سنموت بالتأكيد.. وسيتلقى أهالينا أو أصدقاؤنا فينا التعازي، كذكرى أخيرة لنا بين الناس، هذا إن سمحتْ لهم بالطبع إدارة مسجد ما بإقامة هذا الطقس الوداعي، ففي بعض الأحيان يحدث في الواقع المؤلم ما يعوق تقبّل عزائك في جامع لأنه لا دليل أمام شيخ هذا الجامع على إسلامك، ولا وثيقة تؤكد له إيمانك العميق بالآخرة... هذه التهويمات الكلامية ليست افتراضات جدلية، بل جزء مما فعله الواقع الباهر بهاني شكر الله، الصحفي المصري البارز، الذي وافته المنية منذ أيام قليلة، ورفضت إدارة مسجد عمر مكرم إقامة عزائه بحُجة أنه "مسيحي" ولا يصح تقبّل العزاء فيه هنا.
بعض الأحيان يحدث في الواقع المؤلم ما يعوق تقبّل عزائك في جامع لأنه لا دليل أمام شيخ هذا الجامع على إسلامك
إدارة المسجد أبلغت عائلة "شكر الله" أن جهة سيادية وراء قرار منع إقامة العزاء، الذي تحدد له الخميس 9 أيار/ مايو الماضي، قبل أن تتراجع، بعد انتشار الرائحة، وتؤكد أن العزاء سيكون في موعده، لكن الموقف الشائك والمُحرج لسيرة كاتب مهم ومناضل يساري أهم يجعلنا نفكر فيما يمكن أن يفعله هاني شكر الله، أو أي هاني شكر الله آخر، ليثبت إسلامه، ومن ثمَّ يطالب بحقه في عزاء بمكان "مُسلم"؟
هل يمكنك أن تأمن غدر الواقع إنْ أردتَ أن يدفنوك بأرض مصر؟ - قد تحتاج بالتأكيد إلى ما يُثبت مصريتك، عليك أن ترتب نفسك لهذه اللحظة المضحكة المبكية.. ولا أملك نصائح فعالة هنا للخروج من مأساة مصيرك..
إن الإجراءات الواجب اتباعها مع واقع ضارب في عُمق العبث كهذا، لا يمكننا التوصل إليها إلا باتخاذ الهرطقة دينًا – والهرطقة ليست بعيدة إلى حد كبير عن مصطلح الهرتلة- وأول هذه الإجراءات أن نتحول جميعًا إلى شخصيات في مسرح اللا معقول، كأن نطلب مثلا من هاني شكر الله، الذي ودّعنا إلى حياة أكثر استقرارًا، أن يعود إلى حياتنا تلك، ولو لدقائق، ليُلقي الشهادتين أمام إدارة مسجد عمر مكرم، وبذلك ينتهي الأمر ويجلس أصدقاؤه ليعزوا أنفسهم في فقْده، أو، إنْ تعذّرت عودة "هاني" للحياة، وهذا شيء قد يكون غير مقنع لإدارة المسجد العتيق، فعلى أهله أن يكتبوا تعهدًا بأن الراحل كان مسلمًا، بشرط أن يوقع على التعهد 3 موظفين بدرجة وكيل وزارة.
على كل حال.. فالواقع يقول إن أفرادًا من عائلة الصحفي والمحلل السياسي الكبير الراحل أرسلوا بطاقة تثبت أنه أسلم منذ أكثر من عشرين عامًا، وذلك قبل أن يطلبوا المساعدة من أي شخص يمكنه فعل أي شيء حيال القرار السيادي الغريب عبر منشور على موقع فيسبوك.
كل هذا التاريخ لم يحفظ لهاني شكرالله أدنى درجات الحماية ليُعامل كإنسان طبيعي.. له الحق أن يعيش كما أن له حقا في توديعه الوداع اللائق.
نحن هنا لا نتحدث عن حق مواطنة.. بل عن حق الدفن الكريم وإكمال آخر طقوس للمواطن كما أراد أو كما اعتاد أهالينا.. فالكلاب والقطط ربما تنعم بقدر من الكرامة والإنسانية في دفنها وفي أن يودعها صديق بشكل يفوق مشروعية المواطن المصري في حق كهذا في بلد اسمه مصر.
"شكر الله"، المولود في القاهرة عام 1950، انتمى للفكر اليساري في شبابه، وشارك في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 1985، وعُين رئيساً لتحرير "الأهرام ويكلي"، وفي عام 2010 أسس موقع "الأهرام أون لاين"، التابع لمؤسسة الأهرام الحكومية، باللغة الإنجليزية، وترأس تحريره حتى 2013 عندما أُجبر على الاستقالة حسبما أعلن لاحقاً، وكانت آخر تجاربه الصحفية تأسيس موقع "بالأحمر"، ذي التوجه اليساري الصريح.
كان لـ"شكر الله" مواقف ثابتة معارضة للسلطوية ومناضلة من أجل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحرية الإعلام والتنظيم والعمل السياسي، وعبّر عن هذه الأفكار في مقالاته بـ"الأهرام" و"الشروق" و"جارديان" و"فورين بوليسي" و"الدراسات الفلسطينية" وغيرها من الصحف.
كل هذا التاريخ لم يحفظ للرجل أدنى درجات الحماية ليُعامل كإنسان طبيعي.. له الحق أن يعيش كما أن له حقا في توديعه الوداع اللائق..
كأن نطلب مثلا من هاني شكر الله، أن يعود إلى حياتنا، ولو لدقائق، ليُلقي الشهادتين أمام إدارة مسجد عمر مكرم، وبذلك ينتهي الأمر ويجلس أصدقاؤه ليعزوا أنفسهم في فقْده.
إدارة المسجد أبلغت عائلة "شكر الله" أن جهة سيادية وراء قرار منع إقامة العزاء، الذي تحدد له الخميس 9 مايو الماضي، قبل أن تتراجع، بعد انتشار الرائحة، وتؤكد أن العزاء سيكون في موعده.
محاولات ركيكة للإيحاء بأننا مجتمع تميزه خصوصية نسيج لا تجدها في مشارق الأرض ومغاربها، مع أن الجميع يعلم أن هذه الأخبار ما هي إلا تجميل لجسد قبيح وإخفاء عيوب لواقع متهتك.
ولا تزال الكلمات تتناثر في الصحف والمواقع والقنوات عما يسمونه "روح الوحدة الوطنية".. هنا خبر عن مسيحي يحتفل برمضان بالفانوس، وهذا مسلم يرمم كنيسة.. يا سلام على الوحدة! وذاك مسيحي يتكفل بعُمرة رمضان لجارته التي ربّته.. محاولات ركيكة للإيحاء بأننا مجتمع متدين تدينًا وسطيًّا جميلاً أساسه المواطنة، مجتمع تميزه خصوصية نسيج لا تجدها في مشارق الأرض ومغاربها، مع أن الجميع يعلم أن هذه الأخبار وما ينحو نحوها في كل وسائل الإعلام ما هي إلا تجميل لجسد قبيح وإخفاء عيوب لواقع متهتك وذلك عبر إكثار الكلام عن الفتن والمخربين الذي ينالون من وحدتنا البديعة.
الكاتب الصحفي الراحل هاني شكر الله.. يمكنك الآن أن تستريح.. تم عزاؤك رغم أنفهم.. وسواء كُنتَ ميتًا على إسلام أو على مسيحية، فأنا - ككاتب مسلم محافظ- أطلب لك الرحمة مع أن هذا سيعرضني لهجوم المسعورين من تجار الدين وأعداء الإنسانية.. لترقد روحك بسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...