تعتبرها "النهضة" مضمونة على نحو دفع رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى القول قبل ستة أشهر، أثناء زيارته محافظة مدنين، إن "الحركة ليست في حاجة إلى تنظيم حملة انتخابية في ولايات الجنوب". تصريح الغنوشي حول محافظات الجنوب أثار جدلاً واسعاً في صفوف التونسيين، باعتباره ثقة مفرطة في النفس، علماً أن الجنوب التونسي يضم سبع محافظات فقط من جملة أربع وعشرين.
والمحافظات السبع هي صفاقس وقابس ومدنين وتطاوين وقبلي وتوزر وقفصة، فيها مليونان و600 ألف نسمة من جملة 10 ملايين تونسي، في حين يشغل ممثلوها في البرلمان التونسي 53 مقعداً من أصل 217، أي ما يناهز ربع المقاعد.
برغم ما أثاره تصريح الغنوشي من جدل، تؤكد الأرقام ونتائج الانتخابات السابقة والجارية كلامه، فقد سجلت "النهضة" فوزاً ساحقاً في محافظات الجنوب على حساب بقية المرشحين، على غرار الأحزاب والائتلافات اليسارية.
فكيف يفسر جنوبيون دوافع انتخابهم للنهضة؟
يقول جمال العريض (40 عاماً)، وهو مهندس زراعي من منطقة بنقردان أقصى الجنوب التونسي، لرصيف22: "انتخبت النهضة لأنها أكثر حزب حققت الدولة خلال فترة حكمه أكبر نسبة نمو قاربت الأربعة في المئة، إضافة إلى كون النهضة تابعت المسار الديمقراطي عبر الحوار وبذلت جهداً في البرلمان".
"الحديث بات هذه الأيام فقط عن المثلية الجنسية وقوانين تخالف القرآن الكريم، كقانون المساواة في الميراث، وهو ما يهدد هويتنا كعرب ومسلمين، وحركة النهضة تتبنى أفكار التونسيين الأصليين".
ويضيف جمال: "يُعتبر الجنوب أكبر قاعدة انتخابية نظراً لكثرة القواعد التي تعرّض أغلبها للظلم في العهد النوفمبري ولاقتناع لدى الأغلبية بضرورة الحفاظ على الحريات، وليس هنالك أصدق من قياديي الحركة الذين لم تثبت ضدهم أية ملفات فساد إلى اليوم".
من جهتها، تقول سامية (50 عاماً)، وهي تعمل في الزراعة، لرصيف22: "نحن نختار من هم أقرب إلينا في الأفكار. الحديث بات هذه الأيام فقط عن المثلية الجنسية وقوانين تخالف القرآن الكريم، كقانون المساواة في الميراث، وهو ما يهدد هويتنا كعرب ومسلمين، وحركة النهضة تتبنى أفكار التونسيين الأصليين على عكس الأحزاب اليسارية".
رأي سامية يؤيده نور الدين (36 عاماً) المتحدر من منطقة بني خداش شمال محافظة مدنين في الجنوب الشرقي، وهو يعمل في التدريس، ويعتبر أن "حركة النهضة الأقرب إلى طبيعة المجتمع العربي المحافظ وهي كفيلة بالحفاظ على المبادئ التي تربينا عليها طوال سنين ويريد بعض الأطراف طمسها لغايات كثيرة وهي استعمار العقول".
من جهة ثانية، يذكّر التاجر سالم (60 عاماً) بمظلومية قيادات النهضة، ويقول لرصيف22:"انتخبت الحزب المحافظ الذي يعارض النظام البورقيبي منذ نشأته، ذاك النظام الاستبدادي الذي ولد الحقبة النوفمبرية الدكتاتورية. وأنتخب النهضة نكاية في أنصار الحزب الدستوري".
مظلومية النهضة وجدت كذلك تعاطفاً لدى غفران الغربي (19 عاماً) التي كانت تتحدث لرصيف22 وهي ترتدي قميص مرشح الحركة عبد الفتاح مورو. وتقول: "انتخبت حركة النهضة لأني أخاف على بلدي من الظلم وهم تعرضوا له ولا يمكن أن يمارس المرء شيئاً ذاق مرارته، إضافة إلى كونه حزب الثورة ولا صلة له بالنظام السابق".
يؤيدها في ذلك إيهاب الجربي (23 عاماً) وهو طالب جامعي في المعهد العالي لأصول الدين في جامعة الزيتونة، قائلاً: "اخترت حركة النهضة وقررت أن أعطيها صوتي لأنني أعي أهمية المرحلة المقبلة، مرحلة الإصلاح وبناء دولة قوية عادلة ومن أجل الحفاظ على المسار الديمقراطي ومكاسب الثورة".
ويؤيدها كذلك طارق طنقور (27 عاماً) الذي يعمل تقنياً في مجال الإعلام، إذ يقول لرصيف22: "انتخبت حزب حركة النهضة لأني أرى أنهم الأكثر صدقية، خاصة أنهم عذبوا وذاقوا الأمرين في الحقبة البورقيبية والنوفمبرية وأظن أنهم لن يعيدوا ما حدث لهم لخصومهم".
هذه التصريحات وغيرها تدفعنا للبحث عن مدى الارتباط الوثيق بين الجنوب التونسي والنهضة التي تحتل الصدارة فيه خلال كل المواعيد الانتخابية.
شعبية النهضة... بالأرقام
أظهرت المحطات الانتخابية التي شهدتها تونس منذ عام 2011 أن الجنوب التونسي كان الخزان الانتخابي للإسلاميين، إذ فازت النهضة بأغلب المقاعد البرلمانية المخصصة للدوائر الانتخابية في تلك المناطق.
وفي انتخابات 2011، فازت النهضة بـ89 مقعداً، وقد سجلت أعلى نسب تصويت في ولايات الجنوب بـ3 مقاعد من جملة 4 في محافظة تطاوين، أما في دائرة مدنين فقد حازت 5 مقاعد من جملة 9 و4 مقاعد من جملة 7 في دائرة قابس.
وحافظت النهضة على خزانها الانتخابي في الجنوب في الانتخابات التشريعية عام 2014، إذ تصدرت الترتيب في محافظة تطاوين بنسبة 65.4 في المئة من الأصوات وحصلت على 22770 صوتاً من جملة 34810 من الأصوات المصرح بها، كما فازت في محافظة مدنين بـ 86795 صوتاً من جملة 125007، وفي قابس فازت بـ58152 صوتاً.
وفازت النهضة بـ6 مقاعد من جملة 17 في جهة صفاقس في الانتخابات التشريعية لعام 2014 وفي محافظة قبلي بمقعدين من جملة 5 وفي توزر بمقعد من جملة 4 وفي قفصة بمقعدين من جملة 6.
وفي الانتخابات البلدية عام 2018، فازت النهضة بحصة الأسد في الجنوب، إذ حصدت 54 مقعداً من جملة 121 في محافظة تطاوين.
وفي بلدية بنقردان وبني خداش، من محافظة مدنين، فازت الحركة بـ30 مقعداً و17 مقعداً في بلدية غنوش في محافظة قابس و14 مقعداً في بلدية الحامة من المحافظة نفسها.
وفي الانتخابات الرئاسية 2019، فاز مورو بالمركز الأول في عدد من محافظات الجنوب على غرار قابس ومدنين، واحتل المركز الثاني في بقية المحافظات بعدما سبقه المرشح المحافظ قيس سعيد.
بين التاريخ والجغرافيا... قراءة في الأسباب
من الأسباب التي تجعل أغلبية ناخبي الجنوب التونسي يناصرون النهضة سبب يعود إلى زمن الخلاف اليوسفي البورقيبي، وذلك على قاعدة "عدو عدوي صديقي". الانتماء اليوسفي لعدد كبير من سكان الجنوب، جعلهم يتعاطفون مع الحركة التي سُجن عدد من قياداتها في عهد الزعيم بورقيبة.
الصراع اليوسفي البورقيبي
برزت اليوسفية حركة تحررية أثناء الفترة الاستعمارية بعد أن انشق زعيمها صالح بن يوسف -المتحدر من الجنوب التونسي - عن "الحزب الدستوري" الذي يترأسه الحبيب بورقيبة.
ونشبت معارك حامية بين أنصار الطرفين، أسفرت عن مقتل عدد من الأعضاء من الجانبين، وكادت المواجهة تتحوّل إلى حرب أهلية.
وفي 28 كانون الثاني/ يناير 1956، قررت الحكومة التونسية القبض على بن يوسف وبعض أتباع حركته، لكنه تمكن من اجتياز الحدود التونسية الليبية خفية والالتجاء إلى مصر حيث استمر في معارضة الاتفاقيات التونسية الفرنسية ومناهضة الديوان السياسي من هناك.
واصل أتباع الحركة اليوسفية أعمال الشغب في تونس برغم إجراءات الردع المتخذة ضدهم، بينما فشلت جميع محاولات المصالحة بين بورقيبة وبن يوسف، وكانت المحاولة الأخيرة مقابلة جرت بين الرجلين في جنيف قبل بضعة أسابيع من اغتيال بن يوسف في مدينة فرنكفورت في ألمانيا يوم 12 آب/ أغسطس عام 1961.
"احميني وأنتخبك"
في سياق متصل، يُعدد المختص في علم الاجتماع فؤاد غربالي لرصيف22 أسباب الشعبية الواسعة للنهضة في الجنوب التونسي، منها الانتماء القبلي لقيادات الحركة، وصراع سكان الجنوب الدائم مع الأنظمة الحاكمة منذ الاستقلال، وإحساسهم بظلم المركزية فضلاً عن طبيعة المجتمع المحافظ وارتباط الحركة بالمهربين في الحدود الجنوبية بمبدأ "احميني وأنتخبك".
تعتبرها "النهضة" مضمونة على نحو دفع الغنوشي إلى القول قبل ستة أشهر إن "الحركة ليست في حاجة إلى تنظيم حملة انتخابية في الجنوب"... بين التاريخ والجغرافيا، قراءة في أسباب شعبية الحركة في محافظات الجنوب
من الأسباب التي تجعل أغلبية ناخبي الجنوب التونسي يناصرون "النهضة" سبب يعود إلى زمن الخلاف اليوسفي البورقيبي. الانتماء اليوسفي لعدد كبير من سكان الجنوب، جعلهم يتعاطفون مع الحركة التي سُجن عدد من قياداتها في عهد بورقيبة
بدوره، يشكك القيادي في حزب "تيار المحبة" المعارض سعيد الخرشوفي بالشعبية الكاسحة للنهضة، ويقول لرصيف22 :"صحيح أن الجنوب انتصر سابقاً للحركة لأنها اشتركت معه في مسألة اضطهاد السيستم (النظام السابق) الذي حكم تونس، وكذلك نظراً لطبيعة أهل الجنوب المحافظة، لكنها بدأت تفقد بمرور الوقت صدقيتها شيئاً فشيئاً وذلك بسبب تقلب مواقفها ومهادنتها للنظام ثم فشلها المتواصل في الحكم".
ويضيف الخرشوفي: "هذان الأمران قللا من شعبيتها في الجنوب وفقدت الكثير من رصيدها، ولكن في كل الأحوال ستحافظ على بعض الأسبقية هناك مقارنة ببقية المناطق".
قيادات النهضة والهوية الإسلامية
في معادلة شعبية النهضة في الجنوب تحضر عوامل الجغرافيا والانتماء، لا سيما عندما يتعلق الأمر بزعيمها (راشد الغنوشي) المتحدر من مدينة الحامة في الجنوب التونسي، بالإضافة إلى عدد من القيادات على غرار علي العريض وعامر العريض من مدنين، وحبيب خذر من الحامة، والمرحوم محمد الصغير من تطاوين وغيرهم.
وهو ما يؤكده القيادي البارز في حركة النهضة علي العريض لرصيف22، قائلاً: "ربما من الأسباب التي جعلت النهضة تتصدر النتائج في الجنوب هو أن أكبر قيادييها من المنطقة على غرار الغنوشي".
ويضيف العريض: "من الأسباب أيضاً انتشار التيار الطلابي بكثافة في تلك الربوع في بدايات تأسيس الحزب، كما أن للاستعمار دوراً مهماً في خلق صورة تمرد لدى سكان الجنوب الذي كان تحت حكم استعمار عسكري حديدي، إضافة إلى شعور سكان المناطق الداخلية بصفة عامة بالتمييز السلبي بين الجهات حتى بعد نشوء دولة الاستقلال، خاصةً على مستوى التنمية والرعاية الاجتماعية ".
"يتميز سكان الجنوب التونسي بالطابع المحافظ ويعتبرون صعود حركة النهضة إلى الحكم في كل مرة هو الضامن لاستمرار الدفاع عن الهوية الإسلامية العربية"
ويتميز سكان الجنوب التونسي بالطابع المحافظ ويعتبرون صعود حركة النهضة إلى الحكم في كل مرة هو الضامن لاستمرار الدفاع عن الهوية الإسلامية العربية، حسب ما يشرح الصحافي حليم الجريري لرصيف22.
ويقول الحريري: "سبب ارتباط الجنوب بالنهضة واضح جداً، فالحركة محافظة وفيها تمثلات للمحافظة التي ترتكز عليها طرائق عيش أهل الجنوب".
ويتابع: "تجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من أبناء الجنوب كانوا مناضلين أيام الاستبداد في عهود البورقيبية و النوفمبرية، وقدموا الشهداء الذين قارعوا الظلم ومنهم أيضاً الأحياء الذين سُجنوا وعُذّبوا، إضافة إلى أن أغلب المنتمين لهذه الحركة جنوبيون، ولأن جل الذين ناضلوا في صلبها هم أهل الجنوب".
يبدو أن تصريح الغنوشي لم يأت من فراغ، فالخزان الانتخابي للحركة في مناطق الجنوب مضمون حتى موعد الانتخابات الأخيرة وصعود المرشح قيس سعيد المحافظ شبه مضمون هناك في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...