شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أي ورطة وضعتني فيها مهنة الصّحافة في مصر هذا الزمن؟

أي ورطة وضعتني فيها مهنة الصّحافة في مصر هذا الزمن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 13 يونيو 201902:39 م
Read in English:

My Predicament as a Journalist in Today’s Egypt

هل تلك هي المهنة التي قضيتُ عمري أحلم بالانتماء إليها، رفضتُ غيرها وأخلصتُ لها، لماذا قابلتني بالإنكار والجحود؟ يطلبون مني أن أبدع، أفكّر، أتوقّع ما وراء الخبر، أكون حاضراً بذهنٍ صافٍ وقلمٍ مستعدٍّ للكتابة، وأنا أساساً أفكّر: هل أنزل من البيت أم لا؟ الذهاب للعمل يعني أجرة مواصلات وطعام وشرب شاي، الراتب متأخّر بعد أن تمَّ تخفيضه للنصف، كيف سيمرّ هذا الشهر؟ لي بيت وأسرة، وهل سأضطرّ للاقتراض من أبي، ثم عن أيِّ إبداعٍ نتحّدث؟ كلّ أفكاري في نطاق المحظور، ليس لأنني معارض، بل لأن أيّ وجهة نظرٍ غير مسموحٍ بها، الحرية تعوّض ضيق العيش، لكن لا حرية ولا عيش، صعب التخلي عن عمل أنت تحبّه، أيُّ ورطةٍ وضعتني فيها الصحافة؟

ما سبق خاطرةٌ كتبتها في نوفمبر 2018، الهموم زادت منذ ذلك الوقت، لكن كيف وصلت إلى هذه الدرجة؟ لم يكن الأمر حالةً فردية، رغم هذا البؤس فأنا أفضل حالاً من كثيرين، ماذا حدث في السنوات الأخيرة؟

بدأت عملي في إحدى الصحف صاحبة موقعٍ إلكتروني منتشر، أتذكّر تلك الفترة ومصر تئنُّ تحت حكم الإخوان المسلمين، وقتها كانت لنا قضية بحقّ، دافعنا عنها وهاجمنا محمد مرسي عن قناعة، ولازلت رافضاً لأيِّ تيارٍ ديني، لكن ما ظنناه حرية كان مقصوداً، لم نكن أحراراً بإرادتنا، هذا ما أدركته الآن، المثير للشفقة أن راتبي في ذلك الوقت لم يختلف عن راتبي في الوقت الحالي، رغم قرارات التعويم وارتفاع الأسعار، الراتب ثابت رغم أن كلَّ شيء متغيّر، في 2013 كان راتبي جيداً وأستطيع قول ما أريد في نطاق المسؤوليّة والالتزام بالقوانين ، ولأن ما حدث طويلٌ ومعقّدٌ يمكن تلخيصه في نقاطٍ موجزة:

كلّ مرّة يسقط جزءٌ من أحلامي، وكلّ مرّة أيضاً يتدهور حال الصحفيين... ولكن، لست وحدي.

أوّلاً، البداية في بيان 3 يوليو 2013، يوم عَزْل محمد مرسي وتعيّين عدلي منصور رئيساً مؤقتاً، كانت التعليمات الأوليّة أنه لا حديثاً سلبيّاً عما يحدث، التعليمات كانت شفويّة دون أيّ دليل.

ثانياً، في أغسطس 2014 وفي إحدى اللقاءات أعلن السيسي أن الراحل جمال عبد الناصر "محظوظٌ بإعلامه" في إشارة إلى عدم الرضا عمّا يحدث في الساحة الإعلاميّة.

ثالثاً، في العام 2015، صدر قانون "مكافحة الإرهاب" والذي خُصِّص جزء منه للتغطية الإعلاميّة لكلِّ ما يتعلّق بالأعمال الإرهابيّة، واضعاً السجن لمدّة عامين كحدٍّ أدنى للصحفيّين، في حالة نشر أخبارٍ تخالف البيانات الرسميّة، ومع تصاعد نبرة الاحتجاج ضدّ القانون، تمّ تعديل العقوبة لتصبح غرامةً ماليّةً كبيرة اعتبرتها نقابة الصحفيين وقتها سجناً من نوعٍ آخر، في ظلِّ عدم قدرة الصحفيين الماليّة على دفع الغرامات، ناهيك عن أن قانون 96 للصحافة يحظّر نشر أيّ أخبارٍ تتعلّق بالأمن القومي إلا بموافقةٍ كتابيّة.

رابعاً، في العام 2016 وإثر احتماء الصحفي عمرو بدر بنقابة الصحفيين، حتى لا يتمّ حبسه دون محاسبةٍ قانونيّة، اقتحمت قوةٌ من وزارة الداخليّة نقابة الصحفيين في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، وعلى إثرها انتفض الصحفيون وتمّ التصعيد ضدّ وزير الداخليّة، وانتهت الأزمة باحتجاز نقيب الصحفيين لأوّل مرّة في التاريخ أيضاً، ومن ثم إعلان الغضب على الجماعة الصحفيّة، وحدث ما يشبه القطيعة مع مؤسّسات الدولة.

مع تدشين إعلام المصرييّن والاستحواذ على السوق الإعلامي وعمليات الدمج بين الصحف، تمّ تشريد مئات الصحفيّين.

خامساً، منذ بداية 2016، ومع تدشين شركة إعلام المصريين المقرّبة من السلطة، تمّ اتباع سياسة دمج المواقع الإخباريّة والصحف، لتصبح كلّها في إدارةٍ واحدةٍ، وشمل الدمج مواقع وصحفاً مثل "اليوم السابع - صوت الأمة - دوت مصر - عين" بجانب قنوات "أون تي في" التي تحوّلت لـ"أون"، وشبكة قنوات الحياة، وتدشين شبكة قنوات دي أم سي لتصبح إعلام المصريين، صاحب النصيب الأكبر من الإعلام المصري.

سادساً، ما تبقّى من وسائل الإعلام كانت "المصري اليوم" لصاحبها صلاح دياب الذي اتُهم بعدّة قضايا إثر موقف جريدته المعارض، والتي سكتت بعد ما تعرّض له دياب، و"فيتو" و"مصراوي" لنجيب ساويرس، وتمّ فرض الوصاية عليهم من خلال القواعد الصارمة للموضوعات غير المحبّذ نشرها.

سابعاً، في 2017 حجبت مصر 21 موقعاً إخبارياً بدعوى مواجهة الإرهاب في البداية، واستمرّت تلك الآلية التي لم تظهر إلّا في العصر الحالي، ليصل عدد المواقع المحجوبة، وفق بعض التقديرات، إلى 500 موقع، معظمها مواقع إخباريّة.

ثامناً، في 2019 صدرت لائحة المجلس الأعلى للإعلام بقوانين أشدّ صرامة تمنع أي صحفي من العمل بمهنية، وشملت العقوبات سحب ترخيص الجريدة أو الموقع الإلكتروني.

تاسعاً، بجانب تلك الإجراءات، كانت هناك إغراءات لبعض الإعلاميين للتطبيل للدولة، بالإضافة إلى المكالمات الهاتفيّة اليوميّة بتعليماتٍ مباشرة عما يجب تناوله في الإعلام وما يجب تجاهله تماماً.

 مع كلّ تضيّيقٍ وقانونٍ لمحاصرة العمل الصحفي والموضوعات التي بات محظورٌ تداولها والشخصيات الممنوع الاقتراب منهم، تراجعت الموضوعات الصحفيّة، وحرية الحركة وتناول الأحداث، وبات الناس يتحدّثون في وادٍ ونحن في وادٍ آخر.

ليس الحظر من الدولة فقط، أيّ مؤسّسة صحفيّة ستمنع أحد صحفيها من الحديث عن مواضيع محظورة، لأن هذا يسيء لها، ومن يفعلها قد لا يجد موطئاً لكسب العيش...

ونتيجة كلّ هذا حدث التالي:

أوّلًا، مع كلّ تضيّيقٍ وقانونٍ لمحاصرة العمل الصحفي والموضوعات التي بات محظورٌ تداولها والشخصيات الممنوع الاقتراب منهم، تراجعت الموضوعات الصحفيّة، وحرية الحركة وتناول الأحداث، وبات الناس يتحدّثون في وادٍ ونحن في وادٍ آخر مجبرين، والنتيجة ملل القرّاء وعدم متابعة ما يُكتب، ومن هنا وجدت شريحةٌ كبيرةُ ضالّتها في المواقع غير المصريّة والقنوات الخارجيّة.

ثانياً، مع تدشين إعلام المصرييّن والاستحواذ على السوق الإعلامي وعمليات الدمج بين الصحف، تمّ تشريد مئات الصحفيّين، وبات لا يوجد مكان لهم، ومع قرارات حجب المواقع الإخباريّة اضطرَّ كثيرون منهم لتخفيض العمالة إلى النصف تقريباً.

ثالثاً، الاستحواذ على السوق الإعلامي أيضاً انعكس على الإعلانات والتي تعدّ المورد الرئيسي لتمويل معظم الصحف في مصر، وبما أن هناك إعلام مُقرّب من السلطة، فإن رجال الأعمال هرولوا للإعلان في تلك الصحف، عكس الوسائل المستقلّة، ونتيجة ذلك قامت المؤسّسات الصحفيّة بالتصفية المستمرّة، ثمّ تخفيض الأجور إلى النصف، ورغم قسوة الإجراءات لكن البديل كان الإغلاق والجلوس في البيت، ورضينا صاغرين.

رابعاً، سخافة ما ننشره من موضوعاتٍ صحفيّة وملل القرّاء كما أشرت، أديا إلى تراجع القراءات في عددٍ من المواقع الإخباريّة، هذا بدوره تمّ ترجمته إلى تراجعٍ في العائد المالي من تلك القراءات، بجانب فقدان المصداقيّة، وهو ما يعني زيادة الأزمة.

خامساً، في هذا الجو المشحون بالجنون، أغلقت عدّة وكالات عالميّة مكاتبها في القاهرة، أو على الأقلّ تراجعت كثافة التعامل مع الصحفيين المصريين، وتلك المنافذ كانت وسيلةً جيدةً لمواجهة تحديات العيش، من خلال المال، أو تحديات الإحباط، من خلال حرية الكتابة.

مواصلة سقوط أجزاء من أحلامي

كلّ ما سبق حدث لي بتفاصيل كثيرة، وكلّ مرّة يسقط جزءٌ من أحلامي، وكلّ مرّة أيضاً يتدهور حال الصحفيين... لست وحدي، على الأقلّ أنا لم أمتهن غير الصحافة حتى الآن، لدي أصدقاء دفعتهم التزاماتهم للعمل كسائقين، آخرون اتجهوا للمشروعات الاستثماريّة، مثل فتح مقهى أو محلّ أدوات مكتبيّة، وبات كلّ منا يحلم بقضاء نهاية الشهر دون الاقتراض أو إغلاق جريدته.

كلّ ما سبق كان يمكن نشره في عصر مبارك، لكن الآن لا أستطيع، وليس الحظر من الدولة فقط، أيّ مؤسّسة صحفيّة ستمنع أحد صحفيها من الحديث هكذا، لأن هذا يسيء لها، ومن يفعلها قد لا يجد موطئاً لكسب العيش... و"أهو ده اللي صار".

*يُنشر المقال باسمٍ مستعار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image