على مشارف استفتاء بشأن إجراء تعديلات على دستور 2014 في مصر، ترجع مصر ما بعد يناير 2011 إلى نقطة الصفر. والصفر هنا رقم ذو قيمة يصعب معها وصف الدرجة المتدنية التي وصلت إليها السياسة المصرية. فإن كان الصفر هو دولة مبارك الأمنية، بكل بطشها وإجرامها، فدولة السيسي تتفوق عليها في البطش والإجرام والغباء.
أعود بذاكرتي إلى مايو 2005، عندما طُرحت تعديلات دستور 1971، لتُشرّع توريث رئاسة الجمهورية، فيتسنى لجمال مبارك وراثة الحكم بعد أبيه. وأتذكّر محاولات القوى المدنية منع تمرير التعديلات الدستورية وقتذاك. وأتذكّر –ولن يُمحى أبدًا من ذاكرتي- مشهد اعتداء قوات الأمن بالضرب والتحرش الجنسي على الصحافيات المتظاهرات ضد التعديلات الدستورية المقترحة، وكن يتظاهرنّ على سلّم نقابة الصحافيين في القاهرة. وأعود إلى اللحظة الراهنة، وأتأمل في أن حتى الوجود في الشارع لأي هدف سياسي هو فعل مُجرّم وفقًا لقانون التظاهر الذي تم إدخاله حيز التنفيذ في خريف 2014. بين محاولات التذكّر وأخذ العظة، أجد حسرة ومرارة، وأجد الرقم صفر مُبالغًا فيه بشدة لوصف الحال المزرية التي وصلنا لها في مصر، بالأخص بعد يوليو 2013. ثم تساءلت لماذا أنا في الأصل ضد التعديلات الدستورية؟ كيف ينطلق موقفي السياسي من كوني نسوية – فقط؟
النسوية كموقف سياسي
تُعرّف النسوية، باختلاف مدارسها، بأنها موقف من السلطة، وتُعرّف السُلطة بأنها علاقة قوة غير متكافئة بين الأشخاص الذين يملكون هذه السُلطة وآخرين تُفعّل عليهم هذه السُلطة، وأفراد/مجموعات مُستفيدين منها. فمثلًا، لرجال الدين سُلطة اجتماعية، ولرجال الأمن سُلطة تنفيذية، وللأب سُلطة، وللابن الأكبر سُلطة، وللجِدة سُلطة، وللأغلبية سُلطة. تتنوع مراتب السلطة بين السن والموضع والنوع الاجتماعي، والاعتقاد الديني، والانتماء السياسي، والميول والهويات الجنسية والجندرية، وكذلك العرق والطبقة والإثنية. والسلطة كذلك هي علاقة قوة مُركبة بين عدة أطراف.
أما النسوية فهي موقف من أي سُلطة سواء كانت ذات صفة قانونية أو اجتماعية غير مُقننة. وهي أيضًا محاولات إعادة إنتاج تلك العلاقات بشكل يسمح للأفراد والمجموعات بممارسة حيواتهم/ن الشخصية، وحقوقهم/ن المدنية والسياسية بلا قيود. من هنا تكون النسوية خط دفاع، أو هجوماً مضاداً للسلطة بكل أشكالها، للحد من سطوتها، والتقليل من حدتها، أو تجاوزها، أو تدميرها. هي محاولات للتفاوض على السلطة؛ سلطة الأب في المنزل، وسلطة الكاهن والإمام، وسُلطة رجل الأمن، وسُلطة رئيس الجمهورية. أي أن النسوية هي موقف شخصي وسياسي في نفس الوقت. فالنسوية أيديولوجيا سياسية، وليست فقط مُسيّسة. النسوية هي تلك الفكرة التي نصل إليها بعد صراع مع أنفسنا أولًا، ثم مع العالم الخارجي، لنحقق بذلك موقفًا من جميع أشكال التمييز والاضطهاد. فالنسوية ليست كما يُشاع أنها دعوة للمساواة بين الرجال والنساء، لأنها تتجاوز تلك الثنائية لما هو أبعد، وتتجاوزها في محاولات تفكيكها والتنقيب وراء معنى أن نحمل هوية رجل أو امرأة، وما يطويه ذلك من أفعال وسلوكيات موجّهة إلينا، ومتوقّعة منّا. كما تتجاوز كلمة "مساواة"، لتفككها وتُبحر في معناها. النسوية هي أن نسأل، وأن نُعيد السؤال مرارًا، ونقبل أنه لا يوجد إجابة واحدة، مهما كررنا السؤال، وأنه قد لا يوجد إجابة من الأساس. النسوية هي أن نقبل التعددية والتنوع في المقام الثاني. أما المقام الأول، فهو أن يكون لنا موقف واضح وصريح من السلطة، أي سُلطة.
النسوية والبحث عن المُمكن
تنطوي نظريات النسوية السياسية على إدماج النوع الاجتماعي في السياسة. والنوع الاجتماعي هنا هو مدلول علاقات القوة. أي أنه لا يعني فقط تمكين النساء سياسيًا، بل يتعداه إلى نقد أبعاد علاقات القوة داخل المنظومات السياسية المختلفة. فمن هذا المنطلق، يقول الباحث والمفكر جون سكوت، في مقالة تُعد من أدبيات دراسات النوع الاجتماعي بعنوان "النوع الاجتماعي كأداة تحليل تاريخية 1986"، أن النوع الاجتماعي "الجندر"، يُساهم في فهم علاقات القوة وتركيباتها، اعتمادًا على ما يمثله النوع الاجتماعي داخل علاقات القوة. بمعنى أدق، يقول سكوت أن النوع الاجتماعي يُساعدنا في معرفة وضع الأفراد والمجموعات على سلم الامتيازات. وبهذا، يكون النوع الاجتماعي أداة تحليل في العلوم الإنسانية، كما الطبقة والعرق. وأحيانًا تكون التقاطعية بين النوع الاجتماعي والعرق أو الطبقة أو كليهما، مدخل لمعرفة وضع الأشخاص داخل النظم السياسية والاجتماعية، مُضافًا إليها البُعد الاقتصادي. النسوية في حالة التعديلات الدستورية المقترحة في مصر، تساعدنا على فهم أوضاعنا كفئات مُهمّشة من النظام الحالي. فالبرلمان الذي تقدم عدد من أعضائه بمقترح تعديل الدستور، لم يأخذ في اعتباره المواطنين الذي يمثّلهم. وكأن هؤلاء النواب تبرعوا لتثبيت أرجل النظام، بطريقة حتى لم تتم وقت مبارك. أما الأهم في القصة فهو أن التعديلات المقترحة تُلغي تقريبًا مبدأ الفصل بين السُلطات: القضائية والتشريعية والتنفيذية، ليكون الحكم مطلق في يد "السيسي" باعتباره رئيس الجمهورية الحالي. هذا الوضع يصعُب معه التعامل مع السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية؛ فكل قرار سياسي أو تنفيذي أو تشريعي، يوافق عليه رئيس الجمهورية أولًا. أي أن سلطات رئيس الجمهورية تتعدى سلطات مجلسي الشعب والشورى، وتُعطيه استحقاق تعيين رئيس المحكمة الدستورية العُليا، رؤساء الهيئات القضائية، والنائب العام. تكون السلطة هنا هي سلطة رئيس الجمهورية، في نظام أشبه بالنظام الملكي وليس الجمهوري كما من المفترض أن يكون. أما النسوية كموقف سياسي من السلطة، فهي ضد تلك المقترحات؛ لأنها تنتهك حق المواطنين لصالح الرئيس، فتكون كلمته الأولى والأخيرة، والقرار قراره. فمع هذه المقترحات، يُصبح المواطنون كأنهم غير موجودين. وتتمركز السلطة وتُمارس عليهم، بينما لا يُشاركون فيها ولو بصورة ضئيلة.النسوية فهي موقف من أي سُلطة سواء كانت ذات صفة قانونية أو اجتماعية غير مُقننة. وهي أيضًا محاولات إعادة إنتاج تلك العلاقات بشكل يسمح للأفراد والمجموعات بممارسة حيواتهم/ن الشخصية، وحقوقهم/ن المدنية والسياسية بلا قيود.
يلعب السيسي دور الأب منذ توليه رئاسة الجمهورية؛ فهو يوجّه كلماته لنا كأننا أطفال، ويصرخ فينا، ويوبخنا وكأنه ليس مجرد موظف عام. يتكلم وكأنه يعرف مصلحتنا! المشكلة هنا أن الآباء لا يتمتعون بسلطة مطلقة على الأبناء ولا يملكونهم.
السلطة الأبوية التي تعطيهم حق التصرف في الأبناء، ومعاقبتهم، واتخاذ القرارات نيابة عنهم، فهي نفس السلطة التي ثارت ضدها النسويات الأوليات، لأنها كما دائمًا تحاول الهيمنة على النساء.
رئيس أبوي لنظام سياسي أبوي
يلعب السيسي دور الأب منذ توليه رئاسة الجمهورية؛ فهو يوجّه كلماته لنا كأننا أطفال، ويصرخ فينا، ويوبخنا وكأنه ليس مجرد موظف عام. يتكلم وكأنه يعرف مصلحتنا! المشكلة هنا أن الآباء لا يتمتعون بسلطة مطلقة على الأبناء ولا يملكونهم. أما السلطة الأبوية التي تعطيهم حق التصرف في الأبناء، ومعاقبتهم، واتخاذ القرارات نيابة عنهم، فهي نفس السلطة التي ثارت ضدها النسويات الأوليات، لأنها كما دائمًا تحاول الهيمنة على النساء، فهي تفعل الأمر نفسه مع كل من لا يتّبع سلطة الأب، أو يتمرد عليها. فما تفعله التعديلات الدستورية هو فعل أبوي لا يقبل التأويل. لنرجع بذلك كنسويات إلى نقطة مواجهة الأنظمة الأبوية التي تنفرد بالسلطتين الاجتماعية والسياسية، وتستخدمهما في عقاب وإذلال كل فرد أو مجموعة لدى مساءلتها أو التمرد عليها. المشكلة الأخرى في التعديلات المقترحة هي أنها تُشرّع تلك السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية، ويكون كل اضطهاد، أو تهميش، أو انتهاك، مُبرراً بالقانون وبالدستور.
للأمر أيضًا بُعد آخر. فأغلبنا من رافضي التعديلات الدستورية كنّا في الأصل ضد الدستور نفسه وقت إقراره عام 2014. ولكن النظام اليوم يدفعنا دفعًا لشرعنة الدستور. فمجرد رفض التعديلات الدستورية هو اعتراف صريح بشرعية هذا الدستور، كآخر ما تبقى من مشاركة النظام في صلاحياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون