شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أخشى التفاصيل وأبحث عنها

أخشى التفاصيل وأبحث عنها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 نوفمبر 201703:50 م

أنكب على قراءة روايات من العراق.

أصبحت أعرف منطقة الكرادة الشرقية، بل أميزها في خيالي عن كرادة مريم التي تحوَل جزء منها إلى المنطقة الخضراء المخصصة لسكن من على رأسه ريشة دبلوماسية أو صحافية أو مالية.

أتخيل دكاكين شارع المتنبي وسحره القديم وتبدل أحوال مكتباته. أشعر أني أعرف شارع  فلسطين وينعصر قلبي عند ذكره لأن "رعودي"، إحدى شخصيات رواية "طشاري" اختُطف فيه.

بحثت عنه والدته حتى وجدت بعض أشلائه. أخذتها ودفنتها في المقابر التي خُصصت لطائفته. ارتاحت حينما ركض هذا الجزء منه مع كل من سبقوه إلى جوف الأرض التي أصبحت تدفن الأحياء وهم فوقها مراراً قبل موتهم.

أعرف كذلك حي الكاظمية، سمعت اسمه في بعض الأغاني العراقية الدارجة، لكني ألفته وأمضيت في خيالي به وقتاً لأن به "المُغيسل" الذي ورثه جواد كاظم عن والده.

جواد شخصية في رواية "وحدها شجرة الرمان"، هو شاب همشته قسوة مدينته التي ترتوي الموت، وحجمت أحلامه.

حاول السير على خطى الفنان العراقي الذي يحمل اسمه، جواد سليم، بعدما أتم دراسة النحت في الجامعة. أراد بشدة أن يصبح فناناً، وقد فاوض الحياة مُقدماً بعض التنازلات، راضخاً لمترادفات "الفن" الأقل جاذبية كتشطيب دهان المنازل. عبثاً.

وجد نفسه يعود لمهنة والده: غسل الجثث في مكان تكاد رطوبته تبلل صفحات الرواية التي تحكي عنه.

نحن إن لم نقترب من تفاصيل الحياة اليومية لأهل مدينة تعيش الحرب لن نفهم شيئاً عن هذه الحرب

أقرأ القصص وأتصور حر بغداد وبردها وحرم جامعتها.

أظن أني أعرف طريقة اختصار الأسماء في العراق وتدليع أهلها بعضهم لبعض، هم في الغالب يستخدمون الواو تليها الياء. هالة تصبح هلاوي، كاظم: كظومي، جواد: جودي، ورعد: رعودي.

أمسك قلماً أصفر، أشير لبعض العبارات في الروايات والتفاصيل التي فاتتني. تخنقني. أضعها جانباً، ثم أعود إليها.

يحاول عقلي أن يتخيل حياة أهل سوريا اليوم وغدهم من خلال القراءة عن أهل العراق. عقلي يحاول إدراك ما معنى مأساتنا في سوريا، ويعي أنها تكمن في التفاصيل. لكن الإفراط في تفاصيلٍ سوريةٍ يلوي قلبي. فأقرأ عن شخصيات خيالية في بغداد.

أبحث عن معنى الحرب وأنا أسكن في ترف البعد: في مدينة آمنة ساكنة مغرورة لا تبالي. في برج لا يعرف أيّ من سكانه الوعر والصاخور والكاظمية.

أحاول أن أفهم معنى خراب المدن الحبيبة، وأن تصبح أحياؤها ركاماً، لكني أجدني أبتعد عن الأخبار وأقرأ روايات العراق بدلاً من التحديق في صور حلب. أواسي نفسي حينما تشتد الغصة بأن شخصيات الرواية خيالية.

لا أتذكر الأشخاص الذين قابلتهم وأجريت معهم مقابلات خلال عملي ولا تزورني قصصهم خلال اليوم، لكنهم يظهرون في أحلامي أحياناً. أواسي نفسي في الحلم بأني سأستيقظ بعد قليل وستغادرني صورهم.

أحياناً، يتجسد ألم التفاصيل في الأحاديث العابرة.

أحاول أن أفهم معنى خراب المدن الحبيبة، وأن تصبح أحياؤها ركاماً، لكني أجدني أبتعد عن الأخبار وأقرأ روايات العراق بدلاً من التحديق في صور حلب

تخبرني صديقتي مينا عن عمها وعائلته المحاصرة في الموصل. أصغي بحذر وسرعة في الوقت ذاته، أتجنب التفاصيل كالألغام في الأرض. ثم تقول إن شظية اخترقت خزان الماء الوحيد في المنزل الذي لم يغادروه منذ أن دخلت داعش المدينة. تخترق المعلومة قلبي. ننهي الحديث. أشرب كوب ماء وأحاول أن أنساها.

في سياق حديث عام، يخبرني تلميذي براء الذي يملأ النمش بشرته البيضاء أن والده معتقل مع جده في دمشق منذ 3 سنوات وأهله لا يتوقعون عودتهم.

لا يتوقف عند المعلومة. يختم حديثه.

أفُضّ المعلومة من جهتي وأتابع قراءة الروايات في المساء. يظهر والد براء في منامي، لكني استيقظ.

أخشى التفاصيل. بعضنا يحدق فيها، وبعضنا يهرب منها. لكننا لا شك نخشاها. ونحن إن لم نقترب من تفاصيل الحياة اليومية لأهل مدينة تعيش الحرب، لن نفهم شيئاً عن هذه الحرب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image