ميثم: لماذا أحمد راضي؟
أنا: ما الذي تقصده؟
ميثم: أنا أستفهم فعلاً عن أسباب التأثر الواسع بوفاة أحمد راضي.
أنا: أحمد راضي جزء مني، من ذاكرتي ومن تكويني.
ميثم: كيف يعني أنه جزء من ذاكرتك وتكوينك؟
أنا: أها تريد تفاصيل؟ سهلة.
انظر صديقي. نحن كجيل الثمانينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي لم نعش أية فترة راحة. عشنا كل موجات الحروب التقليدية وغير التقليدية. ما كان لدينا إلا كرة القدم لإدخال الفرح إلينا.
إبّان حرب إيران كان الجندي الذي يلتحق بالجيش ويغلق الجاكيت العسكري يغلق معها روحه التي تريد الخروج من جسده لشدة الوجع الداخلي. لم يكن من مجال لسعادته إلا عندما يسجل أحمد راضي أو حسين سعيد أو عدنان درجال هدفاً.
حدّثني أحدهم أنه حتى السواتر في حرب إيران هللت لتأهل العراق إلى كأس العالم-1986، وأن صوت الهلاهل كان أعلى من دوي المدافع وأزيز الطائرات والقذائف.
كأطفال وشباب في تلك المرحلة، لم نكن نجد إلا الجيل الذهبي كسبب في سعادتنا. العراقيون إلى اليوم ما زالوا يشهقون عندما يشاهدون هدف عدنان درجال في مرمى كوريا الجنوبية سنة 1984. الكل يعتقد أنه صاروخ أرض-أرض على عدو ما.
تسألني لماذا أحمد راضي؟!
أحمد يعني حضور العراق في دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الكورية سيول ومن قبلها دورة الألعاب الأولمبية في لوس أنجلس وفي ثلاث بطولات لكأس الخليج وشبه تأهل لكاس العالم عامي 1990 و1994، عندما خرجنا في المرحلة الحاسمة وكنّا على بعد خطوة فقط.
أحمد راضي نستذكره دوماً لأنه الفرحة الوحيدة يوم كنّا نأكل علف حيوانات، خبزة سوداء اللون، بسبب سوء نوعية الحنطة المصنوعة منها، وغير صالحة للعراك مو للأكل.
نستذكره لأنه أفرحنا في مرحلة كنّا نغلي فيها "السرنجة" حتى نستخدمها أكثر من مرة في حقن المرضى. مشهد الحقنة المغلية كنت شاهداً عليه في مستشفى الطفل المركزي في غرب بغداد.
نستذكره لأنه أفرحنا في مرحلة "نعال الكراون".
ميثم: نعال الكراون؟
أنا: نعال بلاستكي عليه علامة التاج ويسبب الألم لقدميك.
نستذكره لأنه كان يوم كنّا نلعب كرة القدم حفاة، لأنو ما عدنا فلوس نشتري أحذية.
نستذكره لأنه كان أيام الحصار، يوم كان المدرّس يعفيك من الامتحان النهائي ويضع لك درجة 90 من مئة في السعي السنوي مقابل علبة سجائر من نوع Aspen.
تعرف؟ كان عدنا مدرّسة تاخذ رشوة بسبب حاجتها المدقعة؟ تدري شنو رشوتها؟ ملابس داخلية!
نستذكر أحمد راضي يوم فُرض على الطلاب المشاركة في جيش القدس، ويوم "الزحف الكبير"، أي الاستفتاء على شرعية صدام حسين سنة 1995 والذي كانت نتيجته 99.99%.
هو من أيام معاناتنا عندما يكون لدينا أخ عسكري، وتبدأ المعاناة من معسكرات تدريب النهروان أو التاجي أو خان بني سعد، أو من معسكر "دلي عباس" إذا تخلّفت عن الخدمة ولو ليوم واحد.
نستذكره لأنه كان ملجأنا أيام الزنابير.
ميثم: شنو الزنابير؟
أنا: الزنابير هي الدبابير، لقب يطلق على عناصر الانضباط العسكري ببيرياتهم الحمراء. إذا طلب أحدهم منك هويتك يصير وجهك أصفر، حتى لو كان مكتوباً في بطاقة خدمتك العسكرية أنك مؤجل إلى حين التخرج أو زوال الأعذار أو أكملت الخدمة وتسرحت منها.
هو من أيام بنطلونات الجينز الـ"بلو" أو الـ"أدون". كان سعر الواحد منهما ثلاثين ألف دينار ومرتب ربّ الأسرة لا يتعدى ثلاثة آلاف دينار، لا تكفي لشراء طبقة بيض.
هو من أيام كنّا في الجامعة، وكانت البالات، رحم الله البالات، تستر علينا على رأي الشاعر الشعبي العراقي خضير هادي، الله يرحمه.
أحمد راضي كان فرحتنا أيام الدكسن.
ميثم: دكسن شنو؟
أنا: الدكسن يا حبيبي علاج لأمراض الجهاز التنفسي، كانت البنات والشباب يستخدمونه من أجل قليل من السمنة. طبعاً، هو ينفخ مو يسمّن. كانت الوجوه شاحبة صفراء وعظامها بارزة من شدة الجوع والحصار. تدري كم شاب تعرض للغش في زواجه لأن الخاتون زوجته طلعت مدكسنة؟
"حدّثني أحدهم أنه حتى السواتر في حرب إيران هللت لتأهل العراق إلى كأس العالم-1986، وأن صوت الهلاهل كان أعلى من دوي المدافع وأزيز الطائرات والقذائف"... لماذا يحبّ العراقيون النجم أحمد راضي؟
تدري مرة إحدى المدرّسات سقطت من بين ساقيها مجموعة خرق مليئة بدماء الحيض؟ كانت النسوة يضعن الخرق أثناء الدورة الشهرية. للأسف ما كنّ يمتلكن ثمن فوط صحية.
تدري أن الجرابات الممزقة كانت تتحول إلى "طوبة" (كرة قدم)؟
ميثم: طوبة شلون؟
أنا: الجوارب مجتمعة أفضل من أي گريكر (كرة قدم أصلية من الجلد). حتى دبل كيك يضرب بيها.
بعد التاتا.
ميثم: التاتا الباص الهندي؟
أنا: إي يا ولي على التاتا. الكراسي خشب والطريق من البياع (جنوب بغداد) إلى منطقة الباب المعظم (وسط بغداد) يصل إلى ساعة كاملة بسبب كثرة التوقف. أما إذا دورة-باب المعظم، من أقصى جنوب العاصمة إلى وسطها، حتى الصلاة تصير قصراً ولا مناص من البواسير.
ميثم: وصف مقرف!
أنا: فقط مقرف؟
"يمعود" (يا رجل) بعد، مثلاً كانت رشوة دخول البكالوريا في الصف الثالث المتوسط شوالين باگلة (باقلاء).
ميثم: شمعنى باگلة؟
أنا: سؤال باگلي وليس منطقي. الإعلان عن المؤهلين لدخول البكالوريا يكون في الشهر الرابع (نيسان/ أبريل) وفيه تطرح "الباگلة" في الأسواق، ومن عجز عن الدخول امتحان البكالوريا عليه أن يأتي بشوالين لمدرس المادة التي تعيق دخوله، ومن ثم يدخل وبس.
"كان فرحتنا أيام الدكسن، وهو علاج لأمراض الجهاز التنفسي، كانت البنات والشباب يستخدمونه من أجل قليل من السمنة. طبعاً، هو ينفخ مو يسمّن. كانت الوجوه شاحبة صفراء وعظامها بارزة من شدة الجوع والحصار"... لماذا يحبّ العراقيون النجم أحمد راضي؟
إلى حد الآن، أتذكر قاووش الإدارة (ممر تقع على جانبيه غرف المدير ومعاونيه والمدرسين وإدارة شؤون الطلبة) في مدرستنا كيف امتلأ بشوالات "باگلة" وعندما دخل الجميع بفضلها، قدِم المدرسون بعرباينهم (عربات نقل يدوية) ليحمل كل منهم شوالاته.
في ظل كل تلك الظروف المأساوية، عند تقليبها، لن تجد مساحة للفرح سوى انتصارات المنتخب الوطني الذي كان أحمد راضي أحد أهم نجومه على مر التاريخ، حتى أننا كنا نسمي الفوز انتصاراً.
ميثم: ليش؟
أنا: لأن عدنا الطوبة (كرة القدم) حرب نريدها أن تهزم كل تفاصيل الفشل.
نريد من 11 لاعباً أن يمحوا كل خيباتنا وآلامنا وسنوات القهر وهذا الشعور عانى منه أحمد راضي وجيله ويونس محمد وجيله وسيلحق عليه ميمي (مهند علي) وجيله.
عرفت يعني شنو الفوز على الأردن أربعة-صفر سنة 89 في تصفيات آسيا المؤهلة لكأس العالم؟ وليش منتخب 93 الذي كان مزيجاً من جيل كأس العالم 86 ومنتخب شباب العراق الذي شارك في السعودية سنة 89 جزء مني؟ ليش حبينا حتى شعار السلام الجمهوري في زي المنتخب الوطني عندما شارك في كأس العالم في المكسيك (1986)، وسجّل أحمد راضي هدفه الوحيد في مرمى بلجيكا، مع أنه يذكّرنا بالسلطة التي كانت تعاقب أحمد ورفاقه بالحلاقة "نمرة صفر" إذا خسروا؟
إذا بحثنا عن لحظات الفرح لن نجد غير قفزاتنا في المباراة ضد السعودية سنة 93 وهدف لأحمد في الدقيقة السادسة، في التصفيات النهائية لآسيا المؤهلة لكأس العالم، ومن قبلها هدف أحمد ضد الصين والذي كان السبب في التأهل للمرحلة الثانية من التصفيات، وهو هدف صنعه المرحوم منذر خلف الذي قتلته الطائفية، يوم دخل منطقة اليرموك عام 2008، وكانت آمنة على طوائف وساحة إعدام لأبناء الطوائف الأخرى.
أحمد راضي لديه "گول" بالكعب على اليمن في تصفيات كأس العالم-1994 على الحارس اليمني أمين السنيني، شوفه باليوتيوب، هدف خارج الزمن كان الهدف الرابع من المباراة التي انتهت بنتيجة 6-1 لصالح العراق.
أنا: تدري أحمد يشبه مَن من اللاعبين؟
ميثم: يشبه من؟
أنا: يشبه دنيس بيركام، مهاجم هولندا والأرسنال.
ميثم: بيركام من؟
أنا: يا رجل! إنت شلون عشت بلندن؟
ميثم: تعرف أن علاقتي بكرة القدم محدودة وأني لم أرَ العراق إلا بعد 2012.
أنا: الآن عرفت ليش أحمد راضي أيقونة الفرح وسط كومات الحزن؟
ميثم: عرفت ورحم الله أبو هيا. بالمناسبة: أنت تشجع الزوراء؟ لأن قريت أحمد رحمه الله زورائي.
أنا: لا. أنا أشجع نادي القوة الجوية، لكنّي أحب أحمد راضي وليث حسين في الزوراء ويونس محمود وحبيب جعفر وعلاء كاظم في نادي الطلبة وسعد قيس وعماد هاشم في نادي الشرطة وكل مَن ارتدى فانلة المنتخب العراقي. وهكذا كل عراقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون