عيد ميلادي الـ35.
كان اليوم قد شارف الانتهاء، وكنت أغسل وجهي بعد ساعات من التدريس. نظرت في المرآة، وجدته متعباً.
خطوط رجل الغراب عند طرف العين بدت أكثر بروزاً. بشرتي جافة. رموشي، يا إلهي، هي أقل مما أذكر. لا يمكنني الخروج بلا مسكارا بعد اليوم.
عيناي متعبتان. لم أنم البارحة كما يجب؟ لا أعلم، لكن لم يعد من اللائق أن أتجاهل "الكونسيلر" كثيراً بعد اليوم.
حدود المثلث الذي يبدأ من أسفل الأنف وتنتهي قاعدته عند الذقن أكثر وضوحاً مما أذكر، وشفتاي أرق مما أعرف.
***
في صغري، كنت أرتدي الملابس الجديدة مباشرة بعد شرائها. قد أرتديها وأنا ذاهبة إلى السوبرماركت أو الدكان مثلاً. تكون ردة فعل أمي دائماً: "حرام رح تنزعي تيابك الجداد".
لم يكن ذلك ليثنيني. الخوف من اتساخ ملابسي الجديدة ليس بحجم حماسي وفرحتي بها وإلحاح الرغبة باستخدامها حالاً.
منذ طفولتي، يشتكي من يعرفني بأني لا أعتني بأشيائي الجديدة كما ينبغي. أستخدمها مباشرة ولا أعيدها إلى عُلبها. تتسخ، تتعب وتشيخ بسرعة. وحينما يأتي وقت التخلص منها، تكون منهكة، وأثر الاستخدام عليها واضحاً.
أنا "أهري" أشيائي.
تواسيني أمي دائماً بقولها: "يلا معليش، المهم تهريها بالعافية".
عربتي متعبة أيضاً، عليها خدوش وندبات كثيرة.
تشتهر (بين زوجي وأصدقائي وعائلتي) بأثر جلف عند الباب الخلفي من جهة اليمين عمره أكثر من عام. أرفض تصليحه لأني أعلم أنه سيعود كلما حاولت ركن عربتي في مكان ضيق.
لا أفهم من يمتنع عن تناول الطعام في عربته. كيف لا آكل بها إذا جعت أو إذا اشتريت سندويشة شاورما ساخنة؟ كيف أترك مقاعدها مغلفة بأكياس بلاستيكية؟
لا يمنعي شيء من الاحتكاك الدائم بها والتعارك مع طرقات البلد من خلالها.
وأرفض تغليف الكنبات في غرفة المعيشة بغطاء. كيف للخوف على أشياء أن يمنعني أنا وزوجي صدقي من وضع صينية عليها لبنة وبندورة وزيتون وخبز فيما نجلس على الكنبة لنشاهد الأخبار مساءً؟
أو النوم عليها تحت غطاء الصوف الأحمر حينما نشاهد فيلماً مملاً؟
كيف لا نعيش في غرفة المعيشة؟ وما معنى أن نحافظ على الشيء ليبقى "كأنه جديد"؟
الأشياء إما جديدة أو مستخدمة. وإذا استخدمتها فأريد أن أُتعبها حتى تهترئ.
ننعجن أنا وأشيائي.
"كما تقول ماما حينما ترى أشيائي المتعبة، قلت لنفسي في عيد ميلادي الـ35: "إنشالله إهريني بالعافية"
الأشياء إما جديدة أو مستخدمة. وإذا استخدمتها فأريد أن أُتعبها حتى تهترئ
أترك ملاحظاتي على كتابي، أسطر تحت الكلمات التي تحركني، أستخدم أقلاماً ملونة للتعبير عن انفعالات مختلفة. آخذ الكتاب إلى البحر فتترطب أطرافه. وعندما أنتهي منه يظهر أثر القراءة، والعراك، واضحاً.
حينما سكنت عند جدتي عايدة في بيروت كانت تتذمر من الآثار التي أتركها خلفي أينما ذهبت. دفتر هنا، ملقط هناك، قلم في المطبخ. أشياء في غير مكانها. تضحك وتقول لي إن السكان في أيام الحرب اللبنانية كانوا يقولون حينما يرون خراباً "المرابطون مروا من هنا".
"أنت مثل المرابطين"، تضيف تيتا دائماً.
***
علاقتي ببشرتي مختلفة. أعتني بها كثيراً وأخشى عليها من الجفاف والتجاعيد والخطوط والاحمرار والاصفرار والبهتان والترهل ومن قائمة مشاكل لا تنتهي قد تصيبها.
جربت العسل واللبن والخيار والطماطم وكل الوصفات التي كنت أجدها في مجلة سيدتي وفي الثلاجة حينما كنت في المدرسة. وعندما بدأت العمل صرت أشتري المستحضرات الخاصة.
لدي روتين تنظيف وتقشير وتغذية وعناية وحماية يومي. وكأن هذه البشرة ليست لتلك التي لا تعتني بأشيائها.
***
وضعت كريماتي كلها في شنطة يدي وأنا أتجه في رحلة من اسطنبول إلى الريحانية. وعند التفتيش أوقفتني مسؤولة الأمن وطلبت مني التخلص من كل السوائل والكريمات.
كارثة.
لا نفهم لغات بعضنا البعض. حاولت أن أخبرها بأنها ضرورية وأني سأمضي ثلاثة أسابيع في المدينة وستنهار بشرتي بدونها. لم تفهمني.
أشرت إلى وجهي، عبست وأشرت إلى الخطوط بين الحاجبين، ثم اندَهشت ورفعت حاجبي وأشرت إلى خطوط التعجب المتوازية.
فَهمت وابتسمت، لكنها رفضت. هزت رأسها وأصرت، مشيرةً إلى علبة النفايات.
***
أمضيت أسبوعي الأول في الريحانية بلا مرطبات أو منظفات. اكتفيت بماء المدينة الذي يشتكي سكانها من كلسيّته.
يبدأ عملي في المدينة الصغيرة عند الثامنة والنصف صباحاً وينتهي عند الثامنة ليلاً. أقوم بالتدريس لثلاث ساعات، ثم أحرر نصوصاً لثلاث ساعات، ثم أُدرس الدفعة الثانية من التلاميذ لثلاث ساعات، وأعمل بعدها على تحرير نصوص أخرى لثلاث ساعات.أترك ملاحظاتي على كتابي، أسطر تحت الكلمات التي تحركني، أستخدم أقلاماً ملونة للتعبير عن انفعالات مختلفة. آخذ الكتاب إلى البحر فتترطب أطرافه. وعندما أنتهي منه يظهر أثر القراءة، والعراك، واضحاً.
أتناول العشاء مع أصدقائي.
أعود لغرفتي في الفندق الصغير لأرد على بعض الإيميلات ولأتذمر، كل يوم، من صوت النزيل المزعج في الدور الفوقي. أنهي عراكي معه من خلال موظفي الفندق. يصمت هو وصوت تلفازه المرتفع، وأنام.
***
انتهت ساعات التدريس في يوم عيد ميلادي، ذهبت لأغسل وجهي في حمام المركز بإضاءته البيضاء الرديئة، نظرت في المرآة. بدا وجهي أقرب لمنتصف العمر اليوم من بدايته.
أسخر في العادة من كليشيهات التصالح مع النفس وحب الخطوط، لكني، وعلى الرغم من اقتناعي بأن القليل من المكياج بات واجباً كل يوم، أحببت تعبي الذي بدا واضحاً على وجهي.
شعرت بالرضى.
بدت علاقتي بنفسي اليوم كعلاقتي بأشيائي: حبي لها يعني الانعجان والاستخدام والخدوش الصغيرة والآثار الكثيرة.
لا يعني هذا أني سأتوقف عن استخدام المرطبات والمقشرات والمغذيات. لكني سعيدة بما لا تقدر على إخفائه، سعيدة بآثار "المرابطون" كما تقول تيتا. لكن آثارهم على وجهي ليست خراباً كما تعني، بل حياة.
حياتي مرت من هنا.
ووجدتني أقول لنفسي في عيد ميلادي الـ35 ما تقوله ماما لي حينما ترى أشيائي المُتعبة: "إنشالله إهريني بالعافية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع