شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"نحن في الداخل"، في بيت ككثير من البيوت العربية… وشيء آخر يحدث

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

الخميس 19 ديسمبر 202409:02 ص

يلقي بنا فيلم "نحن في الداخل" في قلب الحدث مباشرةً، بلا تمهيد أو مفتتح، فنجد أنفسنا كما لو أننا من أفراد هذا المنزل العادي العائد لأسرة من الطبقة المتوسطة. بيت يشبه بيوت العديد من العرب، بأثاثه الذي شهد أياماً أفضل، وإن ما زال يحمل بقايا أناقة، والديكورات الزائدة عن الحاجة وتدلّ على محاولات اقتراب من الموضة العالمية توقفت لفقدان الشغف أو لوفاة الشخص المسؤول عن هذه المحاولات.

نافس فيلم "نحن في الداخل" في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة خلال فعاليات الدورة السابعة لمهرجان الجونة السينمائي التي جرت أحداثها في الفترة ما بين 24 تشرين الأول/أكتوبر وحتى 1 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وفاز بجائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي.

"نحن في الداخل" من إخراج اللبنانية فرح قاسم وهو أول أفلامها الطويلة، وقد عُرض من قبل في مهرجان "فيزيون دو ريل" السينمائي الدولي، حيث حصل على تنويه خاص.

عائلة يجمعها الفن ويفرّقها المرض

يمتد الفيلم على ثلاث ساعات، حيث يقدّم عبر سرد متمهل تفاصيل العلاقة التي جمعت بين المخرجة فرح، ووالدها المدرّس السابق والشاعر مصطفى قاسم، في السنوات الأخيرة من حياته.

يلقي بنا "نحن في الداخل" في قلب الحدث مباشرةً، بلا تمهيد أو مفتتح، فنجد أنفسنا كما لو أننا من أفراد هذا المنزل العادي العائد لأسرة من الطبقة المتوسطة. بيت يشبه بيوت العديد من العرب

يعيش في منزل هذه العائلة أبٌ تكشف الأحداث عن مرضه، وابنة متفانية في خدمته، وخادمة ظلت مع العائلة لما يقارب ربع قرن. لا يُسرع الفيلم في كشف ديناميكيات العلاقة بين الأب وابنته، بل يترك الأحداث نفسها لتفصح عنها.

ملصق فيلم "نحن في الداخل"

هذه ليست عائلةً تقليديةً تخدم فيها الابنة والدها لأداء الواجب، كما تربينا في عالمنا الذي يقدّس الأبوين ويمحو عنهما ما تقدّم وما تأخّر من ذنوبهما لمجرد أنهما شاركا في جلبنا إلى العالم، بل علاقة مغلّفة بالمحبة الخالصة، يختلط فيها الحزن بالبهجة، والشغف بالحياة والشعر والفن مع خفّة ظلّ الأب وابنته والدعابات المشتركة حيناً، وتلك الناتجة عن اختلاف الأجيال حيناً آخر.

حين يركز عمل فني على علاقة الأبوة والبنوة، ينظر إليها المتلقي كما لو أنها علاقة ثنائية؛ أب أو أم من ناحية وابنة أو ابن من ناحية أخرى، في اختزال يتناسى طبيعة الحياة البشرية، فالأب أو هنا هو جزء من ثنائية أخرى سابقة، تأثر بها، وأثرت في ثنائيته التالية عندما تخلى عن دور الابن وتحول إلى دور الأب.

يكشف الأب مصطفى، أن عشقه للشعر العربي، الذي حوّله إلى شاعر له دواوين منشورة وجماعة شعرية، بدأ بمحبة والده للشعر في قريته الصغيرة، عندما كان يجتمع الوالد مع الأصدقاء يستمتعون بأبيات الشعر العربي، وفي محاولة لإثارة مصطفى المراهق إعجاب والده، قرض الشعر مثله وتعلّم فهمه وإلقاءه.

تأتي هذه المعلومة لتضيء لنا جانباً في الشخصية الرئيسية، فهو لم يكن دائماً ذاك العجوز المريض ذا الدم الخفيف واللسان الحلو مع الغريب والقريب، بل عبر الفيديوهات المصوّرة له نراه في منتصف العمر وهو يحتفل مع أصدقائه، وعبر السرد نعرفه طفلاً ومراهقاً يسعى إلى لفت انتباه الكبار عبر إثارة إعجابهم.

كاميرا تتراوح بين التلصص والحضور

تتراوح الكاميرا في "نحن في الداخل"، بين التلصص والحضور الواضح، فنجدها خلف خصاص النافذة ومن وراء الباب، تتابع مناقشةً عاديةً بين بطلينا، وفي أحيان أخرى نستشعر وجودها الراسخ عندما تنتقل الأحداث إلى الجلسات الشعرية التي تجمع الأب مع أصدقائه.

يعلم الأب أنه يخضع للتصوير، غير أن حضور الكاميرا لا يفقده تلقائيته، فيتناساها ويسمح للمتفرج بالتسلل إلى منزله ويجلس بجواره على الأريكة وهو يكتب الشعر على هاتفه المحمول، ثم يتصل بصديقه ليتناقش معه في مفردة يراها الأنسب لبيت شعر كتبه.

بينما في لقطات أخرى يصبح للكاميرا حضور واضح عندما تضعها فرح أمام وجهها، وتنظر إليها مباشرةً، في محاولة لنقل أفكارها ومشاعرها في اللحظة الآنية، أو عندما تراقب خلالها أفراخ الطيور التي فقست بيضاتها على حافة نافذتها.

تأخذ الكاميرا وضعيتين أخريين في الثلث النهائي من الفيلم، أولاهما في مشهد الحوار الأخير بين الأب وابنته، فتقف الكاميرا ومن خلفها المشاهد موقف المتنصت على حوار خاص، خارج باب الغرفة، بينما في الداخل على الطرف الآخر من الغرفة تجلس فرح ومصطفى قاسم مديرَين ظهريهما لنا وللكاميرا، فلا نرى ملامح وجهيهما، إنما نسترق السمع لحوارهما الوداعي.

ملصق فيلم "نحن في الداخل"

تسأل فرح والدها: لماذا تعتقد أني أصوّر هذا الفيلم؟ يتهرب من الإجابة، مرةً واثنتين وثلاثاً، حتى تنهار وتخبره عن هلعها من نسيانه كما نسيت والدتها المتوفاة، وعن رغبتها في سجنه داخل هذه الكادرات السينمائية. تتشبث بصورته وصوته وذكراه. يختنق صوته بالدموع وهو يخبرها بأن رحيله يصعب عليه كما يصعب عليها، ويرجوها ألا تجبره على البوح بما يفكر فيه، فالحزن يغمره ليس فقط لأنه سيغادر هذا العالم، إنما بالأحرى لأنه مجبر على وداعها.

تعود الكاميرا إلى صورتها التسجيلية التوثيقية التقليدية في مشهد خروج جثمان الأب من المنزل، تقف بعيداً لترصد كل الفوضى الحادثة في مثل هذه الأحوال، من هرج ومرج وبكاء وقلق، وتفاصيل صغيرة تزيح عن الموت شاعريته، وتجعله شيئاً أرضياً يجب التعامل معه بطريقة تفقد الجسد البشري قدسيته.

نحن في الداخل ولبنان في الخارج

يشير عنوان الفيلم إلى الفقاعة التي تحيا فيها المخرجة ووالدها وأصدقاؤه بمعزل عن الأزمات السياسية في الخارج، ويتفاعلون معها من وقت إلى آخر، فتسعد هي بالأحداث الثورية، بينما يتجادلان حول الانتخابات، غير أنهم في النهاية يلقون كل ذلك خلف ظهورهم ما إن يبدأ الأب بإلقاء الشعر الذي يؤلفه، ويحتمون بالفن والمحبة سواء من فوضى العالم حولهم أو من أسى اليقين بأنها الأيام الأخيرة له في الحياة.

إحدى اللقطات المتكررة في الفيلم تتمثل في الكاميرا وراء خصاص النافذة تلتقط ما يحدث في الميدان مقابل المنزل. يلاحظ المشاهد تواجد عربيات أمنية بشكل مكثّف، وبعض المناوشات والهتافات، ما يؤكد على المعنى ذاته؛ ما يحدث في الخارج يظلّ في الخارج، وإن ظلّت المخرجة محافظةً على فضولها تجاه ما يحدث خارج حدود بيتها، وضمنته في فيلمها لأنه الكون الموازي لما صنعته مع والدها.

يشير عنوان الفيلم إلى الفقاعة التي تحيا فيها المخرجة ووالدها وأصدقاؤه بمعزل عن الأزمات السياسية في الخارج، ويتفاعلون معها من وقت إلى آخر، فتسعد هي بالأحداث الثورية، بينما يتجادلان حول الانتخابات

تكررت زيارة فرح قاسم لطبيب الأذن خلال أحداث الفيلم، لتجري اختباراً للسمع مرات عدة، وما يفيد الفيلم من هذه الزيارات النقاش الذي يدور بينها وبين الطبيب، فكلاهما قام برحلتين من لبنان وإليه، وكلاهما غادر بحثاً عن مستقبل أفضل، ثم عاد بسبب الحنين، وأُحبط نتيجة الأوضاع السيئة من ناحية، وغياب الأمل في تحسين هذه الأوضاع من ناحية أخرى.

في اللقاء الأول بين الطبيب ومريضته، عبّرا عن هذا الإحباط، بينما في الثاني ظهر شعور آخر، أمل خافت نتيجة ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر أو الاحتجاجات اللبنانية بين 2019-2021، وهي سلسلة من الاحتجاجات المدنية التي جرت في لبنان.

وعلى الرغم من تركيز الفيلم بشكل واعٍ على العلاقة بين فرح ووالدها، إلا أن هموم بلدهما تسللت إلى فقاعتهما بين آن وآخر لتعكّر الصفو، سواء خلال اختلافهما على بعض الآراء السياسية، أو الشخصيات الفاعلة في الوضع اللبناني، أو حتى مجرد متابعة ما يحدث على شاشات التلفاز.

"نحن في الداخل" مثال ممتاز على مصطلح "الشخصي سياسي"، وهو شعار سياسي يؤكد على العلاقة بين التجربة الشخصية والبنى الاجتماعية والسياسية الأكبر منها، فبينما يقدّم الفيلم قصةً حميمةً عن علاقة المخرجة بوالدها في أيامه الأخيرة، لا يمكن تجاهل كيف أثرت الأحداث السياسية والاجتماعية على هذه العلاقة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image