شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الديون العثمانية... يوم سيطر الغرب على اقتصاد الخلافة

الديون العثمانية... يوم سيطر الغرب على اقتصاد الخلافة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 1 نوفمبر 201807:13 م

شكّلت طريقة "إدارة الدين العام العثماني" واحداً من أهم أسباب انهيار السلطنة العثمانية، بعد إثقال السلطان عبد المجيد الأول بلاده بديون اقترضها من الدول الأوروبية. وبدأ السلطان عبد المجيد الأول سياسة الاقتراض من الخارج لتمويل حروبه ضد حاكم مصر محمد علي، لاسترداد "سوريا العثمانية" منه، ثم لتمويل حربه ضد مملكة اليونان. ولكن أوج الاقتراض من الخارج حدث إبّان حرب القرم، أو الحرب الروسية-العثمانية العاشرة.

الدور الأوروبي في حرب القرم

دعمت دول أوروبا عموماً، وبريطانيا تحديداً، روسيا القيصرية، في بادئ عصرها، باعتبارها حائط صدّ أمام تمدد الإمبراطورية العثمانية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والبلقان والقوقاز. ولما تضخمت روسيا القيصرية، قرّرت الدول الغربية عدم الإجهاز على الدولة العثمانية المترنحة، ومفضّلت استخدام "رجل أوروبا المريض" في إنهاك القياصرة، قبل التخلص من النظامين معاً، وهو ما جرى في الحرب العالمية الأولى التي لم تنتهِ إلا بتفكيك وسقوط النظامين الإمبراطوريين العثماني والروسي. دخل عبد المجيد الأول الحرب ضد روسيا القيصرية بإيعاز من بريطانيا وفرنسا. ولاحقاً دخلت الدولتان لنجدته، إضافة إلى مصر وتونس اللتين كانتا تتمتعان بوضع الخاص بين الولايات العثمانية، ومملكة سردينا الإيطالية. هُزمت روسيا عسكرياً، وسقطت أسطورة الجيش القيصري الذي لا يُقهر التي شاعت منذ الحرب الفرنسية العظمى. ورغم انسحاب العثمانيين من القرم إلا أن روسيا قدّمت تنازلات على جبهات أخرى.

لوحة بانورامية رسمها فرانس روباد أثناء حصار سيفاستوبول

وفي مؤتمر باريس، فرضت أوروبا على روسيا إعلان البحر الأسود منطقة محايدة، وكانت هذه المادة كارثة بالنسبة إلى روسيا، فقد أجبرتها على سحب سفنها الحربية من هذا البحر ونقلها إلى بحر البلطيق، وبالتالي أصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية من الناحية الفعلية وليس القانونية. كذلك، تنازلت روسيا على جزء من أراضيها لدولة مولدافيا. ورغم أن منطقة القرم ظلت بحوزة الروس، إلا أن هزيمة الروس العسكرية وإجبارهم على توقيع اتفاقية باريس اعتُبر انتصاراً للدول الغربية التي تبرّمت شعوبها من تلك الحرب. ورغم بعض الانتصارات التي حققتها روسيا لاحقاً، إلا أن هزيمة القرم المشينة كانت ضربة البداية في مشوار انهيار روسيا القيصرية لاحقاً. كشفت تلك الهزيمة عن مشاكل روسيا الداخلية من فساد وتخلف عن الركب الحضاري والصناعي وأنماط الحكم السياسي في العالم، كما أنه عقب وفاة القيصر نيكولا الأول، لم يهدأ الصراع على السلطة والامتيازات بين القيصر أياً كان وبين النبلاء.

طعنة الديون في ظهر العثمانيين

ورغم هذا الدور العثماني العظيم في دحر روسيا القيصرية لصالح الغرب الأوروبي، إلا أن الإمبريالية الغربية تعمّدت إقراض الدولة العثمانية مبالغ كان قادة أوروبا يدركون سلفاً أن الآستانة ليست قادرة على سدادها في المستقبل القريب. كان الغرض من تلك السياسة تركيع الدولة العثمانية عبر محاصرتها بالديون، تماماً كما فعلوا في نفس التوقيت مع مصر في زمن الخديوي إسماعيل، مستغلين أيضاً ولعه بالاقتراض الخارجي دون حساب. يقول د. إسماعيل أحمد ياغي في كتابه "الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث" إن "المشروعات الاقتصادية التي نُفّذت بقروض أجنبية كان هدفها الحقيقي إيجاد مبررات قانونية للتدخل في الشؤون الداخلية العثمانية بحجة مراقبة الدخل العام لتحصيل الديون". ويسرد المفكر الاقتصادي دونالد سي بليسديل Donald C. Blaisdell في كتابه "الرقابة المالية الأوروبية في الدولة العثمانية" تاريخ الديون العثمانية، ويوضح أن الأمر بدأ عام 1854 حينما أبرم عبد المجيد الأول أول قرض في تاريخ الدولة العثمانية، ثم توالت القروض خاصة في عصر أخيه عبد العزيز الأول لتصل إلى 18 قرضاً بحلول عام 1879. ورغم أن الأموال ذهبت في بادئ الأمر للمجهود الحربي، ولكن الأساس كان سد العجز بين الإيرادات والنفقات الضخمة للإمبراطورية العثمانية. فعشية حربه ضد الروس، بدأ السلطان عبد المجيد الأول في تشييد قصر دولمة بهجة ليكون مقر حكمه الجديد، واستُعملت في البناء الفنون الغربية الحديثة واستُقدم مئات الفنانين والرسامين من إيطاليا وفرنسا لإتمام العمل، واستُخدمت عشرات أطنان الذهب لغرض التزيين، كما مُلئ القصر بتحف متنوعة كعاج الفيلة واللوحات والمنحوتات الإيطالية والفرنسية، بالإضافة إلى سجاد من فرو الدببة الرمادية الروسية. وتم شراء كل تلك النفائس من أكبر متاجر أوروبا. وبعد انتهاء تشييد هذه السرايا، أصبحت مقرّ حكم الخليفة العثماني حتى إلغاء الخلافة عام 1922.

أما السلطان عبد العزيز الأول، فقد بنى سرايا بكلربكي على ضفة البوسفور على سفح تل بلفوري، وشُيّدت من الرخام الأبيض وكان لها رصيف على الشاطئ. كذلك بنى السلطان نفسه قصر جراغان، بين منطقة بشكطاش وأورفة كوري، على شكل مستطيل، قرب شاطئ البحر أيضاً، وقد تحوّل إلى مقر لمجلسي الأعيان والمبعوثان العثماني، وفيه قضى عبد العزيز ومراد الخامس وكمال أتاتورك أيامهم الأخيرة. أيضاً، شيّد عبد العزيز الأول مسجد جامع في مالطة واستحدث توسيعات في مجمع قصر يلدز، منها قصر شيت وقصر الجادر وبيوك الما بين، ووصله بجسر مع قصر جراغان.

فقدان الاستقلال الاقتصادي

في دراسة نشرها عام 2000، بعنوان "ذهب للسلطان... المصرفيون الغربيون والاقتصاد العثماني 1856 – 1881"، أوضح الباحث الاقتصادي كريستوفر كلاي Christopher Clay أن شروط البنوك البريطانية والفرنسية للإقراض كانت تعني عملياً إعادة تمويل الديون بشكل مستمر. أثناء حرب القرم، حسمت البنوك الفرنسية والإنكليزية والألمانية والنمساوية الفوائد سلفاً قبل أن تسلم العثمانيين القروض، لضعف الثقة دولياً بالاقتصاد العثماني.

ومع توالى القروض، رهن العثمانيون الأتاوة السنوية من ولاة مصر وأزمير والولايات السورية، ضماناً لقرض أخذوه عام 1854، ما عنى عملياً تحويل تلك المبالغ التي ظلت طيلة أربعة قرون تذهب إلى خزائن الخلافة إلى البنوك الأوروبية. وفي قرض عام 1855 كان الضمان هو عوائد جمارك ولايات سوريا وأزمير أي كل الثقل التجاري للساحل السوري واللبناني. ومع توالي الاقتراض كان يتم تحويل أغلب إيرادات الدولة العثمانية إلى الخارج دون أن تذهب إلى العاصمة او تدخل خزائن وزارة المالية العثمانية.

بينما كان السلطان العثماني عبد المجيد الأول يظن أن له حلفاء في الغرب في وجه قياصرة موسكو، كان الغرب الأوروبي، وهو يدعمه في وجه روسيا، يطعنه في خاصرته بالديون والقروض حتى يفقد اقتصاد بلاده استقلاله
تعمّدت الدول الأوروبية إقراض السلطنة العثمانية مبالغ كان قادة أوروبا يدركون سلفاً أن الآستانة ليست قادرة على سدادها في المستقبل القريب، لتركيعها عبر محاصرتها بالديون وإيجاد مبررات قانونية للتدخل في شؤونها الداخلية
هكذا، أعلنت الآستانة عجزها عن سداد قروضها، في 30 أكتوبر 1875، ما عنى عملياً إشهارها إفلاسها. وبعد ست سنوات من ذلك، وتحديداً في 15 أكتوبر 1881، تأسست مصلحة "إدارة الدين العام العثماني"، وهي مؤسسة مقرها الآستانة، وتتألف من حاملي أسهم القروض العثمانية من مؤسسات وهيئات وبنوك ورجال أعمال وبيوت مال من ألمانيا والنمسا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا. وتألف مجلس إدارة المصلحة من سبعة أعضاء، ستة منهم يمثلون حملة الأسهم، والسابع يُعيّنه البنك الإمبراطوري العثماني الذى أصبحت سيطرته على الاقتصاد العثماني مجرد حبر على ورق.

ووظفت "إدارة الدين العام العثماني" تسعة آلاف موظف عثماني جابوا الولايات العثمانية لتحصيل الضرائب والجمارك وإيرادات الدولة لتدخل في خزانة إدارة الدين العثماني وتسدد أقساط الديون العثمانية دون أن تمر المبالغ بوزارة المالية التي فقدت صلاحياتها، بل كان عدد موظفي وزارة المالية أقل من عدد موظفي مصلحة تلك الإدارة. ومن صلاحيات الإدارة الأجنبية أن الشركات الأوروبية الراغبة في الاستثمار في الأراضي العثماني كانت تتعاقد مع الإدارة دون التواصل مع السلطان أو الحكومة العثمانية، ما يعني فقدان الدولة العثمانية لأبسط معاني الاستقلال الاقتصادي. وحتى حينما حاول السلطان عبد الحميد الثاني التحالف مع ألمانيا القيصرية وفتح باب الاستثمارات الألمانية في الولايات العثمانية، فإن مخططه فشل بهزيمة البلدين خلال الحرب العالمية الأولى. وتبيّن دراسة صادرة عن كلية الاقتصاد في جامعة روما بعنوان "الدين الخارجي العثماني وخصائصه تحت الإدارة الأوروبية الاقتصادية"، للباحثين جيامباولو كونتي Giampaolo Conte وجيتانو سباتيني Gaetano Sabatini، أنه حينما أشهرت تركيا إفسلاها كان دينها العام قد وصل إلى 200 مليون جنيه استرليني بأسعار ذلك الزمان، بالإضافة إلى فوائد سنوية تصل إلى 12 مليون جنيه استرليني، علما أن إيرادات السلطنة السنوية كانت 24 مليون جنيه استرليني فحسب. هكذا، وبينما كان السلطان عبد المجيد الأول يظن أن له حلفاء في الغرب في وجه قياصرة موسكو، كان الغرب الأوروبي، وهو يدعمه في وجه روسيا، يطعنه في خاصرته بالديون والقروض حتى يفقد اقتصاد بلاده استقلاله.

الجمهورية التركية ظلت تدفع الثمن

لم تسقط الديون العثمانية بسقوط الدولة العثمانية، بل بقيت لمصلحة "إدارة الدين العام العثماني" صلاحيات تحصيل قيمة السندات في سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن حتى عام 1924، بموجب اتفاقيات دولية. وعقب استسلام السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، قامت "إدارة الدين العام العثماني" بحماية استثمارات وممتلكات وديون الأجانب في الأراضي العثمانية، ما سهل استمرار المصالح الاقتصادية والاستثمارات والممتلكات في الجمهورية التركية الوليدة التي لم يُسمح لها بالاقتراض إلا عقب الانتهاء من سداد الديون العثمانية. وخلال مؤتمر باريس عام 1925، وافقت الجمهورية التركية على دفع 62% من ديون الدولة العثمانية قبل عام 1912، و77% من ديون ما بعد 1912. وفي مؤتمر باريس عام 1933 استطاعت تركيا خفض الرقم الباقي في ذمتها من 161.3 مليون ليرة إلى 84.6 مليون ليرة، تم سدادها على أقساط لم تنتهِ إلا في مايو 1954. هكذا، استمرت أزمة الديون العثمانية طيلة نحو مئة عام، وساهمت في السلطنة العثمانية اقتصادياً حتى مرحلة أفول الخلافة، ثم قوّضت اقتصاد الجمهورية التركية الوليدة لثلاثة عقود من الزمن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image