بعد 6 سنوات على تغريبتنا السورية، التي وصل فيها كم الألم وحجم المأساة إلى درجة لم نعد قادرين على استيعابها أو إحصائها، من تهجير وقتل ودمار وتفتت شعبي لم يسبق له مثيل.
وبعد أكثر من مليونين سقطوا بين قتيل وجريح في هذه المطحنة التي لم ترحم صغيراً أو كبيراً، ومعهم ملايين النازحين والمهجرين، فإن انعدام الرؤية أو الأفق لإيقاف هذا العبث هو ما يخيم على المشهد في سوريا، لا بل إن الأدوات السورية المتحكمة بالأرض والناس تواصل المتاجرة بالدم ومستقبل البلد، تارة بحجة الدفاع عن أمن الوطن كما يدّعي النظام، وتارة بحجة إسقاط النظام وحلفائه، كما تدّعي المعارضة...
فيما الشعب السوري، في كلا الجانبين، يعيش حياة هي أشبه بالجحيم.
ست سنوات ولا تزال الذهنية التي تسيطر على سوريا هي ذاتها: نظام قائم على الأمن أثبتت الأيام أنه غير قابل للتغيير، ولا يمكن أن يعترف بالآخر بوصفه شريكاً محتملاً، فضلاً عن أنه ليست لديه سعة صدر لأي شكل من أشكال الديمقراطية أو الحرية والتعددية السياسية أو الحزبية حتى بين مؤيديه في المناطق التي يسيطر عليها حالياً.
ومعارضة على اختلاف أشكالها، قائمة في عمقها على مزاج شعبوي ديني مكّنها من إعادة ترويض الناس وتأطيرهم ضمن تكتلات يديرها أمراء حروب لا هم لهم سوى ما يحققونه من مكاسب سلطوية ومالية، استطاعوا وبجدارة إفراغ كل محتوى أو قيمة للحرية والديمقراطية والدولة الوطنية المحايدة.
لقد كشفت أوضاع ما بعد اندلاع الثورة السورية عن هشاشة حضور مفهوم الدولة المؤسساتية بين شرائح واسعة من السوريين، فقبل الثورة شاهدنا كيف تمكّن نظام الأسد من إفشال الدولة لصالح سلطة نظامه، إذ لم يُعطَ السوريون في عهده فرصة لتشكيل عقدهم الاجتماعي ورؤيتهم لمفهوم الدولة والوطن إلا بما ينسجم مع رؤية الأسد وسلامة نظامه، وكذلك بعد الثورة أيضاً لم يتمكن السوريون، حتى الآن، من العمل ضمن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة الجامعة.
هذه الرؤية الفردانية في الإدارة، كانت تُستتبَعْ "للضرورة" بأعمال ساهمت بالتمهيد لفكرة تقسيم المجتمع على أساس الولاء والعداء وليس على أساس البناء والتطوير، أي أن العلاقة أخذت شكلاً أقل حتى من مفهوم الطائفة نفسها، لتصبح المجموعة التي يقاتل فيها العنصر هي فقط من تمثل الدولة والوطن وما عداها هو عدو يجب محاربته حتى لو كان من المذهب نفسه.
طريقة المعالجة هذه، لم تهيئ الأرضية المناسبة لتأسيس هوية وطنية جامعة يتفق السوريون على محدداتها الرئيسية، كما لم تؤسس حتى لإنتاج رؤية لدولة وطنية تعبر عن الشعب السوري وتجسد هويته وتطلعاته تحت سقف الوطن المأمول، فقد اضطر السوريون، في ظل عدم وجود أي شكل من أشكال الصراع الوطني، للانكفاء على سلطاتهم المحلية الضيقة التي تشكلت بعد الثورة، سواء في المناطق الخاضعة للنظام، أو تلك التي تحررت منه على أيدي فصائل عسكرية إسلاموية، ليغيب مع هؤلاء وبشكل كلّي مفهوم الدولة المجردة كمؤسسة تنبع منها وتتجمع فيها السلطات وتخدم جميع المواطنين بلا استثناء وبدون أي تمييز.
لقد فشل السوريون ـ حتى الآن ـ بنقل مفهوم السيادة من الزعيم الأوحد المستبد، إلى الدولة الجامعة التي تدار بعقلية مؤسساتية لا فردية تكون قادرة على حماية الجميع والنهوض بالوطن معهم وبهم.
والنتيجة أنه بدل أن يراكم السوريون تجربتهم الوليدة في النزعة إلى الحرية من سلطة استبدادية فردانية رسخها حافظ الأسد وابنه من بعده، تمت ـ وبكل أسف ـ إعادة إنتاج زعامات قزمية مناطقية صغيرة استوحت خطواتها وكرّستها من نهج نظام الأسد نفسه رغم اختلاف أيديولوجياتها عنه.
منذ دخول الرئيس المصري جمال عبدالناصر على الخط السوري زمن الوحدة، استطاع زعماء حزب البعث الذين تناوبوا على السلطة في سوريا بعد الانفصال عن مصر، أن يجعلوا من مؤسسات الدولة السورية أدواتهم في السيطرة.
في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، يشكل الأمير أو القاضي الشرعي حالة رعب حقيقية، مثله مثل أي عنصر أمن
توالد فطري عجيب للزعامات السورية... كل المحافظات التي انتزعت من النظام تحولت لمقاطعات يديرها أمراء حروبفلم تكن السلطة في عهدهم سلطة الدولة إطلاقاً، وإنما الدولة هي التي جُيّرتْ بيد السلطة، واختُصرتْ لاحقاً في شخص الرئيس الزعيم وهذا ما لمسناه، بشكل خاص، في عهدي الرئيسين حافظ الأسد ووريثه، فتم إفشال مفهوم الدولة بجدارة لصالح مفهوم السلطة، ورأينا كيف جرى النظر لأية معارضة لحكميهما على أنه خروج على الدولة ومعاداة للشعب والوطن، وكثيراً ما كانت تهمة المعارض تصل إلى درجة الخيانة الوطنية لمجرد معاداته لسلطة الحكم السوري. والمتتبع لمجريات الأحداث في مناطق سيطرة كل من النظام بعد الثورة، لوجد أن انهيار الدولة كمفهوم مؤسساتي صرف لم يؤثر على الزعامات الجديدة، كالتي تشكلت في مدن الساحل على سبيل المثال، حيث بدأت تتناثر الميليشيات المسلحة في البلدات والقرى الساحلية بشكل غير مسبوق. لا بل على العكس ازدادت هذه الميليشيات رخاءً وقوة مع فتح باب الإفساد والثروة والقدرة على البطش على مصراعيه، دون أي اعتبار أو قيمة لحياة الناس الذين وصلت معاناتهم إلى مستويات فظيعة من القهر والفقر والحاجة وكم الأفواه والموت المجاني لشبابهم، وكل ذلك يتم بحجة محاربة الإرهابيين المجرمين. وفي المقابل أيضاً، فإن معاناة المواطنين السوريين داخل المناطق التي استولت عليها المعارضة المسلحة ازدادت هي الأخرى إلى درجات لا تطاق من انعدام للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي حلمنا بها في بدايات ثورتنا، فأصبح الأمير أو القاضي الشرعي يشكل حالة رعب حقيقية للناس، مثله مثل أي عنصر أمن أو قائد ميليشيا في الضفة الأخرى التي يديرها حلفاء الأسد. هذا التوالد الفطري العجيب للزعامات السورية المتنوعة، سببه الرئيسي ليس فقط الرغبة في التحكم والسيطرة، رغم أنهما جزء أصيل في ثقافتنا الشرق أوسطية، لكن أيضاً سببه عدم الإيمان أساساً بمفهوم الدولة المؤسساتية الوطنية الخدمية المحايدة لكتلة السلطة وزعيمها والتي تهتم بمصالح الناس بغض النظر عن ولاءاتهم أو انتماءاتهم. والمشكلة الحقيقية التي لا بد من إعادة قراءتها على ضوء الأوضاع الحالية، هي أن غياب مفهوم الدولة لا يطال فقط المستفيدين من الزعامات الجديدة سواء في مناطق النظام أو المعارضة، بل نستطيع القول انطلاقاً مما كشفته تجربتنا قبل الثورة وبعدها، إن غياب هذا المفهوم يطال ـ وبأسف شديد ـ الكثير من أبناء الشعب السوري نفسه، فلا تضاؤل دور وحجم مؤسسات الدولة خلال فترة حكم آل الأسد، ولا تحطيم وإلغاء أجهزة الدولة بيد مالكي القوة والسلاح بعد اندلاع الثورة، قابلتها أدنى ردة فعل جماهيرية حقيقية عامة ضد هذا السلوك. لا شك أنه يوجد رفض لمثل هذا السلوك على المستوى الفردي، لكن مثل هذا الرفض لا أثر له ولا قيمة على المستوى الجمعي، فعلى سبيل المثال، جرى في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام إلغاء مؤسسات خدمية ومرافق عامة ومحاكم بشكل كامل، وتم استبدالها بأجهزة أخرى تماماً أقل خدمة وأكثر سوءاً، دون أية مقاومة تذكر وكأن المؤسسات والمرافق العامة في تلك المناطق هي ملك للنظام وليست للدولة السورية، الأمر الذي سهّل على أمراء الحروب في المناطق "المحررة" سيطرتهم وتحكمهم بالناس وتراكم ثرواتهم لاحقاً على حساب الناس ودماء أولادهم. كل المحافظات التي جرى انتزاعها من النظام لم يتأخر مالكوها الجدد في تحويلها لإمارات ومقاطعات يديرها أمراء حروب على رأس مجموعات مسلحة لا هم لهم سوى اقتسام الغنائم، ولذلك لم يأخذ هذا الانتزاع صفة "التحرير الحقيقي"، لأنه ببساطة لم يكن أكثر من خروج مدينة من سلطة استبداد النظام، لتقع تحت نير سلطات استبدادية أشدُّ وأمضى. إن هذه الوقائع تتطلب من السوريين المدنيين الآن التفكير بمستقبل سوريا فهذه فرصتنا لكي نعيد إنتاج مجتمعنا ووطننا وثقافتنا على أسس جديدة غير التي تربينا عليها وغير الموجودة حالياً وغير ما يحاول ترسيخها المتحاربون الجدد وفرضها على السوريين كأمر واقع، خصوصاً أنه لا نظام الأسد، بما يحمله من عقلية قمعية وإقصائية، قابل للتغيير، ولا المعارضة التي سيطرت عليها ثقافة إسلامية قائمة على العنف والقتل وسفك الدماء، قابلة للحياة، أو هي ما كان ينتظره السوريون من ثورتهم. لا شك بأن التفكير في مستقبل بلدنا السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والوطني، يرتبط بشكل وثيق بما هو عليه الوضع السوري الآن، لكن وريثما تتوضح نتيجة الصراعات القائمة حالياً في بلدنا (محلياً وإقليمياً وعالمياً)، فإن أهم ما يجب أن يفكر فيه السوريون الديمقراطيون المدنيون الوطنيون هو البدء بشكل جدي وفاعل في التأسيس لعقد وطني كبير قادر أن يؤسس بدوره لإعادة إنتاج الدولة قبل إنتاج أي شيء آخر، وقادر على إعلاء شأن الدولة على حساب كل المفاهيم الأخرى التي يتم زرعها الآن، وهذا هو التحدي الأكبر لنا ولأبنائنا والأجيال اللاحقة من بعدنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...