شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل أكل الصليبيون جثث المسلمين بعد معركة معرة النعمان؟

هل أكل الصليبيون جثث المسلمين بعد معركة معرة النعمان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 3 فبراير 202509:40 ص

تُخفي رفوف المكتبات بين طبقات الغبار الكثيفة العديد من القصص التاريخية التي طواها النسيان، تماماً كما توارت بين صفحات الكتب حكايات أخرى تبدو اليوم ضرباً من الخيال، مثل أن يأكل الإنسان جسد إنسان آخر، تارةً باسم الإله، وتارةً أخرى تحت وطأة الجوع.

غير أن مطالعة كتب التاريخ، ولا سيما ما كُتب عن الحملات الصليبية، لا تقتصر على وصف المعارك الطاحنة التي خاضها الجنود الشُقر القادمون من أوروبا ضد المسلمين السُمر على خيولهم الأصيلة، بل تُسلِّط الضوء أيضاً على الخطابات التي أجَّجت العداء بين الجانبين وعزَّزت النزعات العنصرية المتبادلة. وقد بلغت هذه الكراهية، حين اقترنت بالجوع الشديد، حدّاً جعل بعضهم يلجأ إلى التهام جثث خصومهم.

تشير المصادر التاريخية، سواء تلك التي كتبها المسلمون والعرب أو الصليبيون الغربيون، إلى أن الحروب الصليبية شهدت أحداثاً تجسّد أقصى درجات الكراهية واحتقار الآخر، حيث ورد أن الجنود المسلمين والصليبيين كانوا يشقّون أجساد القتلى الملقاة على الأرض ليستأصلوا المرارة، إذ كان الاعتقاد السائد آنذاك أنها تحمل فوائداً طبية وخصائصاً سحرية.

لكن من أكثر الروايات إثارة للصدمة ما ينقله المؤرخ البريطاني "ستيفن هوارث" في كتابه فرسان الهيكل: القصة الأساسية، نقلاً عن "بيتر الناسك" – أحد أبرز الدعاة إلى الحروب الصليبية – إذ يقول: "ألا توجد وفرة في لحوم الأتراك؟ إذا طُهيت ومُلّحت، ستكون صالحة للأكل."

بهذه العبارة الصادمة، مَنح بيتر الناسك أتباعه الفقراء والجوعى رخصة لالتهام جثث المسلمين في المنطقة الممتدة بين أنطاكيا (في تركيا حالياً) ومعرة النعمان (في سوريا). وهكذا، تحول كانون الأول/ديسمبر من عام 1098 إلى مسرح لوليمة تقشعر لها الأبدان. والمفارقة أن هذه الفظائع ارتُكبت تحت غطاء الورع والتقوى، في سياق ما عُرف بـ"الحرب المقدسة" لتحرير القدس من "نجس" المسلمين، الذين كان يُشار إليهم حينها باسم "الأتراك".

ألا توجد وفرة في لحوم الأتراك؟ إذا طُهيت ومُلّحت، ستكون صالحة للأكل

لكن لكي نفهم كيف يمكن لإنسان أن يأكل جسد إنسان آخر باسم الفضيلة، ينبغي أن نتعرّف عن كثب على شخصية الطاهي، والمتمثلة في "بطرس الناسك" أو "بيتر الناسك"، كما وصفته الكتب المتخصصة بالحروب الصليبية وفرسان الهيكل.

ينقل " هوارث" في مؤلفه فرسان الهيكل: القصة الأساسية، وصفاً لـ"بطرس الناسك" دوّنه أحد أتباعه ويدعى جيليبير دي نوجان: "بدا لي إلى حد كبير أشبه بالحمار، وكانت رائحته، إلى حد كبير، أشد سوءاً من رائحة الحمار. وعلى الرغم من ذلك، أو ربما بسبب ذلك، جاء هذا الرجل القبيح كريه الرائحة، حامل الراية، مثل المسيح المنتظر، لكل أولئك الذين يطلبون حياة جديدة".

الورِع الجشِع

وُلد بطرس الناسك على الأرجح في مدينة أميان بفرنسا، وعُرف بكونه داعياً متعصباً للمسيحية، وكان له تأثير كبير في تحريض المسيحيين الأوروبيين، خاصة الفقراء والمعدمين منهم، على المشاركة في الحروب الصليبية.

وصفته الكتب بأنه كان يرتدي قبعة مهترئة ويركب حماراً يتنقل به عبر الحدود الأوروبية، مدّعياً أنه رأى المسيح في المنام، وأنه أمره بالذهاب إلى بيت المقدس لتطهيرها من المسلمين "الغرباء".

انضمت إلى حماسته جموعٌ من الفلاحين الجوعى، معدومي التأهيل والتدريب، مما عرَّض هجماته لهزائم متكررة. لكن جحافل الجيوش النظامية، التي أعدتها الكنيسة والتي ستُعرف لاحقاً باسم "فرسان الهيكل"، أنقذت ما تبقى من هذه الجموع ومكَّنتهم بالفعل من الوصول إلى القدس في صيف عام 1099. لكن يبدو أن القداسة لم تُغْرِ "بطرس الناسك" بالبقاء هناك، فعاد إلى أوروبا. وفي مدينة "هوي" في بلجيكا، بنى ديراً صغيراً وعاش فيه حتى وفاته.

وصفات كانيبالية

يَشتهر المطبخ الفرنسي بمكوناته وأطباقه الباهظة الثمن، لكن قلما تناول المؤرخون ملاحظات الجنود الفرنسيين الذين انضووا تحت راية مواطنهم "بطرس الناسك" حول انطباعاتهم عن أكل لحوم المسلمين النيئة والمشوية في معرة النعمان.

غير أن حلقة بودكاست من إنتاج صحيفة "لو بوان" الفرنسية ذكرت تفاصيل مفزعة عن الوليمة الكانيبالية التي لم تستثنِ حتى جثث الأطفال! فتشير الحلقة إلى مجند فرنسي مجهول دوّن شهادته الشخصية وتجربته مع أكل لحم البشر بالقول: "كانوا يقطعون الجثث لأنهم اعتقدوا أن هناك عملات ذهبية مخبأة في بطونها. فيما عمد آخرون إلى تقطيع اللحم قطعاً صغيرة، ثم طهوها وأكلوها".

اتفقت معظم توصيفات الجنود حول طعم جثث المسلمين على أنها تشبه إلى حد كبير طعم لحم الخنزير

مجند آخر يدعى "رودولف دو كان" ذكر في شهادته: "قسمنا الجثث، غلينا الكبار في قدور، أما الصغار والأطفال فقد شوينا لحومهم على أسياخ". وفي تعليق لا يخلو من العنصرية، يشير معدو الحلقة إلى أن هذه "الحادثة" أساءت إلى سمعة المطبخ الفرنسي لقرون طويلة! إذ ظلت ظلال الجريمة تحوم حول الأطباق شديدة الأناقة في مدينة النور.

أما في ما يتعلق بجودة الطعام، فقد أورد هوارث في مؤلفه توصيفاً عن تعليقات الجنود حول طعم جثث المسلمين، حيث اتفق معظمهم على أن الطعم شبيه إلى حد كبير بلحم الخنزير.

الكراهية تؤكل نيئة

وتذكر الوثائق التاريخية أن هذا الإيغال في جسد المسلمين واستباحته إلى حد التهامه، لم يأتِ فقط بسبب الجوع الذي ضرب الجحافل الأولى من الصليبيين أثناء حصار أنطاكيا، بل جاء كنتيجة لتعبئة عنصرية صاغتها الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الحين، حول وحشية المسلمين، وانتهاكهم لحرمات الأماكن المقدسة، وذبحهم للمسيحيين والتنكيل بهم.

ففي خطبته الشهيرة، التي يحسبها المؤرخون أول إعلان عن الحروب الصليبية، يقول البابا أوربان: "إن المسلمين يعبثون بمذابحنا ويدنسونها، ويختنون المسيحيين، ويسكبون دم المختونين على المذابح أو في جرن المعمودية".

يقول المؤرخون إن البابا أوربان كان يتمتع بحسٍّ مسرحي، وهو ما يتجلى ليس فقط في المرويات الصادرة عنه، والتي جرى تصديقها تلقائياً كونه ممثل الرب على الأرض، بل أيضاً في طريقته في السرد. ففي الخطبة الشهيرة التي ألقاها أمام جموع غفيرة في كليرمون، قال: "إن المسلمين يأخذون المسيحيين ويبقرون بطونهم، ثم يربطون أمعاءهم في خازوق، وبعدها يطعنونهم برمح، ويجعلونهم يركضون حتى تخرج أحشاؤهم ويسقطون على الأرض ميتين".

تساءل المسلمون حينها: كيف يمكن هزيمة جنود لا يتورعون عن أكل لحوم الآخرين باسم الإله؟ 

كما يشير موقع "ميديڤاليست" المتخصص بتاريخ العصور الوسطى إلى أن وليمة أكل لحوم المسلمين كانت نقطة تحوّل استراتيجية. ففور انتشار القصة، دبّ الرعب في قلوب المسلمين. وبحسب الموقع، فإن العديد من الشهادات التي ذكرها المؤرخون العرب والمسلمون عن تلك الحقبة نقلت تساؤلات حول كيفية مقاومة جنود لا يتورعون عن أكل لحوم الآخرين باسم الإله. وهو ما أدى إلى تسارع المكاسب لصالح الصليبيين، حتى تمكنوا بالفعل من احتلال القدس بعد أشهر قليلة من هذه الوليمة.

بدوره، يذكر آندريا ماراشي، المحاضر في جامعة بولونيا الإيطالية والمتخصص في تاريخ العصور الوسطى وأنثروبولوجيا الغذاء، في كتابه "الطعام والبدع والحدود السحرية في العصور الوسطى"، أن الدافع وراء إقدام الجنود الصليبيين على التهام الجثث في معرة النعمان لم يكن مجرد الجوع، بل جاء نتيجة تراكم تصورات سحرية ودينية متجذرة في ثقافتهم.

يشير الكتاب إلى أن العصور الوسطى شهدت انتشار معتقدات ربطت بين تناول أجزاء بشرية واكتساب قدرات خارقة، وهي أفكار تأثر بها بعض الصليبيين وساهمت في تبرير أفعالهم، ليس فقط بدافع الضرورة، ولكن أيضاً ضمن إطار ديني. وقد تفاقم هذا السلوك مع المجاعة التي ضربت الجيوش خلال حصار معرة النعمان.

تاريخ خالٍ من الدسم

لكن لماذا لم يتم التركيز على هذه القصة كثيراً في المرويات التاريخية المتعلقة بالحروب الصليبية؟ تجيب عن هذا السؤال الباحثة السورية في التاريخ، فرح يونس، المتخصصة في الآثار الرومانية والمقيمة في أمستردام، أن هناك فرقاً بين التاريخ والتأريخ؛ ففي الحالة الثانية، يكون محكوماً بحالة شخصية بحتة، عادةً ما تكون مدفوعة باصطفاف أيديولوجي. ولذلك، نرى أن كثيراً من المرويات التاريخية التي حصلت بالفعل تتوارى وتختفي، ولا يُعاد اكتشافها إلا من خلال إماطة اللثام عنها عبر البحث والحصول على مراجع جديدة.

وتضيف يونس لرصيف22: "إن سطوة السردية المتعلقة بالحروب الصليبية لم تأتِ من المؤلفات التاريخية بقدر ما جاءت من الروايات التي مزجت الحقائق بالخيال، جاعلةً من فرسان الهيكل مادة مثيرة للفضول الممزوج بالإعجاب"، لافتةً إلى أن السينما استثمرت في الغموض الذي يحيط بفرسان الهيكل وأعادت تمثيلهم ليحملوا رسائل أيديولوجية مختلفة.

فرح يونس: المطلوب هو إعادة تمحيص ما كتبه المؤرخون العرب حول الحروب الصليبية، والخروج بسردية توثيقية بلغة عصرية يصلح تحويلها إلى أعمال درامية.

كما أوضحت يونس أن السينما استوحت شخصيات فرسان الهيكل من الإرث الفني الكبير المرتبط بحقبة الحروب الصليبية، المتمثل في اللوحات التي صوّرتهم بزيهم الفولاذي، وبطولاتهم التي أُرفقت بهالة من القداسة. واستدركت بالقول إن الإرث الفني عاد من جديد بسردية جديدة للكنيسة. ففي الأولى، قدّست الكنيسة الكاثوليكية مكانتهم، وذلك لأنها كانت مستفيدة من الاستثمار بفرسان الهيكل، وفي السردية الأخرى، حطّت من شأن فرسان الهيكل واتهمتهم بالتجديف والشرك لأن الكنيسة تخوّفت من تنامي نفوذهم، الأمر الذي جعل فرسان الهيكل مادة شديدة الجاذبية لخيال الكُتّاب ولمخرجي السينما، على حد تعبيرها.

وختمت يونس قولها بالتأكيد على أن غياب سردية عربية حول فترة الحروب الصليبية، بصورة ممتعة وجذابة، يُسهم في ضعف السردية التاريخية. فالمطلوب هو استخدام ما كتبه المؤرخون العرب وتمحيص شهاداتهم وفق أصول البحث العلمي المتبعة أكاديمياً، والخروج بسردية توثيقية تشمل المكان والزمان والحوادث، بلغة عصرية تغري بقراءتها والاستفادة منها حتى في أعمال درامية وسينمائية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image