شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
في كل عائلة

في كل عائلة "جليلة"... فتاة غير عادية ترى ما لا يراه غيرها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 28 أبريل 201703:53 م
كنتُ أراها بأمّ العين، وأتحيَّن جلساتها التي تضمّ نساء العائلة اللواتي يطردننا، نحن الأطفال الصغار خارج الغرفة، كي لا نخشى شيئاً ما أو ربما خوفاً من أن يتلبسنا أحد عفاريت المرأة المحورية في الجلسة: الحاجة سعدية.
هي الشخصية الحقيقية التي اقتربت منها إلى حد كبير الممثلة عبلة كامل في شخصية جليلة (مسلسل حديث الصباح والمساء). فتاة غير عادية ترى ما لا يراه غيرها، وتتحدث إلى أشخاص غير مرئيين. تسمع هاتفاً يحدثها في أذنها بما سيقع في ما بعد، وربما بما يحدث الآن على بُعد آلاف الكيلومترات لأحد معارفها في مكانٍ بعيد. الحاجة سعدية التي كنتُ أراها في طفولتي ليست دجَّالة. هي امرأة جميلة الملمح بيضاء البشرة، دقيقة الأنف، ناعمة الشعر. ترتدي الأبيض دائماً: عباءة بيضاء وشالاً أبيض فوق رأسها تسدله وقت اللزوم على عينيها. في الجلسات الخاصة التي تَستَدعي فيها "طنط سعدية" جنيتها الطيبة التي تلازمها "زينب"، كانت جدتي وأمي وخالاتي يجلسن حولها باهتمام وإنصات. يُخرجن أطفالهن الصغار من الغرفة ويشجعنهم على اللعب فوق سطح المنزل، إلا أنا... ما كنتُ لأفوِّت مثل هذه الجلسات المثيرة الغامضة ورائحة البخور المميزة التي تملأ أنفي والمنزل حين تزورنا "طنط سعدية". كنت أقف بجوار الباب حين يندمج الجمع فيما هم مجتمعون عليه، وأتخذ وحدي موقف المتفرج. كانت إحدى خالاتي هي المسؤولة عن إحضار صينية الملح، صينية واسعة فضية اللون تملأها بالملح ثم تقوم طنط سعدية ببسط الملح بيديها فوق الصينية وتخط بإصبعها علامات وخطوطاً فوقه، ثم تشعل البخور ويتصاعد الدخان في الغرفة. حين تغطي طنط سعدية وجهها بالشال الأبيض وتبدأ في الحديث لا يكون صوتها هو ذلك الصوت الذي أعرفه جيداً وأسمعه في بداية الزيارة ونهايتها، ناهيك بالمناسبات العائلية العادية. فما إن تضع الشال وتخفض رأسها حتى يصدر عنها صوت امرأة أخرى تماماً. تقول جدتي إنه صوت "زينب" الجنية المسالمة التي تلازم سعدية. وكنتُ أرتعد وتتصادم ركبتاي حين أسمع هذا الصوت، لكن شوقي وفضولي يغالبان خوفي فلا أبرح مكاني. كانت تمسك بأيدي خالاتي واحدة تلو الأخرى، دون أن ترفع رأسها المنخفض أو تكشف الشال عن عينيها، وتحدثهن بما يشغل بالهن أو عمَّا سيحدث لهن في القريب. لا تجرؤ إحداهن على المقاطعة أو أن تسحب يديها قبل أن تُنهي سعدية كلامها. وهكذا... واحدة تلو الأخرى حتى تنتهي منهن جميعاً ثم تتمتم بهمسات غير واضحة وترفع الشال عن عينيها وتستغفر الله علام الغيوب وواهب العلوم ثم تُقبِّل يدها وتُنهي الجلسة. بعد ذلك يعود صوتها إلى الصوت المألوف الذي نعرفه عنها. تنسحب "زينب" الجنية الطيبة وتعود طنط سعدية ذلك الفرد العادي في العائلة، تشرب القهوة مع النساء وتتحدث عن التليفزيون والمسلسلات والفن والسياسة وكرة القدم وأسعار الطماطم والبطاطس وطريقة عمل الحمام المحشو بالفريك.
الحاجة سعدية التي كنتُ أراها في طفولتي ليست دجَّالة. هي امرأة جميلة الملمح بيضاء البشرة، ناعمة الشعر...
ما كنتُ لأفوِّت مثل هذه الجلسات المثيرة الغامضة ورائحة البخور المميزة التي تملأ أنفي والمنزل حين تزورنا
كان يوم 26 رمضان لكني لا أذكر في أي سنةٍ على وجه الدقة، لعلَّها كانت سنة تالية لزلزال 92 الشهير. بعد الإفطار بساعات قليلة شعرت طنط سعدية بآلام شديدة في صدرها وطلبت الذهاب للطبيب. صحبها ابنها وابنتها إلى طبيب صدر ماهر بجوار بيت جدي الذي لحقهم إلى العيادة:
  • كويس إنك جيت يا خالي، يمكن دي آخر مرة أشوفك
  • يا سعدية... لا تدري نفسٌ بأي أرض تموت، وحدي الله يا بنتي
  • قلبي حاسس يا خالي، يارب يكون ختامها مسك في ليلة القدر.
  • قلبك زي الفل لازم العيال دول تاعبينك.
تبتسم ابتسامة العارف الواثق من نفسه، وحين يأتي دورها للدخول للطبيب يؤكد أنها في أحسن حال، وبإمكانها أن تشترك الآن في سباق لجري المسافات الطويلة. يعودُ كلٌ إلى بيته، وبعد صلاة الفجر يطرق زائرٌ باب بيت جدي بقوة وسرعة. ابن طنط سعدية يخبرنا بوفاتها في مستشفى الحسين الجامعي ويطلب من جدي الذهاب معه إلى المستشفى. يهرول جدي مع الشاب الخائف ليساعده في إجراء الوفاة والغُسل والكفن وما إلى ذلك. حين يصلان إلى المستشفى يُفاجآن بأن كل شيء انتهى في سرعة شديدة وبساطة متناهية. جاءت امرأة منتقبة من تحت الأرض (لا يعلم أحد من هي) وقالت إنها هي التي ستغسل جثمان السيدة سعدية. تحدثت بحسم وقوة كأنها قد اتخذت القرار ولا مجال للنقاش، بل طلبت أن تدخل إلى الغسل بمفردها دون أن تصاحبها حتى ابنة المتوفاة. امرأة غريبة تتجول في المستشفى في هذا الوقت المبكر من الصباح ولا تكشف عن وجهها إطلاقاً. لا يعلم الجميع لماذا استجابوا ورضخوا لها بهذه البساطة، ولكنها أنجزت المهمة في وقت مثالي كأن جيشاً  كان وراءها ويساعدها. وحين انتهت من الغسل والكفن خرجت إلى حيث أتت دون كلمة واحدة لأي شخص، واختفت في أروقة المستشفى التي كانت صامتة في هذا الوقت المبكر من يوم رمضاني كسول. لم أسمع البتة بمتوفىً ذهب به أهله إلى المقابر من دون أن يصلوا عليه، إلا سعدية. نسى أبناؤها وأهلها وجيرانها وجميع من صاحبوا الجنازة أن يصلوا عليها. لم يتذكر أحد أن ينبّه الآخرين إلى الركن المفقود في التشييع. ولكنهم لحسن الحظ تذكروه أيضاً بالإجماع عند فتح القبر. عادوا بها إلى أحد المساجد القريبة من مدافن العائلة، صلوا عليها وذهبوا إلى القبر مرة أخرى وأرقدوها بسلام. تقول جدتي إن لكل منا ساعة محددة لنزول القبر كما أن لنا ساعة ننزل فيها من بطون أمهاتنا، ومن لم تحن ساعته لا يمكن أن يلامس جسده قبره، سيظل الجثمان يتلكأ حتى تأتي الساعة. وكذلك في الولادة يمكن أن تظل المرأة في حالة الوضع لساعات كاملة ولكن لن ينزل المولود إلا حين تدق ساعته. عندما أتذكر طنط سعدية أعود إلى أمي أسألها هل سبق أن أخطأت مرة في تنبؤ قالته أو رؤيا شاهدتها، فتؤكد أمي لي دائماً أن ما كانت تنطق به سعدية كان يحدث مثلما وصفته بالضبط. أتمنى في أعماقي لو أنها حية معي الآن، فهنالك أسئلة كثيرة تدور برأسي وتبحث عن إجابات.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image