في هذه التدوينة، استحضر سريعاً كيف امتدت الحركة النسوية المصرية من الحركة الوطنية والصراع ضد الاحتلال إلى الصراع على حقوق الجسد والجنسانية. التدوينة تستعرض مقتطفات من تاريخ الحركة، ولا تؤرخها.
بدأ تأريخ الحركة النسوية المصرية مع ما تم الوصول إليه من كتابات نسائية في أواخر القرن التاسع عشر: مثل عائشة تيمور وزينب فوّاز. وعلى الرغم من تعدد هذه الكتابات، فإن أكثرها شهرة كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الصادر عام 1899.
ما أثاره كتاب أمين كان جدلاً موسعاً ارتبطت به قيم الحداثة باتهامات التغريب ودعوات الحفاظ على الهوية المصرية. ولكن من ينقذ الهوية؟
صوّرَت النساء ولم يزلن بحارسات الهوية، وهو مفهوم اشترك في الترويج له الفريقان: فريق الأصولية، وفريق الحداثة.
ارتبط المفهوم بالصراع ضد الاحتلال ومحاولات بعض المنخرطين في الحركة الوطنية استدعاء قيم الأصولية للتمييز بين ما هو شرقي وما هو غربي. وكنتيجة لهذا التداخل بين الحياة السياسية والاجتماعية، تمت استعارة مفاهيم مثل "الشرف" القائم على اعتبار أجسام النساء ملكيات للأسرة، للتدليل على أهمية الحفاظ على الأرض من المستعمرين، كما تقول الباحثة "بيث بارون" في كتابها "مصر كامرأة"، والعدد الثالث عشر من "مجلة طيبة" الصادرة عن "مؤسسة المرأة الجديدة" عام 2009. أما النهج فاختلف جذرياً.
بينما روّج الأصوليون لضرورة "عزل" النساء عن المجال العام والحركة السياسية للحفاظ على الهوية، معتمدين في ذلك على الربط بين دور النساء الإنجابي واقتصار هذا الدور على المنزل أو المجال الخاص، روّج رواد الحداثة لضرورة "إدماج" النساء في المجال العام للخروج من ظلام الجهل والاستعمار إلى نور العلم والاستقلال، معتمدين على نفس المبدأ: النساء هن اللواتي يربّين الأجيال. لذا، فعزلهن أو انخراطهن في المجال العام هو مسألة قومية وليست فردية.
النساء للفريقين تم تعريفهن بأدوارهن داخل الأسرة: هن المُنجبات والمُربيات وحافظات هوية الأمة.
وهو ما تراه الباحثة «ليلى أبو لغد» مُتجلياً في عبارة قاسم أمين: "رجال الغد وأمهات المستقبل". وعبارة أحمد لطفي السيد: "التعليم هو الوسيلة الوحيدة لاستقلال حقيقي، وأهم من تعليم المدرسة هو التعليم داخل الأسرة"، في كتابها: "النسوية والحداثة في الشرق الأوسط".
أي أن الرجال يُعرّفون بكونهم رجالاً وبكون مكانهم هو المجال العام. أما النساء فتم تعريفهن بأدوارهن الإنجابية كأمهات، حتى في السياق الذي تم الترويج له كسياق "تحرري".
كيف اختلف صراع النساء على حقوقهن منذ الاحتلال حتى ثورة يناير؟
بين القومية، والتأميم، والحق في الجسد: كيف شقت الحركة النسوية طريقها كحركة سياسية؟في أوائل القرن العشرين، طورت هذا الخطاب بعض رائدات الحركة النسائية مثل هدى شعراوي، وأسست "الاتحاد النسائي المصري". وأثارت «شعراوي» النقاش حول ضرورة انخراط النساء في الصراع ضد الاحتلال. لم ينفصل هذا الانخراط عن أدوار النساء الإنجابية، فربطت شعراوي وأخريات من نساء الطبقة المتوسطة الصراع ضد الاحتلال بالعمل الخيري والمتمثل جزئياً في قيامهن بتعليم الريفيات. لا يمكننا تجاهل عامل الطبقة في هذا السياق، لأن نساء الطبقة الوسطى كنّ في صدارة الصراع على حق التعليم، لكنهن في الوقت ذاته لم يتركن طبقتهن الاجتماعية والنظر للريفيات على كونهن مستقبلات فقط، برغم مشاركة الأخيرات في أحداث سياسية مثل مسيرات 1919. في دستور عام 1923 صدر لأول مرة في تاريخ مصر نص يقر بحق النساء في التعليم الأساسي. [caption id="attachment_126608" align="alignnone" width="700"] هدى شعراوي[/caption] قبيل ثورة يوليو، استمرت الحركة النسائية المصرية في ارتباطها بالحركة الوطنية، فكانت السينما مرآة لدعوات تحرير النساء وربطها بالصراع الوطني والنزعة القومية. في هذا الصدد، صدرت رواية الكاتبة لطيفة الزيات، "الباب المفتوح"، وأخرى مثل "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ. وبرزت بعض الرائدات، ناشطات مستقلات مثل درية شفيق، أو منخرطات في العمل الحزبي الاشتراكي مثل إنجي أفلاطون. انتقل التركيز جزئياً من الحق في التعليم إلى الحق في المشاركة السياسية، مثل حق التصويت الذي لم يمنحه دستور 1923 للنساء برغم مشاركتهن الواضحة في الحركة الوطنية. تقول الباحثة النسوية سينثيا نيلسون، إنه في العام 1952 طالبت درية شفيق بمزيد من الحقوق السياسية التي وعدت بها ثورة يوليو، فأجابها الرئيس المعزول محمد نجيب بأن "منح الكثير من الحقوق للنساء سيُثير غضب القوى الأصولية المُعارضة للثورة". [caption id="attachment_126609" align="alignnone" width="700"] درية شفيق مع محمد نجيب[/caption] بعد ثورة يوليو، تم تأميم الحركة النسائية المصرية المستقلة. وبدأ اتجاه الحركة النسائية يكون تحت رعاية دولة ما بعد الاحتلال، وعُرفت في ما بعد بـ"نسوية الدولة". أُلقي القبض على إنجي أفلاطون وزينب الغزالي، واتجهت سيزا نبراوي إلى الانخراط في الحركات النسائية العالمية، وتم وضع درية شفيق قيد الإقامة الجبرية، بينما ظلت لطيفة الزيات تُمارس نشاطها ككاتبة وليس كناشطة نسائية، وفقًا للباحثة لورا بيير في كتابها "الحركات النسوية، الحداثة، والدولة في عهد عبد الناصر". وفي المقابل، عكست السينما هذا التوجه. كانت هناك أفلام تُدين "التحرر" مثل: الثلاثة يحبونها، عدو المرأة، وأه من حواء. وتحت لواء نسوية الدولة، صدر دستور 1956 بأحقية النساء في التصويت، وتقلد المناصب العامة، مُتضمناً تشريعات لحماية حقوق العاملات في المصانع. هذه الحقوق والتي وصفها البعض بالعلمانية، تمت بالتوازي مع تأميم الحركات المستقلة وإحكام قبضة دولة يوليو على الحياة السياسية والاجتماعية. في الستينات تأثرت الحركة النسوية بهزيمة 1967 شأنها شأن بقية الحركات السياسية. وفي السبعينات برزت كتابات الدكتورة نوال السعداوي كأول كتابات معنية بأجساد وجنسانية النساء بحكم مهنتها كطبيبة نساء وتوليد. تسببت تلك الكتابات بتكفير واعتقال السعداوي عدة مرات، خاصةً بعد سياسات «السادات» وفتح الفضاء العام أمام الحركات الإسلامية لمواجهة الحركات اليسارية ومُعارضي سياسات الانفتاح الاقتصادي وتوجهاته النيوليبرالية. في الثمانينيات، توغلت تلك الحركات في الحياة الاجتماعية واتخذت من النساء محوراً للهوية الإسلامية، أو ما يُعرف بالمد الوهابي. تعالت الأصوات المنادية بمكوث النساء في المنزل وارتداء الحجاب كرمز للهوية الإسلامية، يعتبره الباحث بول عمّار توجهاً اقتصادياً جامعاً بين القومية والأخلاقاوية المحافظة. لكنه كان مطلباً غير واقعي. فبسبب تدهور الأحوال الاقتصادية وسياسات الخصخصة تدفقت العمالة النسائية إلى سوق العمل بدافع الضرورة وليس الرفاهية. في نفس الحقبة، بدأت المجموعات النسوية في التشكل وفقاً للقانون المصري. تأسست المنظمات غير الحكومية مثل مركز قضايا المرأة المصرية، وجمعية نهوض وتنمية المرأة، ومركز دراسات المرأة الجديدة، ومؤسسة المرأة والذاكرة. امتد الصراع على تعديل قوانين الأحوال الشخصية في الثمانينيات والتسعينات وعرفت بقوانين جيهان، نسبة إلى جيهان السادات. تلتها قوانين الأسرة مثل الخلع والحضانة وعرفت بقوانين سوزان، نسبة إلى سوزان مبارك، رغم وجود مجموعات ضغط نسوية مستقلة لتحسين تلك القوانين. ووقعت مصر على اتفاقية "إنهاء كافة أشكال العنف ضد المرأة – السيداو" مع بعض التحفظات. في أوائل الألفية الثالثة، تم تأسيس «المجلس القومي للمرأة». سُلط الضوء على قضايا العنف الجنسي في المجال العام. وكانت قضية المصرية "نهى رشدي" أول قضية تحرش جنسي في المحاكم المصرية. بدأت قضايا الجسد تتبلور في واحدة من أهم قضايا الزواج العرفي والمنسوبة لـ"هند الحناوي" التي قاضت فيها عائلة "الفيشاوي" للاعتراف بنسب طفلتها. حتى كانت ثورة يناير 2011، التي شهدت حراكاً نسوياً قاعدياً، أي برزت من خلاله أدوار ناشطات مصريات ومجموعات نسوية مستقلة لم ينخرطن بالعمل النسوي قبلاً. واتخذ الصراع على الحق في المجال العام شكلاً أكثر وضوحاً، وتمحور حول قضية العنف الجنسي، خاصة بعد اعتداءات جنسية ضد ناشطات في التحرير نوفمبر 2012. كما أصبح نهج الحق في الجسد محوراً هاماً في هذا الصراع، نتجت منه قضايا أخرى كالحق في الإجهاض الآمن أو النقاشات المفتوحة حول العذرية. أجسام النساء بين العام والخاص، ومن قومنة تلك الأجسام إلى محاولات تحريرها المختلفة، تشكلت الحركة النسوية المصرية باختلاف تياراتها وأيديولوجياتها. ومن رحم إشكالياتها ولد تنوعها الذي أثراها. أكثر من مئة عام من النضال النسائي والنسوي غير المنفصل عن الحركة السياسية والذي مر بخصوصية سياقه المحلي وأثر فيه وتأثر به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...