بيد يتيمة وساق يتيمة، يصرّ محمد البدري (19 عاماً) على المشاركة في الاحتجاجات الشعبية العراقية. منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لا يترك ساحة التحرير، وسط العاصمة بغداد، قادماً من محافظة ذي قار، في أقصى جنوب العراق الغاضب بوجه النخب السياسية التي تحكم البلاد منذ 16 عاماً.
محمد الذي أصبح أحد ملهمي الاحتجاجات الشعبية وإحدى أيقوناتها، تخرّج من الكلية التقنية في جامعة ذي قار، ويشارك في حركة العراقيين السلمية ضد أحزاب السلطة، بعد أن كان قد خاض حرباً عسكرية ضد تنظيم داعش، فقد فيها ساقه وكفه. ترك بندقيته التي كان يستخدمها في الحرب كأحد عناصر الحشد الشعبي، وحمل عكازاً يتكئ عليه في ساحات الاحتجاج.
محمد أمام صورة للمصور الحربي أحمد المهنا الذي قتل في الاحتجاجات.
يقول البدري لرصيف22 إن "أحزاب الفساد أكلت الأخضر واليابس ونهبت قوت العراقيين وحريتهم وأمانهم، ولم تترك شيئاً إلا وسرقته". أمله بما يجري كبير. "الاحتجاجات انتصرت، وما هي إلا أيام قليلة وسيرجع العراق متألقاً"، برأيه.
يرفض محمد الحديث عن مطالب شخصية، ويؤكد أنه خرج للاحتجاج بسبب الإهمال الذي يتعرّض له العراقيون بصورة عامة، وأنه جاء ليطالب بحقوق زملائه الشهداء والجرحى بصورة خاصة والذين سقطوا في الحرب على تنظيم داعش.
ويضيف أن "الوضع الذي يعيشه العراقيون مأساوي لا يتحمله أي شخص. لقد وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع معها تحمّل طبقة سياسية تحمل جميع الأوصاف السيئة، فهي قاتلة وجائرة وظالمة، وهي سارقة كذلك، ولست الوحيد الذي تعرّض للظلم، بل العراقيون كلهم متساوون في الظلم من قبل السلطات".
فخور بفقدانه أطرافه من أجل الوطن
17 شباط/ فبراير 2017 هو تاريخ عالق في ذاكرة محمد. يسرد بصوت خافت اللحظات الأولى لإصابته التي كلفته فقدان طرفيه. كان يخوض إلى جانب القوات العراقية معركة ضد تنظيم داعش، ويسابق الزمن لـ"الظفر بوسام" حسبما يقول.
محمد يقبّل صورة أحمد المهنا.
يروي لرصيف22 أنه "خلال تحرير مدينة تلعفر في محافظة نينوى شمال العراق وإثر هجوم من قبل داعش، ركضت قليلاً ثم سقطت، ومنذ ذلك الوقت لم أستطع الركض بعدها، كانت المرة الأخيرة التي ركضتُ فيها. أصابني صاروخ، وفقدت قدمي وكفي".
وكان تنظيم داعش قد احتل مساحات شاسعة من العراق عام 2014، وبعد سنوات من القتال والتضحيات تمكن العراقيون من هزيمته واستعادوا كل المناطق المأهولة التي كان يسيطر عليها في أواخر عام 2017، ويحتفلون سنوياً بـ"يوم النصر" في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر.
محمد مرتدياً بزّته العسكرية بعد أيام من إصابته، ويخاطب النساء العراقيات بالقول: "حتى تنامن مستورات، الجف والساق انطيهم".
يصف محمد لحظات هزيمة داعش بـ"المفرحة"، ويقول إنه يفخر كثيراً بالمشاركة في الحرب ضده، وهو وسام بالنسبة إليه.
يتذكر زملاءه في الجامعة، فقد كانوا يمازحونه عندما كان يعود من جبهات القتال إلى مقاعد الدراسة، قائلين له: "أنت في الخطوط الخلفية ولا تتعرّض للإصابة". يبتسم قليلاً ويضيف: "كنت أخشى انتهاء الحرب على الإرهاب من دون أن يُطعن جسدي فداءً للوطن".
"يدي وساقي قدمتهما فداءً للعراق لكني حائر اليوم في تقديم ما هو أثمن للعراق"، يقول محمد، المقاتل السابق ضد داعش، ضمن قوات الحشد الشعبي، والمتظاهر الحالي، معلناً استعداده لتقديم قربان جديد من لحمه الحيّ للخلاص من ضغط ثقل نظام
في 17 شباط/ فبراير 2017 أصيب الشاب العراقي محمد بصاروخ أطلقه داعش وأفقده قدمه كفّه. اليوم تحوّل من مقاتل في الحشد الشعبي إلى محتج في ميدان التحرير ويقول: "أحزاب الفساد أكلت الأخضر واليابس ونهبت قوت العراقيين"
اليوم، يعبّر محمد عن فرحه بما يجري في ساحات الاحتجاج. يشارك في تحركات المحتجين متعاملاً مع إعاقته بشكل يلهم الآخرين.
الملهم بعيون المحتجين
قصة محمد ووجوده في ميادين الاحتجاجات ألهمت العراقيين. كثيرون من الموجودين في ساحة التحرير متأثرون به، ويصغون إلى ما يقوله، ويحتفون به ويتعاطفون معه أيضاً.
في ساحة التحرير، يلتف عراقيون من مختلف الانتماءات حوله للاستماع إلى أهازيجه الجنوبية التي ينشدها ابن الشمال وابن الوسط، في مشهد تلاحمي تجاوز جميع الانقسامات.
مازن علي، أحد المتظاهرين في ساحة التحرير يقول إن "محمداً أصبح مثالاً يقتدى به في ساحات الاحتجاجات، وهو يتمتع بروح التضحية من أجل توفير حياة كريمة للعراقيين. لقد تحوّل إلى شخصية ملهمة يقتدي بها الشباب في ساحة التحرير بتضحيته الكبيرة التي قدمها للوطن... وهو الآن مستعد للتضحية بأغلى ما يملك من أجل تحقيق مطالب العراقيين".
أما حيدر سلطان، وهو متظاهر آخر، فيقول إن "أهازيج محمد في ميادين الاحتجاجات أصبحت أناشيد تترد في مختلف المحافظات العراقية، وكذلك بغداد العاصمة، وهو يعطينا الدافع والقوة عندما نراه أمامنا".
متظاهرون يلتقطون الصور مع محمد في ساحة التحرير.
ويضيف: "إنه نموذج للشاب العراقي الذي خرج يطالب بحقه، وفي هذا رسالة للسياسيين. وبالنسبة إليّ، فإن محمداً يمثل مبدأ ورسالة، وهو قدّم أغلى ما عنده، ويجب على الجميع أن يتعلم منه كيف تكون التضحية من أجل الوطن".
رسالة تحمل بين ثناياها الإلهام
يقف محمد في ساحة التحرير، أيقونة الاحتجاجات العراقية، مع آلاف من المتظاهرين، على ناصية الحلم. يقاتلون حتى تحقيق مطالبهم.
"يدي وساقي قدمتهما فداءً لثلاث محافظات سقطت بيد داعش الإرهابي: نينوى وصلاح الدين والأنبار، لكني حائر اليوم في تقديم ما هو أثمن للعراق"، يقول المقاتل السابق والمتظاهر الحالي، معلناً استعداده لتقديم قربان جديد من لحمه الحيّ للخلاص من ضغط ثقل نظام يجثم على أحلام الفقراء فيجهضها، ويتعامل مع صرخات الاحتجاج بالرصاص، محاولاً خنق آمال التغيير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...