في مقلتيك سماواتٌ يهدهدها من أشقر النور أحلاه وأصفاه يضيع عني وسيمٌ من كواكبها فحين أرنو إلى عينيك ألقاه هذا ما كتبه الشاعر السوري بدوي الجبل متغزلاً في امرأة صاحبة عيون زرقاء. وكتب نزار قباني قصيدة "رحلة في العيون الزرق" متغزلاً في محبوبة، وكذلك كتب نزار إلى "العين الخضراء" وقال: يا واحةً خضراءَ ترتاحُ على المرمرِ، أفدي اندفاقَ الصيف من مُقلةٍ خيِّرةٍ ... كالموسِمِ الخيِّرِهذه الحروف".
العيون والشؤم والقبح
الواقع العربي قبل الإسلام وفي فترات طويلة بعد الإسلام كان يخالف هذا الاتجاه، فقد كانت العيون الزرقاء والخضراء مكروهة ومرتبطة بالشؤم والقبح والمرض، فنقرأ لبشار بن برد: تراخت في النعيم فلم ينلها حواسد أعين الزرق القباح وله أيضاً: وللبخيل على أَمواله عِلَلٌ زُرْقُ العيون عليها أوجه سود واعتبر سويد بن أبي كاهل (من شعراء الجاهلية) أن الأعين الزرقاء قرينة اللؤم، حيث قال: لقد زَرُقَت عيناك يا بن مكعبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق ومع بدايات الإسلام، دعم الاتجاه القديم في ذم الأعين الملونة، واستخدمت تلك الكراهية في الصراع السياسي بين أنصار آل علي بن أبي طالب وأبناء عمومتهم "العباسيين" من جهة، والأمويين من جهة أخرى.لماذا حظيت الأعين الزرقاء (والخضراء) باهتمام العرب؟
أعدّت الباحثة كريستينا ريتشاردسون ورقة بحثية بعنوان "Blue and Green Eyes in the Islamicate Middle Ages" نشرت في ِAnnales islamologiques عام 2014، حول المسألة، ورجحت أن يكون الأمر قد بدأ مع قصة "زرقاء اليمامة"، تلك المرأة التي عاشت في اليمامة اليمنية، قبل الإسلام بقرون. كان يقال بأن لزرقاء بصر ثاقب، يستطيع رؤية الشخص من على مسيرة 3 أيام، ويرى "الشعرة البيضاء في اللبن"، من حدته ودقته. وفي مرة، بحسب القصص، رأت شجراً يتحرك نحو قبيلتها بهدف الإغارة عليها، فحذرت قومها، إلا أنهم سخروا من فكرة الشجر المتنقل. وكما تتابع القصة، أنّ العدو (وهو وقتها جيش حسان بن تُبع)، كان حقيقة يقترب من قبيلتها، إلا أنه فرض على كل جندي من جنوده قطع شجرة وحملها أمامه كي يختبئ وراءها. وبالفعل، أغار العدو على أهل اليمامة وأبادوهم واقتلعوا عيني زرقاء، وهذه واحدة من القصص الأسطورية التي تسرد كسبب لاعتبار العيون الزرقاء نزير شؤم عند العرب.الأزرق يعني الأخضر أيضاً
العيون الزرق عند العرب كانت تشير إلى الأخضر والأزرق معاً، بحسب كريستينا التي تشير إلى أن التقسيمات الرئيسية للألوان لدى العرب القدامى، هي الأبيض، الأسود، الأحمر، الأخضر، الأصفر. ولم تكن تحتوي على الأزرق. موضحة أن تعبير "أزرق" في العربية القديمة كان يشير إلى "اللمعان أو التلألؤ"، وكانت الكلمة تستخدم للتعبير عن لمعة السيوف، والنجوم، وعيون وأماكن تدفق المياه. كذلك تشير دراسة ميثولوجية للباحثة دعاء هشام بكر أشتية بجامعة النجاح الوطنية الفلسطينية، إلى أن "زرق" تعني النظر القوي لا اللون الأزرق فقط، وأن العيون الزرقاء في حقيقتها غير ملونة، وأن لونها ما هو إلا خداع بصري، لأنها شفافة لا تحتوي على الطبقة الداكنة التي تكسبها اللون، ولذلك نجدها "براقة متلألئة". ووفقاً لنظرية الأنثربولوجي الأمريكي برنت برلين، وبروفوسير اللغويات باول كاي، التي قدمت تقسيمات متدرجة للغات، وفقاً للعبارات المعبرة عن الألوان بها؛ فإن أي لغة في مرحلتها الأولى من التطور تحتوي على مصطلحين للألوان على الأقل، وهي دائماً الأبيض والأسود. إذا تطورت اللغة إلى المرحلة الثانية يدخل إليها اللون الأحمر، وفي المرحلة الثالثة والرابعة إما يأتي الأصفر أو الأخضر، أحدهما قبل الآخر، وفي المرحلة الخامسة يأتي الأزرق، وبعض اللغات كالعربية القديمة كانت تحتوي على 4 مراحل فقط، وهذه المرحلة كانت تجمع الأخضر والأزرق معاً.استمرار دلالات اللون الأزرق السلبية في الإسلام
قرن ذو الرمة أحد مشاهير الشعراء في القرن الهجري الأول، العيون الملونة بالسرقة والكذب: زرْقُ العيون إذا جاورْتَهم سَرَقُوا ... ما يسرق العبد أو نابأتَهم كذبوا أما القرآن الكريم، فقد قدّم دعماً للمعنى السلبي للزرق، فالآية 102 من سورة طه تقول: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا"، وفسرها عبدالله بن عباس بأن المجرمين سيحشرون يوم القيامة عمياناً. وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره أن الزرق هنا تشير إلى العيون. وقال الزمخشري في معجمه اللغوي، إن العرب كانوا يعتبرون زرقة العين مرضاً. وأوضح الزمخشري أنّ هناك سببين لكراهية العرب للعيون الزرقاء: الأول أنها كانت لون أعين الأعداء من الروم، وفي وصفهم للعدو كانوا يقولون: "أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين". أما السبب الثاني فيرجع إلى معنى "العمى"، لأن العين التي تفقد البصر تميل إلى الزرقة، أو تزرق.كتب نزار قباني "رحلة في العيون الزرق"، ولكن علاقة العرب بالعيون الخضراء والزرقاء متقلّبة ومثيرة، هنا وقفة مع تواريخها
نظر العرب إلى العيون الملونة (الزرقاء والخضراء) بطريقة سلبية في فترات الإسلام الأولى وقبله، لأنها كانت لون أعين "الأعداء" من الرومومن أسباب هذا الموقف السلبي من زرقة العين، ارتباطها بالظمأ الشديد، وقدم أبو زكريا الفراء تفسيراً لكلمة "زرقا" التي جاءت في آية ضمن سورة طه: "ونحشر المجرمين يوم القيامة زرقا"، حيث قال إنّ المقصود من الزرق هو إما "العمى" أو "العطش الشديد". مشيراً إلى أن آيات القرآن دعمت المعنيين، ومنها ما ورد في سورة الإسراء: ونحشرهم يوم القيامة "عميا"، وسورة مريم: نسوق المجرمين إلى جهنم "وِردا"، أي يساقون إلى جهنم عطشا. وادعى السمعاني في تفسيره أن لون العين سيتغير يوم القيامة نظراً لشدة الحرارة، واحتياج الجسم إلى المياه، وفسر معنى "زرقا" بأن أعينهم ستتحول إلى "الأخضر"، ووجوههم ستسود. وقال أبو إسحاق الزجّاج إن العطش الشديد سيحول مقلة العين السوداء إلى الزرقة، وكرر الواقدي في تفسيره ادعاء الزجاج، مؤكداً أن العطش يؤثر على العين، وأن من مات "عطشاً" يظهر على عينينه نتيجة هذا العطش. ومن التفسيرات الشائعة للزرقة، أن خوف وذعر الكفار من يوم القيامة يجعل لون أعينهم يتغير. وفي هذه النقطة تشير ريتشردسون إلى الآية: "وتولى عنهم وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"، وتشرح أن هذه الآية في سورة يوسف، ربطت بين حزن النبي يعقوب، نتيجة فقدانه لابنه، وبين تغيّر لون عينيه إلى الأبيض نتيجة هذا الحزن.
وبالتالي، أصبح تغير لون أعين الكفار من السواد إلى الزرقة يوم القيامة مقبولاً شعبياً، بحجة أنّ الحالة النفسية للشخص قد تغير لون عينيه، قياساً على الآية السابقة.
النظرة في الأحاديث للعيون الملونة
ليس القرآن وحده، فالأحاديث النبوية دعمت بدورها هذه النظرة للعيون الزرقاء. فنقل عن ابن عباس، أنه قال: كان رسول اللَّه صلَّى اله عليه وسلم في ظل حجرةٍ من حُجَرِهِ، وعنده نفَرٌ من المسلمين، قد كاد يقلص عنهم الظل، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بـ"عيني شيطان"، فإذا أتاكم فلا تكلموه. ويتابع الخبر أنه: جاء رجل "أَزْرَقُ"، فدعاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلمَ، فكلمه، وقال له: علام تشتمني أنت، وفلان، وفلان؟ نفر دعاهم بأسمائهم... إلخ الحديث. ويلاحظ في الحديث الماضي تشبيه النبي للرجل صاحب العينين الزرقتين بالشيطان. وعن ابن عباس أن الرسول روى لصحابته المشاهد التي رآها ليلة الإسراء والمعراج، وفيها: "شاهد رجلاً أَحمر أَزرق جعداً شعثاً إذا رأيته، فقال: من هذا يا جبريل؟ فرد: هذا عاقرُ الناقة"، وفي الحديث إشارة إلى أن هذا الرجل العاصي كان أزرق العينين. أما النظرة المخالفة لهذه الأراء، والتي تتبنى مواقف إيجابية تجاه العيون الملونة، فنجدها تضيع أو يتم تحييدها. ومثال على ذلك ما ورد في حديث منسوب إلى النبي، وهو: "تزوجوا الزُّرْقَ فإن فيهن يُمْنًا". يشير هذا الحديث سواء أكان من أقوال النبي أم منسوباً خطأ له، إلى وجود ميول وأراء إيجابية تجاه العيون الزرق، إلا أنّ الألباني في كتابه "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"، على سبيل المثال، رفضه وبذلك ألغى تأثيره. وانطبع ذلك على الإنتاج الثقافي الإسلامي بشكل كبير، فاعتبر الإمام الشافعي، مؤسس المذهب الفقهي الشهير، أن الرجل الأزرق الذي لا شعر في وجهه وذو جبين جاحظ، هو صاحب أكثر الملامح "شراً"، حيث يقول: "خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت على رجل في الطريق وهو محتب بفناء داره، 'أزرق العين' ناتئ الجبهة، سناط." ثم يقول عن ملامح الرجل: "وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة". ونسب للشافعي أيضاً أنه قال: "إذا رأيت كوسجاً فاحذره، وما رأيت من أزرق خيراً"، بحسب كتاب "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي.العيون الزرقاء تيمة في الصراع الهاشمي الأموي
زرقة العين استخدمت في الصراع الهاشمي الأموي، بشقيه العباسي—الأموي والعلوي—الأموي، خاصة في العهد العباسي، مع القرن الثاني الهجري، فنجد عالم اللغة إسماعيل بن حماد الجوهري (تـ.393هـ/1003م)، يقول ساخراً من شخص يفضل "يزيد بن معاوية بن أبي سفيان"، على "الحسين بن علي": رأيت فتى أشقراً أزرقاً قليل الدماغ كثير الفضول يفضِّلُ من حمقه دائباً يزيد بن هندٍ على ابن البتول وكان الهيثم بن عدي، (تـ. في بدايات القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي)، أول من وضع تراجماً للأعلام، مصنفة وفقاً لما اعتبره "عاهات" أصحابها الجسدية. وقسم من ذكرهم في تراجمه على 5 فئات: العميان، والعور، والحول، والزرق، وجاحظو الأسنان. وحفظ أبو عثمان الجاحظ النسخة المحفوظة الوحيدة للهيثم بن عدي، في كتابه "البرصان والعرجان والعميان والحولان". واللافت للنظر أن أصحاب العيون الزرقاء الذين ذكرهم بن عدي هم "عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، العباس بن الوليد بن عبد الملك، مروان بن محمد بن مروان"، وكلهم من سادات بني أمية. الهيثم كان معروفاً بانحيازه الشديد للعباسيين، وأعد هذه القائمة للينتقص من الأمويين، وجاءت تماشياً مع الحملة التي ساقها أنصار بني العباس ضد الأمويين، كما تقول كريستينا ريتشاردسون في بحثها في تاريخ العيون الزرق. وحين هُزِم الأمويون في الشرق العربي، وقامت الدولة العباسية، وفرّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس البعيد عن مركز العباسيين في العراق، ليؤسس إمارة أموية هناك (138/756هـ ، 428-1036م)، انتشرت العيون الزرقاء بين العائلة الأموية بقوة. عرف عن خلفاء بني أمية، ما عدا واحد منهم، أنهم كانوا شقر الشعر، وكان لأغلبهم عيون زرقاء. سبب ذلك أنّ أمهات الأمراء والخلفاء الأمويين في الأندلس كنّ شقراوات، لأنهن بالأساس كنّ من الجواري أو الأسيرات المسيحيات (يقال أنّ أمّ عبد الرحمن الناصر، أو الثالث كما يشار إليه في بعض المصادر، كانت أميرة من إقليم الباسك)، فكنّ بغالبيتهن من الشمال الأوروبي. والنسب الأمومي للأمويين الأندلسيين موضوع تتقاطع فيه السلطة مع التاريخ، ويمكن التوسع في دراسته في مقالة للباحثة فيرتشايلد رغليز عنوانها: "أمهات السلالة الهجين: العرق والنسب والتثاقف في الأندلس- "Mothers of a Hybrid Dynasty: Race, Genealogy, and Acculturation in al-Andalus".التحول إلى حب العيون الزرقاء
في نهايات الدولة العباسية، وبعد ما تبعه من دخول المغول بغداد عام 1258 وسقوط عاصمة العباسيين، ضعفت الحملة المعادية للأمويين. وفي تلك الفترة، بدأت النظرة للعيون الزرقاء تتغير، بحسب كريستينا، التي توضح أن ذلك استمر في العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني حتى العصر العربي الحديث. وهنا ظهر كُتّاب أعربوا عن فخرهم بماضيهم الأموي في الشام، بإحياء الأدب الذي يمدح الأمويين، خاصة في دمشق التي كانت عاصمتهم، بوضع مؤلفات عن فضائل بلاد الشام، وأصبحت العيون الزرقاء أمراً يدعوا للتباهي لا إلى "التجريس". وتنقل كريستينا عن كتاب "ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر"، للصالحي محمد بن طولون الدمشقي، (953هـ/1546م) أنه لا يعرف شخصاً جميلاً له عينان داكنتان، معتبراً أن العيون السوداء أقرب ما تكون إلى العيب منها إلى الجمال، إذا ما قورنت بالعيون الزرقاء. ابن طولون كان دمشقياً، ومن كتبه "قيد الشريد في أخبار يزيد"، الذي تناول فيه أخبار يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، كما أنّ له مؤلفات عدة تهتم بالشام وبدمشق، وتميل إلى الفخر بماضيها الأموي. ساد توجه لدى شعراء من أبناء هذا العصر اهتم بالتغني بالعيون الزرقاء، ومنهم الوأواء الدمشقي، الذي يقول: وكأن زُرْقَ نجومها ... حَذقٌ مُفَتَّحة نيامْ وكذلك يقول: يا من هو الماء في تكوين خِلقته ومن هو الخمر في أفعال مقلته ومن بزرقة سيف اللحظ طلَّ دمي والسيف ما فخره إلاَّ بزرقته علَّمت إنسانَ عيني أن يعوم فقد جادت سباحتُه في بحر دمعته وهكذا بدأ العرب التغني بالعيون الملونة، واستمر ذلك حتى وقتنا هذا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...