إن كان قصده ما قامت به الأمانة السورية للتنمية، وهي الجهة التي عملت على تجديد مجموعة من محلات السوق وتسويق بعض المنتجات عبرها تحت مسمى "أُبَّهة"، يوضح أوطه باشي: "إنها تجربة غير ناجحة، لأن الأمانة اشتغلت كوسيط لا أكثر، وكانت تأخذ تعب وشغل المهن التراثية، ورأينا ما لديهم: عصير وصابون، هذا عيب. لدينا مهن تراثية هامة وعلينا دعم الحرفي، ومن الآخر أي دعم لغير الحرفي لن يصل إليه".
وإن كانت الأمانة السورية تهدف إلى الحفاظ على التراث السوري، يرى المتحدث أن "بإمكانها أن تجمع أصحاب المهن في التكية الكبرى مثلاً، أي ضمن كامل المنطقة التي تحتوي قاعات أخرى غير مكتملة، وبهذه الحالة يصبح السوق جامعاً للتراث المادي وغير المادي. المادي هو مكانية التراث، وغير المادي هي المهن التراثية، من دون أن تضع الأمانة موظفين، لأننا نريد أن يكون الاهتمام للحرفيين، وأن يكون الدعم لهم، وأن نقول لكل حرفي: هذا محل لك، اعمل وحافظ على تراث بلدك، هذه مهمتك الوطنية، أما غير ذلك فهي تجارة باسم الحرف التراثية".
ويأسف أوطه باشي للمبالغ الكبيرة التي صرفتها الأمانة لتنفيذ ديكور جديد للمحلات، وهو مجرد استبدال للقديم الذي كان أفضل وفق رأيه: "بينما كان بالإمكان أن توجه الأمانة تلك الأموال للحرفيين، ومن يريد أن يقدم دعماً حقيقياً عليه أن يلمس الوجع".
"منتجاتنا بحاجة إلى تسويق ودعاية جيدين، والسوق يحتاج إلى ترميم للأرضية، وإلى اهتمام عملي وليس مجرد نظري، فهناك دائماً إشراف ومتابعة من وزارة السياحة، لكن هذا لا يكفي، نحن بحاجة إلى شيء على أرض الواقع. الوعود كثيرة لكنها لا تنفذ"
مكان جديد للحرفيين
ما يحتاجه الحرفيون بالحد الأدنى، وفق رأي أوطه باشي، هو مكان لائق وقليل من الدعم كي يستمروا بعملهم.
بذلك يرى الحرفي بأنه يفترض إقامة أسواق جديدة في قلعة دمشق والخانات، مثل خان الرز وخان أسعد باشا الذي كان سوق الصناعات اليدوية بالشرق الأوسط، لكنه تحول إلى مكان للحفلات والكافتيريا: "إن كانت لدينا حكومة تسعى لدعم المهن التراثية، عليها أن تضع الحرفيين في خان أسعد باشا، وتقدم لهم كل ما يحتاجونه مجاناً، مقابل أن يعملوا ويحافظوا على تراثهم".
ويضيف المتحدث: "برأيي ينبغي نقل تنظيم السوق من اتحاد الحرفيين، فمثلاً في مصر لديهم غرفة خاصة بالصناعات التقليدية، بينما حرفيونا يجتمعون مع الطيَّان والحدّاد والبلّاط وهذا خاطئ. في القرن الواحد والعشرين ينبغي التفاخر بمهننا التراثية، وألا نبخس من قيمة الحرفيين التراثيين، فهم شيء خاص لكنهم لا يأخذون حقهم".
تقصير كبير
يقول رئيس لجنة سوق المهن اليدوية، بأننا عندما ندخل إلى أي متحف عالمي أو مكان تاريخي، نجد القاعة الدمشقية مُزيِّنة المكان، وعادة ما تكون لكبار الزوار وليس للزائر العادي، ومثال ذلك متحف المتروبوليتان في نيويورك ومتحف اللوفر بفرنسا: "أما نحن كيد عاملة في تلك المهن فلا اهتمام بنا على الإطلاق".
ويبيِّن أن هناك دولاً نشأت حديثاً تصنع تاريخاً لنفسها من لا شيء، أما نحن فتاريخنا موجود لكنه بحاجة فقط لتسليط بعض الضوء عليه، معتبراً أن هناك تقصيراً كبيراً، سواء إعلامياً، بالدعم المادي أو بالمعارض، داعياً للحفاظ على سوق المهن اليدوية في التكية، بمحلاته الستين والحرفيين العاملين فيه.
ويضيف أوطه باشي: "كل دول العالم تبحث عما يميزها لتدعمه وترعاه وتحصد نتائج ذلك. الحرف التراثية صناعة صغيرة أو متوسطة برأسمال بسيط، بمعنى أنها ليست بحاجة إلى أموال طائلة، وإنما مجرّد تنظيم الأمور للحفاظ على الحرفيين التراثيين الذين باتت أعدادهم بأصابع اليد الواحدة، وهم أشبه بثروة ينبغي المحافظة عليها، بل والسعي لتنميتها وزيادة أعداد العاملين بها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...