شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كمال الرياحي أضاع مسدساً إيطالياً

كمال الرياحي أضاع مسدساً إيطالياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 4 يناير 202003:32 م

" كلب وقحبة ومسدس وملائكة وزواج وخيانة ويوم أسود... ما هذه القضية القحبة التي أكلف بها؟ ما هذا الخراء"، هذه كلمات علي كلاب عندما بدأ بقراءة الأوراق والاستماع إلى التسجيلات المرمية على مكتبه، الضابط المهووس، المصاب بالسكري، والذي أضاع مسدسه، وجد نفسه متورطاً في يوميات كاتب يبحث عن سبب الانتحار، لينغمس كلاب إثر ذلك في القراءة وهو يعاني من خصيتيه المعضوضتين من قبل كلب، والحمام الذي يرفرف في رأسه حد الانفجار.

الكلمات السابقة التي نطقها علي كلاب تلخص بصورة ساخرة الحبكة الرجيمية لرواية كمال الرياحي الأخيرة "ألبيرتا يكسب دائماً"، فالرواية الصادرة هذا العام عن دار المتوسط، تأخذنا إلى عوالم نختبر فيها فن الرواية وتقنياتها، تونس بعد الثورة، ومجموعة من الحكايات الشعبية والرسمية التي تخضع للتفكيك وإعادة القراءة والانتقاد بسبب كلمة:" تَخَيّلْ".

يحوّل الرياحي الحبكة البوليسية إلى خشبة لاختبار أشكال السرد المختلفة: الرسائل، اليوميات، أساليب التحقيق، الهلوسات، رسائل الانتحار، والمقالات الصحفية، كلها أشبه بأوراق تلتهمها شخصيات الرياحي ثم تبصقها بوجه القارئ. الأهم، أن المخيلة تظهر في الرواية كأداة لمحاكمة الأحداث المعاصرة والحكاية الشعبية والتاريخ الروائي نفسه، يتضح ذلك في الموضوعات التي يتنوع أسلوب التعامل معها سردياً، لطرح سؤال المخيلة ضمنها، وحقيقة غياب الاختلاف بين "حكايات المخيلة" وتلك التي تدعي "الواقعية".

بينما "يخرأ" علي كلاب الذي أضاع مسدسه الإيطالي من ماركة "ألبيرتا" يقوم بقراءة يوميات يوسف، الصحفي والكاتب الفاشل المهووس بدايف، والغيور من دايف لأنه انتحر بينما يعجز يوسف عن ذلك. لكن دايف هذا، ليس إلا الكاتب الأمريكي دايفيد فوستر والس، الذي يحاول يوسف، الكاتب التونسي ذو الآلة الكاتبة الرخيصة، عبر يومياته أن يكتشف سبب انتحاره. قرأ كل شيء عنه دون جدوى، بل أنه دمّر حياته، وطلقته زوجته التي خانها مع صديقتها، ووصل إلى حد الجنون، لكن مخيلته خذلته ولم تسعفه لخلق سيناريو انتحار الكاتب الشهير، في ذات الوقت لم يجرؤ على الانتحار بالرغم من أن ألبيرتا أمامه على الطاولة يحدّق به.

كأن عمل المخيلة يعني إعادة كتابة حكايات العالم

حضور فوستر والس في نص الرياحي يحيلنا إلى رؤيته للرواية التي تبدو كأنها تأريخ هذياني، فهو يبتلع النصوص الأخرى، الجدية، وينزع عنها خصوصيتها التي تصنف إثرها كـ"تاريخ" أو "واقع"، وكأن عمل المخيلة يعني إعادة كتابة حكايات العالم

حضور والس في نص الرياحي يحيلنا إلى رؤيته للرواية التي تبدو كأنها تأريخ هذياني، فهو يبتلع النصوص الأخرى، الجدية، وينزع عنها خصوصيتها التي تصنف إثرها كـ"تاريخ" أو "واقع"، وكأن عمل المخيلة يعني إعادة كتابة حكايات العالم، فلا أحد يحتكر الحكاية أو شكلها الذي تسرد ضمنه، وكيس القمامة الذي يحوي قصاصات الصحف والأخبار الحقيقة عن "دايف" يحوي أيضاً ألبيرتا، المسدس الذي يبحث عنه الجميع، وكأنه طلسم يصيب بلعنته كل من يمسه، أو حتى يذكر اسمه.

علي كلاب ضابط من النظام القديم، بدأت تتلاشى أهميته مع تلاشي جسده نفسه، الذي يثقبه دوماً لأجل قياس مستوى السكر لديه، ويجرح نفسه حتى تسيل الدماء، هو ذو جسد غروتيسك، يتضرر ويقطع ثم يشفى بسرعة ليعود لذات الروتين، لكن ما لا يشفى منه هو جنونه، هو متهم بقتل غوريلا الساعة، في إحالة لرواية الرياحي "الغوريلا"، والحدث الحقيقي الذي شهدته تونس إبان الثورة.

كلاب ومن معه، فاسدون، وحشيون، يلصقون التهم بأي أحد، مع ذلك سلطتهم تتلاشى، وكأننا أمام صورة كاريكاتورية لبقايا "النظام القديم" الذي كان يحمي كلاب، ثم تركه لجنونه، يلاحق أوهاماً وشياطين يفعّلها سؤال "المخيلة" الذي يطرحه الرياحي، فكلاب مسؤول عن شلل الملاكم محمد علي المنصوري، إذ هشم ساقه أثناء التحقيق، في إحالة إلى نظام الرعب الذي ترك ضحاياه في الشوارع لنشر الرعب والتخويف، ومع النظام الجديد أصبح هؤلاء الضحايا يطاردون جلاديهم، ويلعقون عقولهم بل ويبولون فيها.

بينما "يخرأ" على كلاب الذي أضاع مسدسه الإيطالي من ماركة "ألبيرتا"، يقوم بقراءة يوميات يوسف، الصحفي والكاتب الفاشل المهووس بالكاتب الأمريكي دايفيد فوستر والس
يتحرك الرياحي بين مجموعة من الحكايات كمُقتبس فيتيشي هوسه التخريب، لا يترك ما "يمتلكه" على حاله ويخزنه في الرواية كـ"حقيقة تاريخية"، بل يفككه ويلطخه بالدماء والبول ويقحم فيه الخيال ليكشف خباياه، هو مقتبس يبني جسداً روائياً أشبه بذاك الخاص بوحش الدكتور فرانكشتاين، الوحش الهجين الذي يتحرك خارج "نوع الرواية"

مقتبس فيتيشي هوسه التخريب

يتحرك الرياحي بين مجموعة من الحكايات كمقتبس فيتيشي هوسه التخريب، لا يترك ما "يمتلكه" على حاله ويخزنه في الرواية كـ"حقيقة تاريخية"، بل يفككه ويلطخه بالدماء والبول ويقحم فيه الخيال ليكشف خباياه، هو مقتبس يبني جسد روائياً أشبه بذاك الخاص بوحش الدكتور فرانكشتاين، الوحش الهجين الذي يتحرك خارج "نوع الرواية"، يكون/ يقتبس نفسه من تاريخ "الحكايات"، ثم يحاول التهامه، هو ينتقم من هذا التاريخ لكنه عاجز عن نفيه كلياً، وهنا يأتي سؤال الانتحار الذي ينخر في جسد يوسف،  فهو عاجز  عن أخذ هذه الخطوة، ويريد الكتابة/ الاقتباس فوجد نفسه في معركة مع شبح كاتب "حرّيف" ومُنتحر، وخنزير معلق في مطبخه وشريك سكن نذل، فيوسف يحاول أن يبرر انتحاره دوماً، يلقي بنفسه في القاع ويدلل جنون المخيلة لأجل قرار أبسط وأقل تعقيداً، فلا حاجة لتغليف الانتحار بالكتابة والمعاناة وخلق تبريرات للقفز من الشباك أو تعليق حبل من السقف، يكفي فقط، الرحيل.

يظهر ألبيرتا المسدس في الرواية كغرض عجائبي، أو طوطم من نوع ما، تتناقله الأيدي الملطخة بالوحل والبراز وتحيط به حكايات أسطورية، فضياعه أكسبه سحراً، هو أشبه بغول يطارد أحلام كل من يعرفونه، خصوصاً علي كلاب الذي يقطع لحمه أحياناً غيظاً وغضباً لأنه أضاعه، فالهوس بألبيرتا أشبه بألم الرأس المزمن، كلاهما، كما الرياحي، يسخران من الحكايات التي تحاك حول مصدرهما وجوهرهما، وهنا تظهر الكتابة، بوصفها أيضاً نوعاً من الهوس، لا مجرد اقتباسات من هيمنغواي ونيتشه ووالس نفسه، بل بحث مشابه للبحث عن ألبيرتا وألم مزمن لابد من ترويضه، أما الوقوف أمام الآلة الكاتبة ثم النحيب فليس وهماً رومنسياً للمبتدئين.

يلاحظ من يتابع أخبار الرياحي على وسائل التواصل الاجتماعي علاقته الشخصية بـ"ألبيرتا"، فالرياحي يختبر موضوعاته علناً ويبحث فيها ويتقمص شخصياته في حياته العلنية، إذ نرى صوره مع المسدس ومع الآلة الكاتبة طوال الفترة الماضية إلى جانب مقالاته عن دايفيد فوستر والس، وكأنه يؤسس لحكاياته لدى متابعيه قبل أن تدخل في مطبخ الرواية، حيث يقطعها وينهشها كما كان يفعل يوسف بالخنزير المعلق في مطبخه، الذي كان تابو من وجهة نظر يوسف وشريكه في السكن، لكنه كان يداري وحدة يوسف ويسد رمقه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image