تتسم الموسيقى بالقدرة على قلب مزاجنا رأساً على عقب، زيادة معدل دقات القلب، اختبار "النشوة الجلدية" وجَعْلنا نبحر في عالم بعيد كل البعد عن واقعنا وروتيننا، فكيف بالحري إن كنّا نستمع لأغنية صاخبة وأداء مبهر يجعل الحماس يدبّ في نفوسنا؟
من الصعب مثلاً الاستماع إلى أداء المغني الشهير جايمس براون، الملقب بعراب الروح Godfather of Soul ونبقى جالسين على مقاعدنا، فبمجرد أن تصدح حنجرة براون، يشعر المرء بالرغبة في الرقص والقفز بسبب موسيقاه الممتعة وعروضه المدهشة التي كانت تعكس حيويته الزائدة وقدرته على جذب الجمهور بسرعة قياسية.
ومع ذلك، يبدو أن هناك شيئاً كامناً وراء الكلمات الجذابة والأداء المبهر، أشبه بالتنويم المغناطيسي الذي يجعل البعض يتصرف بشكل غريب، وهو ما يجعل بعض الخبراء يعتبرون أن الموسيقى الصاخبة قادرة على التلاعب بعقول الناس.
التلاعب بالناس
من الواضح أن الموسيقى هي مجرد واحدة من العوامل التي تؤثر بشكل كبير على سلوكنا، وفق ما توضح نعومي زيف، عالمة نفس في كلية الدراسات الأكاديمية الإدارية في ريشون لتسيون، لموقع بي بي سي: "في الحياة الواقعية، تُستخدم الموسيقى للتلاعب بالناس بشتّى أنواع الطرق"، معتبرة أن بعض أنواع الموسيقى سلبية لكونها قادرة على "جعل الناس أكثر امتثالاً وعدوانية وحتى عنصرية"، وفق تعبيرها.
في العام 2011، وجدت الباحثة زيف أنه لدى الموسيقى القدرة على تغيير الأحكام الأخلاقية للناس. فقد طلبت من مجموعة من المتطوعين الاستماع إلى إعلان إذاعي خيالي لموقع إلكتروني زعم أنه قادر على إنشاء مستندات مزورة حتى يتمكن الأشخاص من الحصول على معاش تقاعدي أعلى.
يبدو أن هناك شيئاً كامناً وراء الكلمات الجذابة والأداء المبهر، أشبه بالتنويم المغناطيسي الذي يجعل البعض يتصرف بشكل غريب، وهو ما يجعل بعض الخبراء يعتبرون أن الموسيقى الصاخبة قادرة على التلاعب بعقول الناس
نصف الذين استمعوا إلى الإعلان استمعوا أيضاً إلى أليغرو لموزارت من A Little Night Music، في حين أن النصف الآخر لم يكن يستمع إلى الموسيقى.
وبالمثل، طُلب من مجموعة منفصلة الاستماع إلى إعلان آخر، يصف كيف يمكن للمشاركين الغش في ورقة ندوة للكلية باستخدام موقع إلكتروني.
ونصف الذين استمعوا إلى الإعلان استمعوا أيضاً لأغنية جيمس براون (I Feel Good) وهو يلعب في الخلفية.
في كلتا الحالتين، تبيّن أن أولئك الذين استمعوا إلى الإعلان مع موسيقى في الخلفية، كانوا أكثر ميلاً إلى تقبل السلوك غير الأخلاقي والغش الذي يتم تشجيعه في الإعلانات.
دفعت مجموعة أخرى من الدراسات، نُشرت في مجلة Psychology of Music، المشاركين إلى أبعد من ذلك، من خلال مطالبتهم بأن يكونوا قساة مع إنسان آخر.
هذه المرة طلبت نعومي زيف وفريقها من المشتركين أن يقدموا لهم معروفاً بعد الانتهاء من اختبار القواعد أثناء الاستماع إلى الموسيقى في الخلفية. سمع البعض أغنية جيمس براون الشهيرة، والبعض الآخر لعب رقصة إسبانية تسمى Suavemente للمغني إلفيس كريسبو، في حين لم تسمع المجموعة الأخرى أي موسيقى على الإطلاق.
أثناء تشغيل الموسيقى، طلب الباحثون من بعض المشاركين الاتصال بطالبة تحتاج إلى المشاركة في الدراسة لكسب أرصدة لإكمال الدورة التدريبية، وإخبارها ببرودة أنها لم تعد قادرة على المشاركة، في حين طُلب من مجموعة أخرى إخبار طالبة فاتها الفصل الدراسي الماضي بسبب المرض أنهم لم يتمكنوا من الحصول على مادة الدورة التي وعدوها بها.
النتيجة: غالبية الأفراد الذين لم يستمعوا للموسيقى رفضوا تنفيذ ما طلبه العلماء، وهو أمر لا يثير الدهشة، بخاصة وأنه ما من أحد يريد أن يقوم بعمل قد يضر شخصاً آخر. ومع ذلك، وجدت زيف أنه في الاختبار الأول، وافق 65% من أولئك الذين استمعوا إلى الموسيقى في الخلفية على فعل ما طلبه الباحثون، في حين أنه في الاختبار الثاني، وافق 82% على تنفيذ التعليمات: "لقد كان الأمر مروعاً للغاية. طُلب منهم فعل شيء ينطوي على إيذاء شخص آخر، وقال الكثير منهم إنهم سيفعلون ذلك"، بحسب ما قالت زيف.
إذن ما الذي يحدث عندما يستمع الناس إلى أغاني جيمس براون الصاخبة؟
تعتقد زيف أن الإجابة تكمن في ما يحدث لشخصيتنا عندما نكون سعداء: "أظهرت بعض الأبحاث في الماضي أنه عندما نكون في مزاج جيّد، فإننا نوافق على المزيد من الأمور ونعالج المعلومات بشكل أقل صرامة"، مشيرة إلى أن الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب هم أكثر تحليلاً ومن الصعب إقناعهم بسهولة.
وأوضحت نعومي أن "موسيقى عيد الميلاد هي مثال قوي لقدرة الموسيقى السعيدة على جعل الناس أكثر امتثالاً"، وهو ما يجعل البعض يولي أهمية خاصة للموسيقى التي يتم تشغيلها في مراكز التسوق والإعلانات لتهيئة الجو المناسب وجعل الأفراد يتخذون خيارات معيّنة.
ماذا يحدث للدماغ عند تشغيل الموسيقى؟
يمكن أن تؤثر بعض الميزات في الموسيقى على الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، بحيث يمكن للأصوات الإيقاعية، على سبيل المثال، تنسيق سلوكيات وطرق تفكير مجموعة من الناس.
في هذا الصدد، وجدت أنيت شيرمر، عالمة الأعصاب في جامعة سنغافورة، أن عزف الإيقاع على طبلة يمكن أن يتسبب في تزامن الموجات الدماغية مع الإيقاع نفسه.
قد تساعد النتائج التي توصلت إليها شيرمر في تفسير سبب لعب الطبول مثل هذا الدور الكبير في الاحتفالات القبلية، ولماذا تسير الجيوش على صوت قرع الطبول: "الإيقاع يجذب كل الأفراد في مجموعة بحيث يصبح تفكيرهم وتصرفاتهم متماشياً بشكل مؤقت".
وبدورها، تشير نعومي زيف إلى العنف الذي يصدر عن بعض مشجعي كرة القدم والدور الذي يمكن أن تلعبه أغاني الفريق في ذلك: "يمكن للموسيقى أن تخلق شعوراً بالتماسك الجماعي والاتفاق"، وتابعت بالقول: "عندما يفعل الناس الأشياء معاً، فمن الأرجح أن يتفقوا مع بعضهم البعض. وهذا يؤدي إلى شيء يسمى التفكير الجماعي، حيث يمكن أن يكون هناك تدهور في الحكم الأخلاقي".
هذا وتعتبر زيف ان الموسيقى يمكن أن تلعب دوراً في عملية التصويت في الإنتخابات: "تُستخدم الموسيقى في السياسة طوال الوقت لإثارة الحماس للأفكار وللتوصل إلى اتفاق".
بعض أنواع الموسيقى سلبية لكونها قادرة على "جعل الناس أكثر امتثالاً وعدوانية وحتى عنصرية"
يوافق جيسون ماكوي، عالم الموسيقى في جامعة دالاس بابتيست في تكساس، على أن الموسيقى تساعد على "تطبيع السرد" للرسائل غير الأخلاقية، مستنداً إلى أمثلة في التاريخ، كقيام النازيين مثلاً ببث موسيقى معيّنة على الراديو لجعل المزيد من الشباب يتابعون الرسائل الدعائية التي رافقتها.
مع العلم بأن ماكوي فحص بنفسه الدور الذي لعبته الموسيقى في جعل رسائل الكراهية التي بثت على الراديو، أثناء الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، تبدو أكثر قبولاً بالنسبة إلى المستمعين/ات.
وفي السياق نفسه، تجري نعومي زيف حالياً بحثاً حول كيف يمكن للموسيقى الوطنية والأناشيد الوطنية أن تزيد من المواقف العنصرية والعداء تجاه الآخرين، فقد وجدت أن الاستماع إلى الأغاني التي تمدح شجاعة الجنود الإسرائيليين، جعلت المشاركين الإسرائيليين أكثر عدائية تجاه الفلسطينيين، على سبيل المثال.
الجانب الآخر
كما أشرنا في السابق، هناك اعتقاد قديم عزّزته بعض الدراسات بأن موسيقى الراب والميتال والأغاني الصاخبة لبعض الفنانين/ات يمكن أن تحرّض على السلوك العنيف.
ولكن على الرغم من اكتسابها السمعة السيئة، يقترح علماء النفس في جامعة كوينزلاند في أستراليا أن موسيقى الميتال، التي تنتشر بشكل كبير في أوساط المراهقين وجيل الشباب في جميع أنحاء العالم، قد تخفف في الواقع من جرعة الغضب لدى المستمعين/ات.
وفي التفاصيل، أثارت الباحثة جينيفيف دينغل وزملاؤها غضب الناس عمداً من خلال الطلب منهم التحدث عن حدث أو موقف شارك فيه صديق أو زميل لهم وأثار غضبهم، قبل السماح لهم بالاستماع إلى موسيقى الميتال القوية.
بعد الاستماع إلى الموسيقى، أبلغ المشاركون عن مشاعر إيجابية أكثر بكثير من أولئك الذين جلسوا في صمت، ولم يستمعوا إلى الموسيقى.
وتعليقاً على هذه النقطة، قالت دينغل: "قد يمثل الاستماع إلى الموسيقى المتطرفة طريقة صحية لمعالجة الغضب لدى هؤلاء المستمعين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...