في الآونة الأخيرة، لاحظتُ اهتماماً واسعاً ببيانات النيابة العامة المصرية، لما انطوت عليهِ من عباراتٍ رنانة، استقبلها البعض بحفاوة بالغة لما تحملهُ من وعظ وحثٍّ على الفضيلة، بينما انتقدها آخرون لغياب القانون بين سطورها.
في الثاني عشر من حزيران/ يونيو الجاري، أمرت النيابة العامة المصرية بحبس "المتهمة" شريفة، وشهرتها شيري هانم، وابنتها نورا، وشهرتها زمردة، ووجهت لهما اتهامات بالاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري، وانتهاك حُرمة الحياة الخاصة، من خلال فيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
"ركز قليلاً مع الجمل التالية"
ولفتت النيابة العامة في بيانها، أن وحدة الرصد والتحليل رصدت غضب رواد مواقع التواصل الاجتماعي مما تنشره المتهمتان، كما تلقت عدة مطالبات بإلقاء القبض عليهما والتحقيق معهما.
عندما قرأت بيان النيابة، ذهبت سريعاً لتطبيق التيك توك باحثاً عن شيري هانم، مفتشاً عما فعلته حتى تأمر النيابة بحبسها!
فوجئت بامرأة تبدو أربعينية، أمام كاميرا تليفونها الشخصي، مستخدمة الكثير من "فلاتر التطبيق"، تصور نفسها أمام مرآتها تارة، أو تحكي عن مواقف عادية تعرضت لها في حياتها تارة أخرى.
عصا الأخلاق هي واحدة من الأدوات التي يعتمد عليها أي نظام سلطوي لفرض الخوف والتأكد من بسط السيطرة على الجميع.
ظللت أتابع الفيديو تلو الآخر باحثاً عن محتوى "خارج" تطرحه السيدة أو حتى مُحتوى جنسي، أبحث وكلمات النيابة العامة بأن المتهمة اعتدت على المبادئ والقيم، وقامت بإيحاءات جنسية وألفاظ نابية ترنُ في أذني... أخيراً وجدتها تطرحُ تساؤلاً جدلياً، فتتساءل قائلة: "ليه اللبانة مشبوهة؟ ليه اللبانة اقترنت بحاجة مش كويسة؟"، وتقصد العلك، وبدت السيدة في أغلب الفيديوهات التي تبثها ساخرة، لكنها سخرية من النوعِ الذي لا يضحك، وهكذا أغلب ما تبثه السيدة... لا شيء على الإطلاق، حتى استوقفني فيديو آخر تقول فيه إنها تتعرض لتهديدات بالحبس، وأنه من المحتمل أن تواجه مصيراً مماثلاً للذي واجهته حنين حسام ومودة الأدهم، وقد حصل بالفعل، وكلاهما متهمتان بنفس الاتهامات قبلها بعدة أسابيع!
وذكرت شيري هانم أن واحداً ممن هددوها يدعى "ناصر حكاية"، وقد ذهبت إلى اليوتيوب أبحث عنه فوجدته يتحدث كأنه أحد حراس الفضيلة، وتحتوي أغلب فيديوهاته على تحذيرات لأي فتاة مشهورة بضرورة تقديم محتوى هادف، متوعداً هذه وتلك بالحبس والعقاب، ويقول إن ورائه عدة محامين مهمتهم تقديم البلاغات التي تفضي إلى حبس كل من يراه يقدم محتوى مسيئاً، حتى ذهب في انتقاده للسيدات اللواتي يقدمن فيديوهات طبخ بينما يرتدين ملابس "مثيرة"! وبعد أن حمد الله أنه تسبب في حبس حنين حسام ومودة الأدهم وشيري هانم، وكذلك سما المصري، توعد بملاحقة الفنانة رانيا يوسف.
ودائماً ما يتحدث "ناصر حكاية" بلغة المؤسسة كأن يقول مثلاً: "إحنا... هنعمل... قدمنا بلاغ…"، وهكذا حتى أنه يسمي ما يقوم به عملية "تنظيف وتطهير" للسوشيال ميديا!
بينما تسود ثقافة المنع والتضييق وحجب مئات المواقع والإخفاء القسري والاعتقالات التعسفية، تسمح السلطة لنفسها بفرض وصاية على سلوكيات الناس وأخلاقهم، والمؤسف أنها تجد حاضنة اجتماعية تبارك مثل هذه الممارسات، ظناً منها أنها بذلك تحمي الدين أو تحرس الفضيلة
وجدير بالذكر هنا الآتي...
في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، قرر النائب العام حمادة الصاوي، إنشاء إدارة تابعة للنيابة العامة تحت مسمى "البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي"، على أن تضم تلك الإدارة ثلاث وحدات، وهي التواصل مع وسائل الإعلام، الإعلام الإلكتروني والتواصل الاجتماعي والرصد والتحليل، وجاء هذا القرار بعد شهرين من توليه مهام النيابة العامة المصرية بقرار جمهوري، وعللت النيابة قرارها بإنشاء هذه الإدارة لأهداف من بينها "التوجيه الاجتماعي"، على أن يتولى مسؤولية الإدارة أحد أعضاء النيابة العامة بدرجة محام عام، يعاونه عدد من أعضاء النيابة، ويلحق بالإدارة عدد من الموظفين المتخصصين وفقاً للهيكل الإداري، الذي لم تحدد هويتهم أوصفتهم الوظيفية.
وفي ظل تشريعات فضفاضة مثل "مكافحة جرائم تقنية المعلومات" و"خدش الحياء العام"، يصبح الجميع تحت مقصلة القانون، فبالنسبة لشخص يحمل مطرقة كل شيء يبدو مسماراً متاحاً لدق رأسه، خطورة هذه التشريعات تتجاوز حبس الكتاب والأدباء وأصحاب الرأي لتصل إلى العوام من الناس، فالجميع بات مهدداً من ناصر حكاية وأمثاله، فمن يقف خلف ناصر حكاية؟ أو من الذي يسمح لناصر حكاية بتهديد مجتمع كامل وفرض وصاية أخلاقية عليه؟!
والدستور تحول لميت تمرر فوق جثته كل التشريعات التي تضرب بقواعده عرض الحائط، هذا الازدواج الذي تناقض النخبة فيه نفسها، بين محاولات كسب مساحة إضافية من حرية التعبير وفرض سياج مقيد لهذه الحرية في الوقت نفسه.
وبطبيعة الحال، لا يمكن فصل مثل هذه الممارسات عن المناخ العام الذي نعيشه في مصر، فالدولة حين تمارس نوعاً من الوصاية الأخلاقية على الناس فذلك يمثل فرصة أوسع في ممارسة مزيد من القهر على المجتمع ككل.
عصا الأخلاق هي واحدة من الأدوات التي يعتمد عليها أي نظام سلطوي لفرض الخوف والتأكد من بسط السيطرة على الجميع.
وبينما تسود ثقافة المنع والتضييق وحجب مئات المواقع والإخفاء القسري والاعتقالات التعسفية، تسمح السلطة لنفسها بفرض وصاية على سلوكيات الناس وأخلاقهم، والمؤسف أنها تجد حاضنة اجتماعية تبارك مثل هذه الممارسات، ظناً منها أنها بذلك تحمي الدين أو تحرس الفضيلة.
واهم من يظن أن الاستبداد والقمع يقلّل الفسق ويحد من الفجور، فالنظم الفاشية حين تمسك بعصا الأخلاق ضد مواطنيها، يكون ذلك عن فقر وعجز لا عن عفة أو دين، يوهمك أنه يمنع بهذه الممارسات السلطوية التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعددها لا عدادها.
ومثل هذه الإجراءات تصيب المجتمع بشيء من "الدروشة الاجتماعية"، تسخر عقول الناس لمزيد من الرضوخ، فيفقد بذلك بوصلته الأخلاقية حتى يصبح الأذى مقبولاً في مواقف معينة، يصل الأمر أحياناً إلى تقبل فكرة قتل إنسان لمجرد أنك تختلف معه، وعندما تفقد بوصلتك الأخلاقية يصبح ضميرك مشوهاً، فترضى الأذى للآخرين وتخرس عند ظلمهم دون أدنى إحساس بالذنب.
ثم لماذا لا تتذكر الدولة الأخلاق إلا مع ضيق الحال الاقتصادية، وتدهور الأوضاع السياسية؟ فكلما زادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً ظهرت عصا الأخلاق!
ازدواجية فاضحة هي، عندما تطالب الدولة مواطنيها بضرورة الاعتماد على أنفسهم اقتصادياً فترفع عنهم الدعم لمواكبة الواقع الاقتصادي المعاصر، فيلجؤون للوسائل الحديثة للتربح، فتحاصرهم وتعاملهم من منطلق السلطة الأبوية! وتحاكم الناس على أفكارهم.
هذا الانفصام السياسي يزيد الأوضاع احتقاناً… هل تستوعب الدولة أن الحملات الأمنية لا يمكنها أن تشمّع عقول الناس كما تشمع المراكز الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، وأن المحاكمات السلوكية والأخلاقية لن تخلق واقعاً حضارياً ولن تجعل المجتمع أكثر سماحة في خلقه ودينه؟
هذا الانفصام السياسي يزيد الأوضاع احتقاناً… هل تستوعب الدولة المصرية أن الحملات الأمنية لا يمكنها أن تشمّع عقول الناس كما تشمع المراكز الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، وأن المحاكمات السلوكية والأخلاقية لن تخلق واقعاً حضارياً ولن تجعل المجتمع أكثر سماحة في خلقه ودينه؟
أخيراً، أود الختام بقصة في غاية الأسى والحزن، في الأيام القليلة الماضية انتحرت فتاة مصرية تدعى سارة حجازي، هذه الفتاة قبل ثلاث سنوات وجهت لها اتهامات بالتحريض على الفسق والفجور، ثم فرّت إلى كندا خشية الملاحقات الأمنية، وماتت أمها ولم تتمكن حتى من التواجد في جنازتها، لم يمر عليها عامين حتى انتحرت، بينما يخوض العالم كله صراعاً مع جائحة كورونا للنجاة، أقبلت الفتاة على الموت دون تردد.
ماتت موصومة في بلدها، بعد أن لوحقت أمنياً باتهامات باطلة، تعرضت خلال حبسها للتعذيب والانتهاكات الجسدية، لكن أحداً لم يسمع شكواها، كما أنها لم تجد على أرض الوطن من ينصفها، ولم تتمكن من مواصلة الحياة بهذه القسوة فانتحرت.
ترى من قتلها؟ أقتلت نفسها أم قتلها الذي حبسها وعذبها وتعدى على حرمة جسدها فأفقدها أمانها؟
ولست أفهم لماذا يستدل البعض بالآية الكريمة: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، ويغفلون بقية الآية... "إلا من ظُلم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...