شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"عاد الشيخ ليُطلعني على محادثات بيني وبين حبيبي السابق... وبدأت حفلة التعذيب والشتائم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 19 يوليو 201906:01 م

اسمي أحمد عمار، أو هكذا بت أُعرّف عن نفسي عندما تركت البلاد منذ عام ونصف وأنا في السابعة والعشرين من عمري، متوجهاً إلى تونس، بعدما تعرضت للحبس والتعذيب من قبل الميليشيا الليبية المعروفة بـ"قوات الردع الخاصة" والتي أفضّل تسميتها بـ"قوات الرعب الخاصة". وكيف لا تكون كذلك بعدما قبضت عليّ لتجد على هاتفي محادثة جماعية ورد فيها اسم خليفة حفتر، وأنني مثلي الجنس؟

كان الوقت شتاء، وكنت أقود سيارتي حين اتصل بي فجأة أحد أصدقائي المثليين القدامى. حينذاك كان بيننا قطيعة بسبب مشكلة سابقة، لكن عندما قال لي إنه عازم على السفر وطلب أن يراني للمرة الأخيرة وافقت على لقائه.

توجهت نحو منزله في منطقة صلاح الدين ومن هناك ذهبنا إلى زاوية الدهماني لنأكل في "مطعم الضيافة". بعد ذلك، جلسنا في سيارتي المركونة في موقف سيارات الإذاعة نستمع للأغاني، لتركن بعد قليل بجانبنا "تويوتا" بيضاء خرج منها شخصان مسلحان يرتديان الزي المدني.

نظر أحدهما إلى هاتفي معلقاً على الأغاني باشمئزاز وقد عرّف عن نفسه بالـ"أفندي"، أي القائد، ثم طلب مني الخروج من السيارة بحجة التفتيش، مصراً على أن أسلم إليه الهاتف. ولأنه يحمل سلاحاً لم أستطع مقاومته. أول ما عثر عليه في هاتفي محادثة جماعية تحمل اسم "كلنا مع حفتر" كان قد أنشأها أحد أصدقائي من بنغازي على سبيل المزاح.

جاهدت من أجل إفهامه أن القصة لا تتعدى السخرية، لكنه قرر أن يصمّ أذنيه عن كلامي وقال: "صرت تحب حفتر! بنرفعك للردع".

أمسك جهازه اللاسلكي وبلّغ الغرفة الأمنية. هنا شعرت بخوف شديد وصرت أرجوه كي يتركني، مكرراً أن كل هذا سوء فهم، لكنه لم يصغ بل كان يزداد عنفاً. جرّني إلى سيارتي مجدداً وصعد إلى جانبي، طالباً مني أن أتبع السيارة الأمنية التي وُضع فيها صديقي.

حينذاك انتبهت إلى أن هاتفي يحتوي على محادثات مع أصدقائي المثليين وصوراً لي ولمن كنت أواعدهم، فانتابني هلع شديد وعدت مجدداً للتوسل إلى ذلك "الأفندي" محاولاً استعطافه. لم أذكر شيئاً عن تلك المحادثات بطبيعة الحال، لكنني قلت إن عائلتي محافظة ولن تتقبّل ما يوجد في هاتفي، ثم حاولت رشوته بالمال ليدعني أمسك هاتفي لبعض الوقت.

ربما أغراه العرض فوافق على تسليم الهاتف إلي، لكن بشرط أن آخذ هاتف صديقي أيضاً وأمسح ما قد يسبب له مشكلة عند إيجاده، أو ربما كانت خطة منه للإيقاع بصديقي كذلك. نزلت من السيارة وحاولت التحدث مع صديقي لكنه رفض تماماً التعاون معهم. إذ ذاك ضربني الأفندي على مؤخرة عنقي وجرني إلى السيارة من جديد.

كان الوقت يمضي ببطء شديد، بل كانت أطول رحلة في حياتي وكأن الطريق تمتد إلى ما لا نهاية.

وصلنا إلى مقر "قوات الردع"* وكان بجانب مطار طرابلس. ركنا السيارة واقتاداني إلى الداخل. لم أدر أن هذا المقر شاسع ومليء بالغرف المظلمة، بينما كنا نقف في الممر أثناء تفتيش هاتفينا.

دخل رجل ملتح يُدعى الشيخ عبد الرحمن، وقد عرفت اسمه لاحقاً من أحد الموقوفين السابقين بعد أن وصفته له، فلن أنسى شكله أبداً. كان الشيخ ممسكاً بهاتفينا في يده، حين أخذني إلى غرفة مخيفة ومظلمة وتعبق برائحة البول.

أُقفل الباب الحديدي عليّ وأنا في حالة رعب مما سيحدث بعد ذلك. مرّت ساعة تقريباً، عندما عاد الشيخ حاملًا هاتفي ليطلعني على محادثات بيني وبين حبيبي السابق وفيها "أفتقدك، أريد أن أراك، أحبك". كانت هذه الكلمات فاحشة وكنت مجرماً في نظره. أنكرت كل ما أراني إياه كأنه جرم عظيم.

لم يصدقني بطبيعة الحال، وأمسك في يده الأخرى عصا سوداء بدأ يضربني بها. كنت أجري وكان يضرب رأسي بعصاه ويقول "كم فعلوها فيك مرة؟!" وأرد "ولا مرة!"، ثم يعيد قوله "كم فعلوها فيك مرة؟!" وأعيد قولي "ولا مرة!".


"تعرضت للحبس والتعذيب من قبل الميليشيا الليبية المعروفة بـ"قوات الردع الخاصة" والتي أفضّل تسميتها "قوات الرعب الخاصة". وكيف لا تكون كذلك بعدما قبضت عليّ لتجد على هاتفي محادثة جماعية ورد فيها اسم خليفة حفتر، وأنني مثلي الجنس؟"

أحسست بألم شديد وحاولت حماية وجهي بيدي حتى دميتا. " أنا تبت! أنا تبت!" هذا ما كنت أردده، لكنه استمر بضربي على ظهري ومؤخرة رأسي.

ضربني حتى فقدت الوعي.

بعدما أفقت، ظهر مجدداً ذاك الذي يسمي نفسه شيخاً. عاد حاملاً عصاه ومعه أحد أعوانه، رجل يدعى عبود قال لي "تعال جبتلك هدية". أدخلا معهما صديقي الذي لم أكن أعلم عنه شيئاً حتى ذلك الوقت، لم تكن عليه آثار الضرب مثلي، شعرت بالسعادة ظاناً أنهما سيتركانه يذهب في حال سبيله.

لم يكن ذلك غرضهما. كان في الغرفة شباك دائري، علقا صديقي عليه بالمقلوب وانهالا عليه بالضرب.

كانت أول مرة أرى أحداً يُعذّب أمامي.

بعد الانتهاء من تعذيب صديقي عادا إلي، بدأ الشيخ بضربي على وجهي بحذائه العسكري مجبراً إياي على عدّ ضربات العصا حتى وصلت إلى 102، وكان هذا ما استطعت عدّه إذ أغمي علي مرة أخرى.

استفقت مجدداً عند الفجر، لم أعرف كم من الوقت بقيت نائماً. دخل أحد العناصر ممسكاً بهاتفي وكانت أمي تتصل بي، وهي مسجلة باسم "عمري"، وبدأ يصيح: "طلعت حتى متع قحاب!". أخبرته أنها أمي! كانت أمي تبكي بحرقة وتسأل: "أين ابني؟".

لاحقاً، أخرجوني إلى الممر، وهناك رأيت صديقي بجانب والده. "معاش تخلي ولدك يتبع الأشكال هادي" (لا تدع ابنك يعاشر هذه الأشكال بعد الآن)، هذا ما قاله العنصر لوالد صديقي، وأنا لم أستوعب حتى الآن كيف استطاع أن يقف الصديق أمامي هكذا وينكرني تماماً.

ذهبوا بي إلى غرفة أخرى وأعطوني بعض الماء. أحضروا لي بعض الطعام الذي لم أستطع أكله نتيجة التورم في وجهي وفمي.

آسف فقد ضاعت بعض الأحداث وانطوت في ذاكرتي وما عدت أستطيع استرجاعها الآن بسهولة.

"استأنف الشيخ هوايته واستمر بضرب وجهي بحذائه، ولا تزال آثار الضرب حتى الآن..."... قصة احتجاز أحمد عمار ، الشاب المثلي، وتعذيبه على يد "قوات الردع الخاصة" المعروفة بتشددها والتابعة لـ"حكومة الوفاق الوطني" الليبية 

كنت في عداد الأموات، هذا ما قالوه لي. حاولت أن أرحم نفسي بقتلها ولكن لم أجد سبيلًا لذلك. تمنيت لو لم أكن مختلفاً، لو لم أولد هكذا، مثلياً! خفت من الفضيحة ومن ردة فعل عائلتي. لم أكن عارفاً ماذا سيجري لي وماذا سأفعل.

عندما أفقت في اليوم التالي، استأنف الشيخ هوايته واستمر بضرب وجهي بحذائه، ولا تزال آثار الضرب حتى الآن، كما أنهم كسروا إصبعي التي لا أستطيع تحريكها إلى اليوم.

أمرني الشيخ بالمشي في الغرفة، لم أستطع الحركة ولكنه كان يصيح بي مهدداً. استسلمت بعد خطوتين واتكأت على ركبتي راجياً، ثم انهال على مؤخرتي وظهري بالضرب حتى أغمي علي.

نمت عميقاً كأن حواسي كلها توقفت عن العمل. نكزني أحد العناصر لأستفيق بعدما جلب الطعام إلي، لم أستطع الأكل ولكنه أرغمني، أكلت وبكيت ثم نمت مجدداً.

دخل علي ثلاثة لم أكن قد رأيتهم من قبل. بدأ أحدهم بضربي بحذائه وبأخمص سلاحه قائلًا: "يا بغل! يا بوفتة ("شاذ")! ما أكثركم، كثرتوا يا بوفتات!" وكان صديقاه في حالة هستيرية من الضحك، يستمتعان بكل لحظة من العرض

في الليلة ذاتها، دخل علي ثلاثة لم أكن قد رأيتهم من قبل. بدأ أحدهم بضربي بحذائه وبأخمص سلاحه قائلاً: "يا بغل! يا بوفتة ("شاذ" بالعاميّة في ليبيا)! ما أكثركم، كثرتوا يا بوفتات!" وكان صديقاه في حالة هستيرية من الضحك، يستمتعان بكل لحظة من العرض.

فجر اليوم التالي دخل علي أحدهم قائلًا إنني سأخرج الآن ووالدي ينتظرني في الخارج.

شعرت بالسعادة لفكرة خروجي من الجحيم مصحوبة ببعض الخوف من ردة فعل والدي. "قبل ما تطلع بتشرفنا في مكان تاني" خفتت السعادة ولم أدر ماذا سيحدث الآن. أخذني إلى غرفة أخرى فيها ثمانية عناصر قاموا بضربي وإهانتي والتحرش بي.

"بوفتة! بوفتة!"، ثبتوني على ركبتي في حمام قذر لم أزل أذكر لونيه الأبيض والأزرق وقاموا بحلق شعري. كان رأسي متورماً وكنت في حالة يرثى لها.

حملوني بعدها إلى والدي الذي صُدم بمظهري وبالكاد تعرف علي. أجهشت بالبكاء. اصطحبني بالسيارة وبدأت يومها الرحلة التي ستغير علاقتي بوالدي.

تحدثنا حول التهم الموجهة لي ولم أدرك أنهم لم يخبروه شيئاً عما اكتشفوه عن ميولي وطبيعتي. عندما وصلنا منطقة 11 يونيو ذكرت الموضوع، أوقف والدي سيارته مصدوماً والتفت لي، بصق في وجهي وقال: "حشمتني! كنت حاس بيك هكي يا بوفتة! بنرفعك للردع يقتلوك قدامي!".

التف بالسيارة ليعود أدراجه للمقر، لم أكن أعي ما يقول تماماً، صار كل ما أسمعه طنيناً مزعجاً يفصلني عن الواقع. بكل ما أوتيت من قوة فتحت باب السيارة المتحركة وقفزت للخارج، وركضت! وظللت أركض ووالدي يصيح خلفي "أحمد! أحمد!"، حتى وجدت مكانًا للاختباء.

كنت وحيدًا وجائعاً، وبالكاد أستطيع الحراك. ساعدني أحد القاطنين في تلك الجهة وأوصلني إلى أحد أصدقائي الذي وفر لي العناية الصحية حتى استطعت التعافي من جديد.

لا أدري في أي نقطة بالضبط قررت أنني لن أندم أبداً على كل ما فعلت، ولن أخجل من كوني مثلياً وسأقاوم لأجلي ولأجل الآخرين.

كتبت هذه المقابلة رتاج إبراهيم بناء على مقابلة أجرتها مع أحمد عمار (اسم مستعار).


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image