شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
العراقيون وجلد الذات... ضحايا يوجّهون أصابع الاتّهام إلى وجوههم

العراقيون وجلد الذات... ضحايا يوجّهون أصابع الاتّهام إلى وجوههم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 7 مايو 202112:13 م

ربما في تاكسي أو سيارة نقل جماعي، أو على كنبة في مقهى ما، أو، لا أعرف أين ومتى بالضبط كانت المرة الأولى، ولا أعرف كَمْ من المرات تكررت على مسمعي تلك الفكرة المؤلمة: الناس تغيّرت، وكلُّ ما يصيبنا من موت وخراب نتيجة طبيعية لما تصنعه أيدينا.

على مضمارٍ أتخيّلُه، يجري العراقيون في سباق مع أنفسهم للفوز بالخيبة، ويجتهدون لتصدّر الأولين والآخرين في جلد الذات. أتخيلُ أيضاً أن في الذهنية العراقية مغناطيساً كبيراً يجذب كل لومِ الوجود.

لا تغيب عن ذاكرتي ملامح جارنا المسيحي "أبو عبير" وهو يحمّلُ نفسه أوزار ما أصاب عائلته. يجلد ذاته لأن انفجاراً قتل ابنه، ويلومها لأن تنظيم داعش والميليشيات تناوبوا على الاستحواذ على أملاكهم في إحدى مدنِ محافظة نينوى، 465 كيلومتراً شمال بغداد، ثم يحمّل نفسه مسؤولية تردي الحالة الاقتصادية التي تعاني منها عائلته.

كثيرون مثل "أبو عبير" تطول قائمة مآسيهم ويحشرون أنفسهم في خانة المسبّب والمسؤول، ويختصرون على السلطة عناءَ خلق هذا التصوّر لأنه، بالضبط، ما يتمناه أيُّ حاكم.

يرى الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون أن الجماهير ترفض الأفكار أو تقبلها بكليتها، من دون أن تتحمل مناقشتها. وكثيرون من العراقيين، كطيفٍ كبيرٍ من المجتمع العربي، يقبلون، كلياً، فكرة أنّهم السبب وراء خراب حياتهم، دون النظر إلى سلوك السلطات المتعاقبة وجسامة أخطائها.

يلومُ العراقيون الموظفَ الصغير الذي يتلقى الرشوة مقابل أداء واجبه، دون أن يلوموا عَوَرَ أجهزة الرقابة الحكومية، وهي كثيرة، ودون أن تحاسب ذهنيتُهم سياسيي هذا النظام الغارق في الفساد، وإذا تجرأ أحدٌ وساءلَ المسؤول الحقيقي، يرتدُّ عليه صوتُه بتحميله المسؤولية أو حتى بقتله.

في صيف عام 2015، حمّل وزير الكهرباء الأسبق قاسم الفهداوي، خلال لقاء تلفزيوني، المواطنين مسؤولية تدهور قطاع الطاقة الكهربائية بذريعة أنهم يشغّلون "الكيزر" (سخّان المياه الكهربائي) ما تسبب بتظاهرات غاضبة أُقيل على أثرها، علماً أن العراق أنفق على قطاع الكهرباء، منذ الغزو الأمريكي عام 2003، أكثر من 80 مليار دولار ولم يتحسّن شيء.

بعدها بعامٍ واحد، في 2016، دعا رجلُ الدين الشيعي جلال الدين الصغير، خلال إحدى خطبه، العراقيين لهجر "النستلة" ترشيداً للنفقات.

"تخلقُ الريعية مزاجاً مجتمعياً كسولاً حتى في التفكير وهذا ما ترتجيه السُلطات الشمولية، فلن يكون مريحاً بالنسبة إليها وجود صوت يُفكّر. وبالنظر إلى تاريخ الدولة العراقية الحديثة، سنجد أن هذا الصوت نادر"

يغزو ما يقوله الزعماء عقول الناس سريعاً فيحوّلونه حركةً وعملاً، ويتبنونه، خصوصاً إذا كان القائل زعيماً روحياً، وكانوا من الجماعة التي تنتمي إلى طائفته، فيرفعون ما يوحي به إليهم إلى مصاف المثال ثم يندفعون، بصورة إرادية، إلى الإيمان به والتضحية من أجله.

يتصف المجتمع العراقي بعاطفية مفرطة واندفاع وشراسة في الدفاع عمّا يتبنّاه. الأدوات ذاتُها التي يستخدمها في جلده لذاته، يلاقيها إذا ضاقت به السبلُ وانفجر على شكلٍ احتجاجيٍ مثلاً. سيلاقي في الجانب المقابل أدوات الحاكم والسلطة ذاتها: ردُّ اللوم على المجتمع وتحميله المسؤولية، وهذه المرة، إذا اقتضى الأمر، سيلاقي الرصاص وأطواراً من الموت أيضاً.

منذ عام 2011، بدأ العراقيون بالتجرّؤ والاحتجاج على السلطة التي جاءت بعد سقوط صدام حسين واحتلال العراق عام 2003. تجدد ذلك في 2015 ثم تفاقم، انطلاقاً من محافظة البصرة، حوالي 600 كيلومتر جنوب العاصمة بغداد، في صيف 2018 وانفجر على شكل احتجاجات جارفة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

"في حين تحتاج الديمقراطية تراكماً ثقافياً ومؤسسات تضمن إنفاذها، فإن ما حصل في العراق هو إلقاء طلاء الديمقراطية على كل شيء، ولا شيء من هذا الـ(كل) سالمٌ وناجٍ من الخراب"

في جميع هذه التجارب، بدأت السلطة بإيقاع لغوي ناعم يؤيد مطالب الناس، ثم يرتفع إلى مستوى إشراكهم بالمسؤولية، وينتهي في ما بعد بالقمع. حدث ذلك مع كل التجارب الاحتجاجية المطلبية إلّا في احتجاجات تشرين الأول 2019 التي رُدّت، منذ يومها الأول، برصاص القناصة وقنابل الغاز المهشمة للجماجم، إذ يُقدّر عدد شهدائها بأكثر من 700 ويتجاوزُ عدد مصابيها الـ20 ألفاً غير المفقودين من نشطائها والملاحقين والمهجّرين.

تختلف تشرين عن سابقاتها بتصويبها نحو الجذر: رفعت مطالب اقتلاع النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية واجتثاث قادته وأحزابه فقوبلت بالقتل والتشويه، وحيكت لها سيناريوهات، من قبل إعلام السلطة وأحزابها وقادتها، تنتهي بخيانة وتآمر المتظاهرين، وآتت أُكلها، إذ تغيّرت، مع الوقت، قناعات وآراء شريحةٍ ليست بالقليلة من المجتمع، حتى وصل الحال إلى تحميل المتظاهرين مسؤولية تفشي فايروس كورونا وتوسعة ثقب الأوزون.

لم توجد المجتمعات كما هي الآن. لم تصل المجتمعات في الدول "النموذجية" إلى ما هي عليه قبل أن تمرّ بكلِ ما مرّت به من تجارب وصولاً إلى العثور على النموذج الذي يضبطها ويسيّر حياتها، نموذج الدولة الحديثة والمؤسسات والقانون، وهو ما يفتقده العراق بشكل شبه تام، فهو خارج التصنيف العالمي لجودة التعليم، وخارج أغلب التصنيفات العالمية التي تقيس جودة أيّ شيء، وإذا وُجد، سيكون في ذيلها، وهذا بحد ذاته ما يشيّد أسواراً أمام المجتمع.

تتجاوز نسبة النمو السكاني في العراق 3% ويرتفع عدد سكانه بمعدل مليون نسمة في السنة. يتجاوزُ الآن الـ40 مليون نسمة، ويتوقع الجهاز المركزي للإحصاء أن يتجاوز الـ41 مليوناً العام المقبل، وهذا في ظل نُدرةِ الموارد وتراجعها، وأيضاً انهيار نموذج الدولة ومؤسساتها وريعيتها.

تخلقُ الريعية مزاجاً مجتمعياً كسولاً حتى في التفكير وهذا ما ترتجيه السُلطات الشمولية، فلن يكون مريحاً بالنسبة إليها وجود صوت يُفكّر. وبالنظر إلى تاريخ الدولة العراقية الحديثة، سنجد أن هذا الصوت نادر.

على مدى عقود، اختنق المجتمع العراقي بسلطات قمعية، تحظر عليه انتقادها أو التفكير بذلك حتى، وكانت حقبة حكم صدام حسين أوضح تجسيد لذلك، لكنها في النهاية انتهت، وجيء بعد عام 2003 بنموذج هجين ومشوّه دون تحقيق عدالة انتقالية، يرفع لافتة الديمقراطية، يرفعها فقط. في حين تحتاج الديمقراطية تراكماً ثقافياً ومؤسسات تضمن إنفاذها، فإن ما حصل في العراق هو إلقاء طلاء الديمقراطية على كل شيء، ولا شيء من هذا الـ(كل) سالمٌ وناجٍ من الخراب.

تعمل الأنظمة الديكتاتورية، بشكلٍ يبدو غير مقصود، على تأثيث ذهنية مجتمعاتها بفكرة مسؤوليتها عن خرابها، لكن في العراق جاء هذا النظام السياسي منذ 18 عاماً ووجد كلّ شيء مثلما يتمنى قادتُه: في التاكسيات وسيارات النقل الجماعي، في المقاهي والأحاديث، الجميع يُردد عبارة "الناس تغيّرت"، و"أبو عبير" يلوم نفسَه ويحمّلها مسؤولية خساراته وآلامه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image