في خلال حوار صحفي أجريته مع الفنان هشام سليم، في منزل عائلته الكائن بشارع 26 يوليو في حي الزمالك في القاهرة، وقعت عيناي على مقعد كبير يحتل مكاناً بارزاً في الغرفة الأنيقة، على الرغم من تمزّق كسوته، ووضوح آثار الزمن عليه.
بفضول صحفي سألت هشام عنه، فقال مبتسماً: "هذا هو المقعد المفضل لوالدي، الكابتن صالح سليم، أشهر لاعبي كرة القدم في مصر والعالم العربي، فلم يكن يرتاح إلا بالجلوس عليه، ولم يقترب أحد منه، لا في حياته ولا بعد رحيله، وأصرَّت والدتي أن يظلَّ على حاله دون تجديد رغم مرور العديد من السنوات".
وأثناء مشواري الصحفي، حيث التقيت بمبدعين في مجالات عديدة، اكتشفتُ أنَّ لكل فنان، ومبدع سرّه الخاص في الأشياء التي يتعلق بها نفسياً.
نظارة الأم وأريكة الأب
إن كان صالح سليم، لاعب النادي الأهلي الأشهر، قد ارتبط بمقعد والده، فالكاتب الراحل أحمد بهجت وقع في غرام أريكته الجلدية التي احتلت مساحة كبيرة في مكتبه بمؤسسة الأهرام.
أريكة جلدية عريضة، صرّح لي ابنه الكاتب الصحفي محمد أحمد بهجت في حوار عن والده، أن تلك الأريكة شاركت أبيه أغلب أوقات حياته، فقد كان مرتبطاً بها حد العشق، لا يستطيع النوم إلا عليها، حيث كان يقضي ساعات طويلة بمكتبه في الأهرام، ويلجأ للنوم في أحضانها إذا ما غلبه النعاس.
وهي الأريكة التي أصر محمد الابن على إحضارها لمكتبه فور رحيل أبيه، لأنها عزيزة عليه، و"فيها من ريحته".
"احتفظ الكاتب إحسان عبد القدوس في جيبه بنظارة والدته، وبإناء الشرب "الكوز" الحديد الذي كان يشرب فيه أثناء اعتقاله، بسبب خلافه مع "ثورة يوليو" في مقاله "الجمعية السرية التي تحكم مصر"
ويقول هشام يحيى لرصيف22: "خلال حواراتي المستمرة مع أستاذي، الصحفي المخضرم والناقد لويس جريس، ذكر أنَّ الكاتب إحسان عبد القدوس كان يحتفظ في جيبه بنظارة والدته السيدة فاطمة اليوسف، "كأنها دلالة على أنه يرى العالم من خلال عينيها".
"وتحدث جريس لي أيضا أنَّ إحسان ظلَّ محتفظاً على مكتبه في بيته، بإناء مصري "الكوز" المصنوع من الحديد الذي كان يشرب فيه خلال فترة تواجده في المعتقل، بعد خلافه الشهير مع ثورة يوليو بسبب مقال "الجمعية السرية التي تحكم مصر".
بومة العقاد
الأمر في حياة المشاهير لم يقتصر على أشياء مألوفة، منحت أصحابها الراحة والاسترخاء، لكنه وصل في بعض الأحيان حد الغرابة، فالكاتب الكبير عباس محمود العقاد كان يحتفظ بمكتبه ببومة محنطة.
هذا الأمر شهده بنفسه والد الكاتب الصحفي الكبير هشام يحيى، يقول هشام لرصيف22 قائلاً: "حكى لي والدي الذي كان زبوناً دائماً على صالون العقاد، الذي كان يقيمه في بيته بمنطقة روكسي في مصر الجديدة، أنه وجد على مكتب الأستاذ بومة محنطة، تحدياً للتشاؤم والتفاؤل، وبالمناسبة، المنزل الذي كان يعيش فيه العقاد كان يحمل الرقم 13".
يضيف هشام: "لويس جريس نفسه ظل محتفظاً في محفظته بأول مكافأة مادية منحها له الكاتب أحمد بهاء الدين، رئيس تحرير مجلة صباح الخير".
"أما صديقي المؤلف الموسيقى الشهير طارق شرارة، فيحتفظ في بيته بالمعادي بقطع أشجار تحولت مع الزمن إلى أحجار تحمل أشكالاً مختلفة، ورغم أنه اقترب من الثمانين من عمره، لا زال يحتفظ حتى الآن بصندوق 'اللعب' الخاص به عندما كان صغيراً، وكل فترة يجدده بإضافة ألعاب جديدة".
ومن المفارقات القدرية، كما يقول هشام يحيى، أن الفنان فؤاد المهندس ظل محتفظاً بعصا والده وطربوشه في ركن خاص بمقتنياته في شقته، إلى أن جاء الحريق الذي التهم الشقة بما تحوي.
"وحسب كلام ابنه محمد المهندس معي، أن اكتشافه احتراق العصى والطربوش كانا السبب الرئيسي في دخوله مرحلة الاكتئاب في نهاية عمره".
تفاح شيلر وقلم شلبي
يرى المخرج والسيناريست محمد حلمي هلال، أن كثيراً من المبدعين والفنانين، سواء من المشاهير أو غيرهم في العالم، مثلت لهم أشياء صغيرة قيمة نفسية كبيرة، سواء لحياتهم أو لإبداعهم.
يقول حلمي هلال لرصيف22: "قرأت مرة أن الكاتب فريدريك شيلر كان يقوم بوضع التفاح الفاسد في درج مكتبه، وتناوله كل يوم أثناء الكتابة، إيماناً منه بأن تناول التفاح الفاسد يساعده على الكتابة ويمنحه الإلهام".
يضحك حلمي هلال قائلاً: "الحمد لله أنني لم أصل إلى درجة أكل التفاح فاسداً أو حتى طازجاً".
ولكن ما قرأه حلمي عن شيلر دفعه للتفكير عن الأشياء الصغيرة التي يتعلق بها هو، يقول: "انتبهت بالفعل أن هناك أشياء لدي أنا ككاتب، لا ألاحظها على نفسى كلما هممت بالجلوس إلى الكتابة، ولم أعرها التفاتاً باعتبارها من الأمور العادية، فأنا لا أعرف أبداً أن أشرع في الكتابة إلا بعد ارتداء ملابسي كاملة، وكأنني سأخرج من البيت، حتى في الشتاء القارس، أعجز عن الجلوس إلى مكتبي بملابس البيت، وينتابني شعور غريب أثناء الكتابة بهذا الشكل، أنني قد أضطر إلى النزول في أي لحظة، لا أدرى هل يفصح هذا عن احتفاء بالكتابة، أم يشير، على الأرجح، إلى جاهزية الكتّاب إلى الهروب في أي لحظة من مواجهة الصفحات البيضاء التي تستعصي عليهم في بعض الأحيان".
"الكاتب فريدريك شيلر كان يضع التفاح الفاسد في درج مكتبه، ويتناوله كل يوم أثناء الكتابة، إيماناً منه بأن تناول التفاح الفاسد يساعده على الكتابة ويمنحه الإلهام"
الكاتب والروائي خيري شلبي له حكاية أيضاً، ترويها ابنته الشاعرة ريم خيري شلبي لرصيف 22، بأن والدها "كان مرتبطاً بقلمه بشكل ملفت للانتباه، فكان لا يفارقه أبداً، حتى أنه كان يضعه في جيب البيجامة كأنه جيب القميص، ولا يتركه إذا دخل الحمام، وإذا خرج من المنزل كان لابد أن يحمل معه حقيبة بها أوراق وأقلام، وبينهم قلم رصاص، لا يخرج أبداً إلا وهذه الحقيبة بصحبته".
مصحف الأطرش وآية عبد الحليم
في إحدى لقاءاتها التلفزيونية مع الإعلامي طارق حبيب، صرحت الراقصة سامية جمال كاشفة سراً عن حبيبها الأول الفنان فريد الأطرش، وقالت إنه دائماً ما كان يحتفظ في جيبه بمصحف صغير.
وهو المصحف الذي ضاع منه قبل وفاته بفترة قصيرة، حيث قالت إنه في آخر لقاء جمعهما قبل وفاته بشهر ونصف، قال لها: "أريد أن أقول لك شيئاً. أنا متضايق لأن المصحف ضاع مني ولو ما لقيتهوش هيحصل لي حاجة مش كويسة"، وبعدها بشهر ونصف الشهر فارق الحياة.
يذكرنا ذلك بعبد الحليم حافظ، بحسب تصريحات سابقة لزينب الشناوي، حيث كان يحتفظ بقصاصات ورقية تحمل آية قرآنية محددة، اعتاد أن يضعها في جيوب البدل التي تسافر معه إلى رحلات العلاج بالخارج، تقول الآية: "إنَّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى ميعاد" كنوع من التفاؤل، وكتبها على جدران شقته بالزمالك.
يقول هشام يحيى لرصيف22 أنه عندما زار المكان الذي يسكن فيه عبد الحليم، لإحياء ذكراه مع عائلته، وجد تلك الآية مكتوبة على أحد الجدران، رغم التجديدات التي طالت الشقة.
وقد روت زينب إنه في آخر رحلة علاج قام بها إلى لندن، وهي الرحلة التي عاد منها متوفياً، ظل يبحث عن قلم ليكتب الآية كما اعتاد قبل خروجه من المنزل فلم يجد، فاضطر أن يكتبها بإصبعه في الهواء، وأشار لها مودعاً.
وصرح الممثل سمير صبري في برنامج تلفزيوني، مستعرضا خاتماً منقوشاً فيه كلمة "الله"، قائلا أنه منذ أربعين عاماً، كان يصلي أمام الكعبة، فأهدى له رجل لا يعرفه، هذا الخاتم.
يشدد صبري على أنه لم يتركه منذ أربعين عاما، لاعتزازه به، وتفاؤله به، وقام بتقبيل خاتمه أمام الشاشة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...