شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
باروميتر الهَلَع

باروميتر الهَلَع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 2 سبتمبر 201903:45 م

البارحة، لم يُصَب الإسرائيليون وحدهم بالهلَع. مواكب سيارات أبناء الجنوب اللبناني المحمّلة بهلِعين أرعبهم احتمال اختبار التجربة التي عاشوها عام 2006 مجدداً، عندما تقطّعت بهم السبل في قراهم وظلوا أياماً عدة محاصَرين تحت خطر القصف الإسرائيلي، كانت جزءاً أساسياً من المشهد.

الهلَع. هو وصف مستخدَم بغباء وينتشي باستخدامه لبنانيون وغير لبنانيين عندما يرددون أن الإسرائيليين، جنوداً ومدنيين أصيبوا به، بينما هم لا يهلعون، ولا شيء يسبب لهم الهلَع. لا يعرفون أن هذا الشعور من الضروري أن يكون طبيعياً وأن يشعر به كل إنسان، وإلا عليه الوقوف والتساؤل عن أسباب غيابه.

لماذا ندّعي أننا لا نصاب بالهلع؟ لماذا نجرّد أنفسنا أو يحاول بعض المتحمسين تجريدنا من شعور إنساني طبيعي؟ ألا يعرف هؤلاء أن معنى ذلك أن الإسرائيليين لديهم ما يخسرونه ويعيشون حياة مستقرة ولذلك تسبب لهم التوترات الأمنية الهلع، بينما نحن "الأقوياء" لا نهلع لأن لا شيء لدينا لنخسره، وحتى حيواتنا صارت رخيصة ولم نعد نأبه لخسارتها في معركة قادمة.

سيأتي مَن يقول: لا. المعادلة ليست كذلك. نحن لدينا قناعات تقينا من الهلع. وهْم الأيديولوجيا قوي. وعلى الأرجح، لا يعرف هذا القائل أن "قناعاته" هي من نوع لا يتولّد إلا في ذهن مَن صارت حياته، لبؤسها، تكاد لا تختلف كثيراً عن الموت.

لنفكر في عبارات شائعة. "رأس المال جبان"، "التجار جبناء"... من أين أتت؟ أليس واضحاً أن مَن يمتلك شيئاً يخاف؟ حسناً. لنفكر في أفكار أخرى شائعة أيضاً. كم مرّة سمعنا عن شاب تغيّرت شخصيته ولم يعد مغامراً بعدما رُزق بطفل. ابحثوا في ما نقوله يومياً في أحاديثنا العادية. ستجدون في ثقافتنا عشرات الأمثلة التي توضح مَن هو الذي يخاف ومَن الذي لا يخاف.

هذه الطبقة الأولى من المسألة. هنالك طبقة أخرى أعمق أسفلها.

مَن يدّعي أنه لا يخاف ولا يصيبه الهلَع يخاف ويهلع أيضاً. كل "الأقوياء" يتحدثون في جلساتهم الخاصة مع المقرّبين عن الخوف، حتى ولو حاولوا تحوير مشاعرهم وتغليف الأمر بأنهم يخافون على المحيطين بهم لا على أنفسهم. هؤلاء يهوون لعب دور البطولة على وسائل التواصل الاجتماعي فقط لا غير لأن أداء هذا الدور في العلن هو جزء من ثقافة التملّق للقوي.

في الحقيقة كل إنسان لديه شيء ما يخسره وبالتالي يخاف.

جغرافيا الهلَع

ساعتان عصيبتان عاشهما في الأول من سبتمبر أبناء قرى جنوب لبنان الحدودية مع إسرائيل.

مباشرة بعد إطلاق حزب الله صاروخاً موجهاً (أو صواريخ) على آلية إسرائيلية في مستعمرة أفيفيم (مشيّدة على جزء من أراضي قرية صلحا)، ردّت إسرائيل بإطلاق عشرات القذائف (40 بحسب الجيش اللبناني و100 بحسب الجيش الإسرائيلي) على خراج ثلاث بلدات جنوبية محيطة بالمستعمرة.

أكثر مَن أصيبوا بالهلع هم أبناء هذه القرى الثلاث، رغم أن القذائف لم تتساقط بين بيوتهم كما في عام 2006. صوتها "البعيد" أحيا في داخلهم ذكريات قاسية.

هنالك جغرافيا للهلع. بعد هؤلاء القريبين من النيران يأتي دور أبناء القرى الحدودية الأخرى الذين لا تزال ذكريات حرب 2006 حاضرة في أذهانهم. وهذا طبيعي. فهذه القرى تقع ضمن مدى المدفعية الإسرائيلية، أي ضمن مدى القصف الكثيف وغير الدقيق، ولذلك يعاني سكانها أكثر من غيرهم في حال اندلاع حرب.

إذا توجهنا من الجنوب شمالاً، كلما ابتعدَت القرية اللبنانية قليلاً عن الحدود يزيد مستوى "البطولة" لدى أبنائها. فهؤلاء يستطيعون الانتظار أكثر لمراقبة الأمور ويمكنهم تأجيل اتخاذ قرارهم بالنزوح إلى ما بعد نزوح أبناء شريط القرى الحدودية، خاصةً أن الأخيرين سيمرّون من قراهم وسيرونهم بأم أعينهم.

عام 2006، كان أبناء القرى البعيدة بضعة عشرات من الكيلومترات عن الحدود يتندّرون على مواكب الفارين من قراهم الحدودية. ولكن تندرهم سرعان ما انقلب إلى هلَع عندما راحت الطائرات الإسرائيلية تضرب أهدافاً في مناطقهم، وتقطعت الطرق الضرورية لوصول الطعام والخدمات إليهم من بيروت. فرّوا بدورهم هلعين.

وحدهم البعيدون عن الجنوب هم مَن يستطيعون الاستمرار في ادعاء عدم الخوف. فأساساً، لا شيء يسبب لهم الخوف. هم في منأى عن الخطر المباشر، وفي الحروب، يكونون إلى حد بعيد مراقبين فقط.

هكذا هو الأمر. المسألة بسيطة جداً. كلما كنت قريباً من الخطر كلما كنت ستصاب بالهلع في وقت أسرع. وكلما زادت الأمور التي تمتلكها وتخاف من خسارتها كلما كنت ستكره الحرب أكثر وستخاف من احتمال وقوعها.

خيارات الهلِعين

من المنطقي الافتراض أن سكان شمال إسرائيل يصابون بالهلع أكثر من سكان جنوب لبنان. بعكسهم، لا يعيشون التوتر يومياً لأسباب كثيرة ومختلفة. تقريباً، فقط الحرب تقلقهم.

ولكن المأساوي في هذه المقارنة أن الجنوبيين أسرع إلى النزوح.

بعد التوتر الأخير على الحدود ماذا يمكن أن يُقال؟ لا شيء جديداً. بضعة أفكار قديمة... حياة الناس وأمنهم وأمانهم هي الأساس ولا يمكن القبول باعتبار موتهم في حرب قد تأتي أضراراً جانبية
لماذا ندّعي أننا لا نصاب بالهلع؟ لماذا نجرّد أنفسنا أو يحاول بعض المتحمسين تجريدنا من شعور إنساني طبيعي؟

في ساعتي التوتر طُلب من المستوطنين الذين يقطون ضمن شعاع أربعة كيلومترات من حدود لبنان البقاء في منازلهم وطُلب من السلطات المحلية أن تتحضّر لفتح الملاجئ.

هؤلاء الإسرائيليون لديهم القدرة على البقاء في منازلهم لأن أسلحة حزب الله لا تستطيع إلحاق الدمار الشديد بها (مشهد منازل المستوطنات القريبة من لبنان وغير المتضررة كان لافتاً للجنوبيين عندما عادوا إلى قراهم المدمرة بعد حرب 2006)، وبحال تعقّدت الأمور يستطيعون الانتقال إلى ملاجئ مجهزة لاستقبالهم. ولو تعقّدت الأمور أكثر ستأتي حافلات لتقلهم إلى مناطق أبعد.

الجنوبيون لا يمتلكون شيئاً من ذلك. المدفعية الإسرائيلية فتّاكة ويعرفون ما يعنيه ذلك، ولا يوجد أي ملجأ في كل الجنوب ليستقبلهم ويقيهم من الخطر، وإذا سيطروا على هلعهم وأجّلوا نزوحهم ستتقطّع بهم السبل لأن غارات الطائرات الإسرائيلية ستقطع الطرق التي تصل بين القرى والبلدات.

أجل. هذا هو واقع الحال. يمكن لأي كان إنكاره ولكن ليتحمّل مسؤولية الدم الذي تسيله ثقافة الإنكار ورطانة "العنتريات".

دروس من حالات الهَلع

كل الأفكار حول الشؤون اللبنانية مكررة وصارت إعادتها تسبب الملل. المشاكل هي نفسها ومن الطبيعي ألا يتطوّر خطاب المطالبة بحلها.

بعد التوتر الأخير على الحدود ماذا يمكن أن يُقال؟ لا شيء جديداً. بضعة أفكار قديمة.

في الحالة اللبنانية، "المقاومة" تحتاج إلى بنية متكاملة متعددة الأبعاد، ليس التسلّح إلا واحداً منها. اللبنانيون لا زالوا يستخدمون مصطلح "المقاومة" لوصف حزب الله رغم سقوطه مفهومياً. الحديث الدائر منذ عام 2000 هو عن استراتيجية دفاعية طويلة الأمد لها مكوّنات مختلفة، يعني عن حالة تنظيم كلاسيكي لمهمات الدفاع عن الدولة وليس عن ردة فعل تلقائية ضد جيش غازٍ.

في بنية "المقاومة"، وهي بتعبير أدق البنية الضرورية في دولة تعيش حالة صراع مع دولة جارة، لا يمكن عدم الأخذ بعين الاعتبار أمن المدنيين وضرورة الحفاظ على حياتهم، في حالات التوتر، عبر بناء شبكة ملاجئ يمكن أن يحتموا بها ووضع خطط طوارئ لإجلائهم، وأمور كثيرة أخرى.

بدون ذلك، كل ما يحصل هو مقامرة بحياة الناس، وهذا ملف يجب أن يُفتح على مصراعيه الآن قبل فوات الأوان.

حياة الناس وأمنهم وأمانهم هي الأساس ولا يمكن القبول باعتبار موتهم في حرب قد تأتي أضراراً جانبية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image