قبل 11 عاماً، كان محمد علام يحاول دخول قريته في محافظة المنوفية المصرية، ليلقي على جثمان والده النظرة الأخيرة، ولكن رفض إخوته لهويته الجندرية وقفت عائقاً بينه وبين مشاركته في المراسم.
وبعد وفاة والده بأشهر طويلة، قرر إخوته عدم توزيع الميراث، حتى لا يحصل الشاب على شيء. ولكن بعد ذلك بعامين، كتبوا ميراثه الشرعي باسمهم. "أختي عملت عقود باسمها، وعملت أوراق مضروبة وكتبت البيت ليها. وأنا عندي شهود على العقد وعلى إن الكلام دا محصلش". يروي علام لرصيف22.
حاول علام كثيراً الحصول على ميراثه، إما بإدخال أحد أقاربه، أو جيرانه، للتوسط مع إخوته، أو بتهديدهم برفع شكوى ضدهم، ولكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل والسبب كما قالوا له: "إنت كافر وبتعمل حاجات مش كويسة".
يعيش الشاب الثلاثيني انزعاجاً من هويته الجنسية، ولا يتقبل أهله حالته. وقبل وفاة والده، هرب من قريته للعلاج في مستشفى شبين الكوم التابعة لمحافظة المنوفية. وهناك تم تشخيص حالته وبدأت رحلته الطويلة مع العلاج.
عُرض على لجنة تصحيح الجنس في نقابة الأطباء في أواخر عام 2013 وبدايات عام 2014، وأخذ موافقتها على إجراء عملية تحويل الجنس على نفقة الدولة، وأيضاً كان له وافر الحظ في تغيير أوراقه الرسمية من أنثى إلى ذكر.
بعدما صار علام ذكراً في الأوراق الرسمية، عاد إلى قريته الصغيرة، حاملاً أوراقه الرسمية وتقرير لجنة تصحيح الجنس وفتوى من الأزهر الشريف بحالته لإقناع إخوته باسترداد ميراثه الشرعي. ولكن كان الرد عليه: "لا ميراث لك هنا... لا حظ أنثى ولا ذكر".
يروي لرصيف22: "ينظرون إلي كشاذ وكافر لأني غيّرت جنسي من أنثى إلى ذكر، ولا يستوعبون أن حالتي اسمها اضطراب الهوية الجنسية". حاول مقاضاة إخوته للحصول على حقه، ولكن النفقات المادية للمحامين حالت دون ذلك.
"هيضيّع الفلوس"
لجنة تصحيح الجنس التي عُرض عليها علام توقفت عن الاجتماع منذ سنوات طويلة، فما عاد أمام الراغبين في تصحيح جنسهم سوى الاتجاه إلى المستشفيات والعيادات الخاصة.
خالد (اسم مستعار) كان من هؤلاء، وكان موقفه أكثر سوءاً من موقف علام لأنه لم يستطع الحصول على فتوى رسمية تبيح له تصحيح جنسه. بدوره، قرر أهله حرمانه من الميراث لأنه في اعتقادهم "كافر وشاذ وهيضيع الفلوس".
في فتوى رسمية عن اضطراب الهوية الجنسية، قال مفتي الجمهورية السابق الشيخ علي جمعة: "لا يجوز إجراء العملية الجراحية التي تسمى تحويل الجنس أو تغييره أو تصحيحه إلا في حالة الخنثى الذي اجتمعت فيه أعضاء جسدية تخص الذكور والإناث كآلة التناسل مثلاً، كما يتضح أنه لا يجوز شرعاً الاعتماد في تحديد هوية (الخنثى المشكل) الجنسية على سلوكه وميوله إلا في حالتين: الأولى، عند العجز عن التحديد بناء على العلامات المادية المذكورة؛ والثانية، إذا لم يكن له ذكر رجل ولا فرج أنثى. وفي ما عدا هاتين الحالتين، لا يجوز إلحاقه بأي الجنسين بناء على ميوله القلبية أو ما يمكن أن يعبّر عنه اليوم بالإحساس الداخلي بأن روحه تنتمي إلى الجنس الآخر. هذا وإنّ فشل أطباء الغرب ومقلدوهم في الشرق في علاج مَن يسمونهم مرضى اضطراب الهوية الجنسية نفسيّاً لا يقتضي التسليم التام بأنه لا علاج لهم سوى العملية الجراحية".
"لا يرث كافر مسلماً"
اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام على أنه لا يرث المسلم كافراً، ولا الكافر مُسلماً، سواء بسبب القرابة أو الزوجية، وذلك لحديث الرسول: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"، وأيضاً: "لا يتوارث أهل ملتين شتى".
يستمد القانون المصري قوانينه من الشريعة الإسلامية، لذا منع الميراث بين المسلم وغير المسلم وفقاً للمادة 6 من قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 والتي تنص على أنه "لا توارث بين مسلم وغير مسلم ويتوارث غير المسلمين بعضهم من بعض واختلاف الدارين لا يمنع من الإرث بين المسلمين ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الأجنبية تمنع من توريث الأجنبي منها".
"هل العابرون جنسياً الذين لم يعرضوا على لجنة تصحيح الجنس وقاموا بعملية العبور الجنسي خرجوا عن الدين، وفقاً للشريعة الإسلامية، وعلى ذلك يجب حرمانهم من الميراث؟"، وجّه رصيف22 هذا السؤال لدار الإفتاء المصرية على موقعها الإلكتروني من خلال "طلب فتوى". وجاءت الإجابة بعد يومين بأن "الموضوع يحتاج إلى تحقيق ومناقشة، لذا تواصل معنا من خلال الهاتف لمعرفة تفاصيل أكثر".
على الهاتف، نفت دار الإفتاء أن يكون العابرون جنسياً كافرين، "فهم وإنْ كانوا قد ارتكبوا كبيرة من الكبائر، ليس معناه أنهم خرجوا عن الدين أو لا يرثون، ويرثون ميراثهم الشرعي".
يقول وكيل وزارة الأوقاف السابق الشيخ سالم عبد الجليل لرصيف22 "إن التحوّل الجنسي جريمة ومحرمة شرعاً ما دام الشخص يملك كل مقومات جنسه الذي خلق عليه".
ويُضيف: "أما مسألة تبرؤ الأسر من أبنائها الذين يقومون بهذه العملية ومنعهم من الميراث فليس شرعياً، لأنهم وإنْ كانوا مخطئين إلا أنهم لم يخرجوا من الملة ولم يحكم بكفرهم، وبالتالي لا يجوز حرمانهم من الميراث ويرِثون على الحالة التي هم عليها وقت وفاة الموروث".
حاول العابر جنسياً علام كثيراً الحصول على ميراثه، إما بإدخال أحد أقاربه، أو جيرانه، للتوسط مع إخوته، أو بتهديدهم برفع شكوى ضدهم، ولكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل والسبب كما قالوا له: "إنت كافر وبتعمل حاجات مش كويسة"
العابر جنسياً خالد لم يستطع الحصول على فتوى رسمية تبيح له تصحيح جنسه. وقرر أهله حرمانه من الميراث لأنه في اعتقادهم "كافر وشاذ وهيضيّع الفلوس"
يستنكر المحامي ومدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية رضا الدنبوكي اعتبار البعض أن التصحيح الجنسي جريمة أو كفر، لأنه مسألة طبية لا دخل للدين فيها.
ويضيف لرصيف22: "إنْ كانت جريمة أو كفراً، كيف أجازت دار الإفتاء المصرية العملية لعدد كبير من الحالات سابقاً قبل توقف عقد لجنة تصحيح الجنس؟".
ويؤكد أن المقصود بغير المسلم في المادة 6 من قوانين المواريث هو المرتد والكافر، والعابر جنسياً لم يخرج عن الدين في شيء، فهو يقوم بتغيير هويته الجندرية لأنه يعاني من اضطراب الهوية الجنسية، ولكن ديانته ثابتة لا تتغير، لذا يرث وفقاً لهويته الجديدة، بعد انتهاء أوراق عبوره الجنسي الرسمية".
ذكر بميراث "حظ أنثى"
استطاع أحمد (اسم مستعار) الهروب من قريته الصغيرة، قبل أن يُزَوَّج بالإكراه، وأجرى عملية عبور جنسي في مستشفى خاص، ولكنه حصل على ميراث أنثى على الرغم من تحويل أوراقه الرسمية من أنثى إلى ذكر، فإخوته لا يعترفون باضطراب الهوية الجنسية، ويعتقدون أنه قام بالعملية ليحصل على ميراث ذكر فقط.
عانى أحمد من اضطراب الهوية الجنسية منذ صغره مثله مثل علام وخالد، ولكنه لم يكن لديه الشجاعة للهروب من منزله في سن صغير كما علام. وبمجرد بلوغه الـ24، وبعد وفاة والدته، هرب بعد أن تم تشخيص حالته بالانزعاج الجندري.
توفي والد أحمد بعد إجرائه عملية العبور الجنسي. كان محظوظاً لأنه استطاع تغيير أوراقه الثبوتية من أثنى إلى ذكر خلال شهر فقط، ولكن رغم ذلك فإن إخوته لا يعترفون به ذكراً.
"إدوني ميراث أنثى. أنا مش زعلان عشان الميراث. أنا زعلان إنهم مش متقبلين هويتي الجديدة. محاولتش أقاضيهم لأنهم في الآخر إخواتي وأنا بحبهم"، يقول لرصيف22.
تقول المحامية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية هدى نصر الله لرصيف22 "إن إرث العابرين جنسياً جديد على القانون المصري، وحتى الآن لم يتم رفع قضية واحدة من العابرين جنسياً لأخذ إرثهم".
وتشير إلى أنه "لو حدث ذلك، فإن المحكمة المصرية ستبني حُكمها على الأوراق"، موضحة أنه "لو نجح العابر في تغيير جنسه في الأوراق الرسمية سينال إرثه بحسب جنسه الجديد"، لكنها تستدرك: "لا شيء مؤكداً، لأنه عملياً لا سوابق".
تعتبر نصر الله أن "أبرز مشاكل العابرين جنسياً في مصر تنحصر في عدم قدرتهم على تغيير أوراقهم الرسمية"، وتشرح "أن عملية تبديل الجنس في الهوية القانونية مرت بمراحل كثيرة في مصر. وفي وقت سابق، كانت الدولة المصرية غير مُعترفة أساساً بمرض اضطراب الهوية الجنسية، لذلك هناك حالات لا تستطيع تغيير أورقها الرسمية".
وفقاً للمحامية، فإن عدم تغيير الجنس في الأوراق الرسمية يؤثر على أمور كثيرة، فيمنع العابرون جنسياً من السفر والعمل والميراث الشرعي والزواج، إلخ، لأن شكلهم الخارجي مغاير تماماً لجنسهم في الأوراق الرسمية.
وتشير إلى أنه نظراً لتوقف لجنة تصحيح الجنس عن الانعقاد، فإن بعضهم لا يستطيعون إجراء العملية بسبب التكلفة المادية الكبيرة، ويحرمون من تغيير هويتهم القانونية.
"تنازل أو سنفضحك"
عاش محمد (اسم مستعار) في السعودية أكثر من 10 أعوام، وهناك ظهرت عليه أعراض اضطراب الهوية الجنسية، فكان دائم الرفض لارتداء العباءة واللعب مع الفتيات.
في سن الـ16، عاد إلى قريته الصغيرة في مصر، واستمرت أعراض اضطراب الهوية الجنسية في الظهور عليه: اعتاد لعب كرة القدم مع الشباب وارتداء الجينز وقص الشعر، وكان والده سعيداً بأن "ابنته الوحيدة" عنيفة. "كان مبسوط إن أنا عنيف ودا كان بيعوض إحساس إنو معندوش أولاد غيري" يروي لرصيف22.
بدأ حديث الأقارب والجيران يزيد على محمد، وتحوّل الهمس عن حالته إلى توجيه اتهامات ولوم إلى العائلة: "دي عندها 16 سنة. إزاي تسيبوها تبقى كدا؟".
حاولت الأم احتواء الموقف، وقررت إجبار "ابنتها" على ارتداء ثياب محتشمة غير مبالية بحالتها. "طول الوقت كنت حاسس إن في حاجة غلط. أنا مش فاهم في إيه. حاسس إني راجل. لدرجة إني حبيت أكثر من مرة بنت معايا في المدرسة، وارتبطت بيها. بس الكلام كان بيوصل لأهلي عشان كدا قرروا يجوزوني بالغصب لراجل معرفهوش"، يروي.
حاول محمد الهرب مرات عدة، ولكن محاولاته لم تنجح. زُوّج بقريبه، واستمر الزواج 10 أعوام، ونتج عنه طفلة واحدة. ولكن محمد عرف باضطراب الهوية الجنسية عن طريق محمد علام الذي ظهر في برنامج تلفزيوني مع المذيعة ريهام سعيد.
بعد رؤية محمد لعلام في البرنامج، تواصل معه على الفور وشرح له حالته، فساعده الأخير ووجهه إلى مستشفى الحسين الجامعي حيث حصل على تقرير بحالته تبيّن منه أنه "ذكر نفسياً، وأنه لا يعاني من أي مرض نفسي أو عضوي، وليس لديه أي ميول أو رغبات شاذة، بالإضافة إلى أنه نجح في معايشة دور الذكر بامتياز".
أجرى محمد عملية تصحيح الجنس في مستشفى خاص في القاهرة، وبعدما توفي والده، قام أعمامه باستقدام "بلطجية"، وأجبروه على التنازل عن ميراثه لأنه من وجهه نظرهم "شاذ وكافر والسبب في موت أبيه، وهددوه بأخذ ابنته منه وبفضحه في القرية.
أذعن محمد لهم خوفاً على والدته وابنته. حاول كثيراً الحصول على ميراثه ونصيبه من التركة ولكن أعمامه لم يتركوا له مجالاً، فهرب إلى القاهرة، ثم سافر إلى لبنان حيث يقيم الآن.
تقول زينب علي، الأخصائية النفسية المتخصصة في حالات العابرين جنسياً في مصر، لرصيف22 إن اضطراب الهوية الجنسية أطلقت عليه حديثاً تسمية الانزعاج الجندري، وهو حالة يشعر فيها الشخص بانزعاج من جنسه المفترض.
وتشير إلى أنهم يعانون من عدم تقبّل الآخرين لهم ومن اتهامهم بالفجور والكفر والشذوذ الجنسي من قبل المجتمع والأهل، ويضطرون للعيش في الحياة منقسمين: ففي حجراتهم الخاصة إذا سنحت لهم الفرص يعيشون بالصفة التي يريدونها ويرتدون ما يرتاحون له ومن وراء شاشات هواتفهم يتحدثون بالصيغة التي يبغونها ويطلقون على أنفسهم الأسماء التي يختارونها في سرية عن ذويهم وفي الحياة العامة يجاهدون للتكيف مع الجنس الخطأ الذي يمثل لهم زنازين.
ما العمل؟
يؤكد المحامي رضا الدنبوكي لرصيف22 أنه لا يوجد قانون في مصر يُنظم ميراث العابرين جنسياً، ولا أحد يعرف كيف ستتعامل المحكمة مع قضية من هذا النوع.
ولكن بشكل عام، وفقاً لتعديلات بعض أحكام القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث والمنشورة في الجريدة الرسمية في 30 ديسمبر 2017، فإن عقوبة الامتناع عمداً عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث، أو حجب سند الميراث أو الامتناع عن تسليمه بحال طلبه من أي من الورثة الشرعيين، هي الحبس 6 أشهر وغرامة من 20 إلى 100 ألف جنيه، أو إحدى العقوبيتين.
وعلى هذا الأساس، يمكن للعابر/ة اللجوء إلى المحكمة المختصة ومقاضاة الممتنع عن تسليم الميراث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...