يطرح "سمير قسيمي" في روايته الجديدة "كتاب الماشاء" قصة جديدة لخلق البشرية، فهو يكتب عن وجود ابن لآدم وحواء هو "هلابيل"، طُمس ذكره وغيّبته الكتب المقدسة، ولم تصلنا أي معلومات عنه لأسباب مختلفة، إلا أن ثمة طائفة واحدة ظلت تنقل السر من جيل إلى آخر كي لا يندثر.
حبكة الرواية تبدأ مع "ميشيل دوبري" الباحثة الفرنسية التي تدرس أعمال المستشرقين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ تعثر على مقال عن مستشرق فرنسي يدعى "دي لاكروا"، وهذا ما يدفعها للنبش وراء هذا الاسم الذي لا تعرفه، لتكتشف اختفاء كل أثر له في جميع السجلات المدنية دون أي سبب واضح.
"الأدهى من كل ذلك، هو أن لوبلو تحدث عن مستشرق لم أسمع به من قبل باسم سيبستيان دي لاكروا، وهو الأمر الذي وجدته غريباً من باب تخصصي في هذه المادة، فقد اعتقدت لفترة طويلة أنني كنت على معرفة بجميع أسماء المستشرقين الفرنسيين في نفس الفترة".
هكذا، تجرّب اقتفاء أثر "دي لاكروا" فتزور البيت الذي كان يسكنه، وهناك تتعرف إلى امرأة جزائرية تدعى "نوى"، ستعطيها مجموعة من المظاريف والأقراص الالكترونية التي فيها الكثير من المعلومات عن رحلة "دي لاكروا" إلى الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي، وفيها معلومات أخرى كثيرة، تجد معها "ميشيل" نفسها في متاهة بوليسية عن نبي مجهول يدعى "الوافد بن عباد"، هو المؤسس لطائفة سرية كانت مهمتها الحفاظ على "كتاب الماشاء" وصونه من الضياع والتلف على مر الأزمان.
تعود الرواية إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، لتقصّ نتفاً من ذلك التاريخ، وتصوّر المجازر التي ارتكبها المحتل، وكيف أن واحداً من الأسباب الرئيسة لانتصاراته هي الخلافات والخصومات بين أبناء الوطن الواحد.
قصة جديدة لخلق البشرية: حكاية هلابيل... الابن المنبوذ لآدم وحواء الذي طُمس ذكره وغيّبته الكتب المقدسة
رحلة إلى الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي، تجد فيها البطلة نفسها في متاهة بوليسية عن نبي مجهول أسس طائفة سريةولا تكتفي الرواية بعرض هذا الجانب من الاحتلال، بل تعرض جانباً آخر هو أولئك الجنود الفرنسيين الذين أدركوا أن حملتهم التي أتت بهدف تحرير الجزائريين من الأتراك وضمان الامتيازات الفرنسية انحرفت عن مسارها وتحوّلت إلى احتلال كامل للأرض وإباده أهلها، فما كان منهم إلا أن شكّلوا فرقة لتهريب الجنود الذين فقدوا الإيمان بالمهمة ولا يريدون المشاركة في المذبحة. "حاولنا كتابة تقارير صادقة عن الوضع في الجزائر ونشرها في الجرائد الفرنسية، بهدف تنوير الرأي العام، إلا أننا وبعد أشهر أدركنا ألا فائدة ترجى من مثاليتنا المفرطة، فالأمر كان واضحاً بالنسبة للرأي العام والسلطة في باريس، بل أصبحت الجزائر مسألة متفقاً عليها، لذلك فضّلنا أن نعمل في السر، لنقلل الأضرار، على الأقل تلك التي لحقت بجنودنا، (...) وتحوّلت مهمتنا من إيقاظ الضمير الإنساني في الأمة الفرنسية إلى عمليات متواضعة لتهريب بعض الجنود". تركّز الرواية على المهمشين في الحياة، أولئك المنبوذين الذين يزدريهم المجتمع ولا يرغب أحد أن يكونهم، فكل الأشخاص الذين انتقل إليهم السرّ كانوا من المهمشين في الحياة: سجين سابق، عاهرة، مترجم حربي، رجل هائم على وجهه، ابن غير شرعي... وكلهم كانوا مثل "هلابيل"، رمز الهامش الذي لا يريد أحد الاعتراف به، ولكن من دون هذا الهامش لا تكتمل حلقات الرواية وتبقى قصة الخلق ناقصة.
يبني "قسيمي" روايته بناءً مركباً، فبداية يستعين بحبكة بوليسية، كما أنه يعتمد على تعدد الرواة، فمن الأوراق التي كتبتها "ميشيل" عن مغامرتها البحثية، مروراً بالقرصين الذين سجّلت فيهما "نوى" حكاية "قدور فرّاش"، وصولاً إلى المظاريف الثلاثة التي تحوي: مذكرات "دي لا كروا"، و"شهادات ورسائل من أشخاص مختلفين"، و"أحاديث الوافد بن عباد"، وانتهاءً بـ"كتاب الماشاء" الذي يشبه في لغته وأسلوبه الكتب المقدسة للأديان السماوية، والتي نجح الكاتب في تقليدها ببراعة، ستتشكّل رويداً رويداً الصورة الكاملة، وستنكشف كل الخيوط الغامضة تدريجياً، لتصل الرواية إلى هدفها النهائي وهو إثارة السؤال حول اليقنيات الدينية التي نؤمن بها، حول الحكاية التي كرّستها الكتب السماوية وأساطير الخلق... فماذا لو كان هناك قصة أخرى للبشرية، لا تبدأ من سلالة "شيت" أو "قابيل" بل من سلالة الابن المنبوذ على الهامش "هلابيل"، الذي تشكّل في بطن أمه مباشرة بعد أكلها لتفاحة الخطيئة، وولد بين السماء والأرض، فكرهه أبوه لأنه يذكره بيوم النفي من السماء، ونكرته أمه لأنه ثمرة شهوة خلقها الشيطان. "لأول مرة سمح جيل لنفسه بالتفكير فيما كان سيحصل لو سمح لحقيقة هلابيل بالظهور. ماذا لو أن الإنسان تصالح مع حقيقة أنه نتاج خطايا متسلسلة قدّرتها المشيئة ليكون، وأن الشر ليس ما سمّاه آدم وتعارف عليه أبناؤه من بعده، بل كان اختراعاً بشرياً كوّنه التجاهل، لحظة ما قدر آدم وحواء أن يتجاهلا هلابيل". سمير قسيمي، روائي جزائري من مواليد عام 1974. حاصل على إجازة في الحقوق. عمل في بعض الصحف العربية. له ثماني روايات، من بينها: "تسعون"، "تصريح بضياع"، "الحالم"، "حب في خريف مائل" التي ترجمت إلى الفرنسية، "يوم رائع للموت" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2010، وأخيراً "كتاب الماشاء" التي حازت على جائزة "آسيا جبار" للرواية عام 2016. الناشر: دار المدى/ بغداد - بيروت عدد الصفحات: 232 الطبعة الأولى: 2016ماذا لو كان هناك قصة أخرى للبشرية، لا تبدأ من سلالة "شيت" أو "قابيل" بل من سلالة ابن منبوذ لآدم وحواء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...